بنفسج

اغتالوا المكتبة: فأطل لهم كنفاني حيًا

السبت 12 يونيو

هل رأيت كتابًا يُقصف؟ نعم، ورأيت مكتبات تُغتال، هذا ديدن الاحتلال منذ أن وُجِد، نهج المغول عندما لوّن الفرات بحبر مكتباتِ بغداد، وعنجهية القاتل أينما كان، يُطارد العلماء والكُتاب والمثقفين والأدباء والمفكرين والمؤرخين، أحياءً كانوا أم أمواتًا، يغتال عناقيد الحرية المسلوبة في حروفهم. سياسته؛ تهجير وتجويع وتجهيل الشعب الفلسطيني، صواريخ عدوانه الظالم تطال المخطوطات والروايات والشهادات الحيّة والقصص المؤرخة والحقائق العذراء، ولكن لن تطال الوعي والذاكرة، عبثًا تُحاوِل لا فنَاء لثائِر!

في العاشر من أيار/مايو تفتح "إسرائيل" نيرانها المسعورة على قطاع غزة، ومنذ أيامها الأولى يظهر جليًّا أن حربها لا تقتصر على البشر والحجر، ولأن المثقف الفلسطيني أنصت جيدًا لصوت باسل الأعرج وكلمته المأثورة: "بدّك تصير مثقف؟ لازم تكون مثقف مشتبك. ما بدك تصير مشتبك.. لا منك ولا من ثقافتك"، وبدأ يدق جدران الخزّان طارقًا بقوة، فهذه المرّة طالت استهدافاتها العنجهية، الكتب، نافذة الغزيين إلى العالم في مدينةٍ محاصرة، محيلةً خمس مكتبات فلسطينية، منها مكتبة سمير منصور، إلى ركام، في لحظاتٍ مرت كالصاعقة وبقي أثر دويّها خارقًا للذاكرة.

ثورة اشتعلت في مواقع التواصل الاجتماعي؛ آلاف التغريدات تصرخ في وجه المحتل رفضًا واحتجاجًا على فعلته النكراء باستهدافه للمكتبة التي ضمّت على رفوفها أحلام الشبان الخضراء، واستقبلت رواياتهم البِكر؛ لِتقف منتصبة بجانب مئات الأسماء العملاقة لكتّاب فلسطينيين وعرب وأجانب، وضمّت خطوات عشرات الزوار من القرّاء؛ فـوحدها أغلفة الكتب تحفظ كل الوجوه والنظرات الزاهية للقراء الشغوفين.

| ثورة تغريدات

الشاعر يامن نوباني يغرّد مُعلِقًا على نجاة كتاب "عائد إلى حيفا" للكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني: "قصفوا المكتبة، فأطلّ لهم غسان كنفاني حيًا، 49 عامًا وهم يحاولون قتله، لكنه بقيّ حيّا يقاتل بروحه ودمه وكلماته ونقاءه وبعودته الحتميّة إلى حيفا".

تشاركه الصحافية نجلاء نجم التغريد على مشهد الكتاب ذاته: "عُدتّ يا حبيبي غسّان، عدّت بالوقت الذي بكت فيه أرض البرتقال، ونادت فيه صفية على ظلّ حيفا، عدتّ يا حبيبي بالوقت الذي طرقنا فيه جدران الخزان، أجل لقد فعلناها، إننا نطرقه بعين الشمس، كي لا نموتَ موت سريرٍ حائرٍ يلفظُنا".

وتعود لتكتب: "باسمك يا الله، باسمك إذ كان أول الأمر منك "اقرأ"، وأنزلت في كتابك المحفوظ أمانًا اسمه "القلم". قد سعينا، وسرنا على نهج من سبقونا، بدأنا حرفًا حرفًا، فلا رُقيّ لأمةٍ لا تقرأ، قرأنا وبنينا بيوتًا تحفظُ إرثنا وطموحنا. واليومَ جاء عدوٌ على نهجِ التتار، يا لدناءته، قد أسفك قلبنا بهذا الحلم، القلبُ محزونّ، يا الله! لكنَّ الدعاء ما انقطع، والأمل ما قلّ".

الروائي أيمن العتوم غرّد قائلًا: "الاحتلال عدو العلم، بربريّ؛ مثلما فعل التتار بمكتبات بغداد، ومثلما فعلت محاكم التفتيش بمكتبات الأندلس، يفعل اليوم. إنّ وحشيته التي قتلت البشر، الشجر، والحجر، امتدت لتشمل الكتب. مكتبة سمير منصور العريقة المعروفة في غزة صارتْ أنقاضًا".

