بنفسج

المدينة المنورة... داخل المكان وخارج الزمان

الخميس 12 مايو

‫"المدينة حلوة كتير" هكذا كان يعلّق كلّ من ألاقيه وأخبره بأني سأزور المدينة، وأنا أبتسم وأهزّ رأسي وأتفاءل. وكنت في طريقي إليها قلقة من ردّة فعلي حين أصل، مثقلة بالمشاعر التي لا تسمح بالاسترخاء والتّشوّق لرؤية المكان، من شّكوك وشعور بالذّنب والضّجر وفقدان الأمل. لسبب ما، ارتبط لديّ استشعار القرب من الله، جلّ جلاله، بقضاء لحظات في