أما الكاتب أحمد مأمون: "هي أيضًا حرب تجهيل، في الأيام الأولى للعدوان قصف الاحتلال برج هنادي وراحت مكتبة الأمة العامة معها، المكتبة الاستثنائية في غزة التي ضمّت عشرات المؤلفات الحديثة، واليوم قُصِفت مكتبة سمير منصور وتحولت إلى ركام، وهي من المكتبات القليلة في غزة، سقطوا وسقطت ساعات بحثنا بين الأرفف".

مكتبة سمير.jpeg
كتاب غسان كنفاني ما بقى سليمًا فوق ركام سمير منصور

والناشطة المجتمعية نهال الصفطاوي تقول لــ"بنفسج": "مكتبة سمير منصور كانت بوابتي وزوجي للعالم بدون أي تصريح مرور أو منع إسرائيلي من العبور، كُنا نحتفي بالسفر ونحن في البلاد عندما نمر من خلال تلك البوابة الزجاجية التي كانت تُبهِرنا بتجدد عناوينها، آخر مرة زرناها عندما كافأنا أنفسنا، كالمعتاد، بعد أن استلمنا راتبنا الشهري لِنَفِر بأنفسنا لساعات بين زواياها المُعتّقة، ورائحة أرجاءها التي تُدغدِغ أرواحنا كل مرة".

تردف: "بقينا طويلًا على غير المعتاد كأنها تودعنا ولم نعِ ذلك. اليوم نراكِ يا حبيبة تحت الركام، تتناثر أفرعك على طوال الشارع ورائحة البارود تلتهم ما عشقناه من روائحك، أفكر في كل عنوان كان قابِعًا ينتظر يدانا لتتبناه ولم نفعل... ليتنا حملنا كل العناوين وهربنا قبل أن تحملها صواريخ قتلة الحياة".

| الأطفال رواة الغد

في العاشر من أيار/مايو تفتح "إسرائيل" نيرانها المسعورة على قطاع غزة، ومنذ أيامها الأولى يظهر جليًّا أن حربها لا تقتصر على البشر والحجر، ولأن المثقف الفلسطيني أنصت جيدًا لصوت باسل الأعرج وكلمته المأثورة: "بدّك تصير مثقف؟ لازم تكون مثقف مشتبك. ما بدك تصير مشتبك.. لا منك ولا من ثقافتك".
 
يظُن الاحتلال الإسرائيلي، واهمًا، أنه باستهدافه للكُتاب والصحفيين والنشطاء الفلسطينيين وإحراقه المكتبات الفلسطينية التي تُغذي الروح الحرة، يقطع شريان وصول الحقيقة إلى الأجيال القادمة، لكن ما لا يعرفه أنه بقتله كاتبًا يولد ألف كاتب.

يظُن الاحتلال الإسرائيلي، واهمًا، أنه باستهدافه للكُتاب والصحفيين والنشطاء الفلسطينيين وإحراقه المكتبات الفلسطينية التي تُغذي الروح الحرة، يقطع شريان وصول الحقيقة إلى الأجيال القادمة، لكن ما لا يعرفه أنه بقتله كاتبًا يولد ألف كاتب، وباغتياله لمكتبة اعتاد ارتيادها الأطفال مع آبائهم، يخلق من هؤلاء الأطفال رجالًا يُعيدون توثيق الحقائق وكتابة التاريخ كما يجب أن تُكتب.

تضيف الناشطة والأم نهال لـ "بنفسج": "لستُ ناشطة مجتمعية فحسب، بل أم لطفلين زرعت فيهما حُب الكتب، ولي أكثر من مقال ومجموعة تأملات حول الحياة، المشاعِر، الإنسان والإنسانية، الأمومة والكثير من أحاديث النَفس". ولطالما كانت نهال دومًا مُلهمة للكثير من الشابات المُبدِعات في القطاع ممن لهن أثر في المحيط، وبالمقام الأول لأطفالها، تؤكد: "مجرد إحاطة الأطفال من عمر صغير بالكتب ورؤيتهم لنا نقرأ بشكل دوري، فنحن نضع الطفل في بيئة جاذِبة يُقَلِد من خلالها عادة القراءة كطبع يغلب طباعه، بجانب اصطحابهم معنا كل فترة للمكتبات المحيطة، ومحاولة إتاحة الفرصة لهم لاختيار كتابهم الخاص يُمكّنهم من الانتماء للكتب ومصادقتها أكثر بجانب صنع علاقة وطيدة معها".

مكتبة سمير منصور.jpg
واجهة مكتبة سمير منصور قبل القصف وبعده

ولكن لماذا هذا الانتماء الأقوى لمكتبة سمير منصور؟ يأتي الجواب سريعًا: "العاملون فيها يسعون بكل الوسائل لإرضائنا، يبحثون معنا عن مبتغانا، وحتى لو لم يجدوا، كانوا يجرون اتصالاتهم لأكثر من مكان ليوفروا لنا كتابًا تعلقنا به أو عنوانًا جديدًا لم يمتلكوه هناك. بجانب استجابتهم السريعة لنا عن بعد أثناء فترات الحجر وظروف البلد الصعبة، وإرسالهم الكتب التي نطلبها حتى باب المنزل، كل هذا عَمّق انتماءنا لكل متعلقات هذا المكان."

تتابع نهال: "ويوم استهداف المكتبة ركض زوجي في البيت متجهًا نحوي وحاملًا هاتفه ليبلغني بالخبر المتناقل على وسائل الأنباء، كانت ملامحه ترتجف، وعندما اقترب وتفحصت الصورة وتأكدت أنها نفس المكتبة، صرخت: "يااااااااالله"، بصوت عالٍ، خرج من عمق روحي، ورددت: "حتى المكتبة!".

| مهنة الأجداد

مكتبة سمير1.jpg
صاحب مكتبة سمير منصور فوق ركام مكتبته

سمير منصور هذه المكتبة التي تحمل اسم صاحبها، وهي الأكثر شعبية في قطاع غزة وتتوسط فروعها كافة الأماكن الحيوية في المدينة الأجمل على الإطلاق، ويتجاوز عمرها العشرين عامًا، تكتظ بالكتب العربية، والأجنبية، والتاريخية، والثقافية، والعلمية، والفنيّة، والأدبية. يقول منصور لبنفسج: "المكتبة مهنة أجدادي، وقد توارثت حب الكتب أبًا عن جد، إن كل محاولات الاحتلال لتدميرنا فاشلة".

يردف: "قدرنا الخسائر بـ 700 ألف دولار تشمل الكتب والأجهزة وكل المقتنيات، لكن الخسائر الأغلى على الروح هي الكتب، سنين كدِّنا في جمع مئات المؤلفات الفلسطينية والعربية والإسلامية والأجنبية، إرثنا في البقاء، تعاقُدنا مع أكثر من 150 كاتب فلسطيني لنشر كتبهم، والكثير منها لم يزل قيد النشر بعد".

"إن ما حدث فرصة لأن نُعيد بناء عشرات المكتبات على غِرار مكتبة سمير منصور، ونُفهِم المحتل بأن أدواته لقتل الحياة فينا تُنبِت أضعاف الحياة، وتُنبهنا لمضاعفة أدوات بناء الفلسطيني والمُثَقف المُلتحم. وأن عُنصر الفِكر الذي يُسِهم الكتاب بشكل كبير في بنائه لا يقل أهمية عن القوة التي نُجابِه بما محتلينا.

لطالما كانت الخسائر في أحلام الكُتاب التي ضمّتها رفوف المكتبة، في فرحة هدايا الأمهات لأطفالهم، وهدايا المُحبين والأصدقاء القراء، لكن سمير منصور يؤكد أن مفاتيح المكتبة ما تزال في حوزته، ستعود المكتبة حتمًا، سنبني من الركام أحلامًا جديدة، وننشر شهادات كُتاب جدد، تدحض روايات الاحتلال الكاذبة، سننهض من تحت الأنقاض كما نهض غسان.

تحمل نهال رسالتها للفلسطيني قائلة: "إن ما حدث فرصة لأن نُعيد بناء عشرات المكتبات على غِرار مكتبة سمير منصور، ونُفهِم المحتل بأن أدواته لقتل الحياة فينا تُنبِت أضعاف الحياة، وتُنبهنا لمضاعفة أدوات بناء الفلسطيني والمُثَقف المُلتحم. وأن عُنصر الفِكر الذي يُسِهم الكتاب بشكل كبير في بنائه لا يقل أهمية عن القوة التي نُجابِه بما محتلينا، فلنعزز مكانة الكتب والمكتبات، ونُحيي فِكر الفلسطيني المُثقف".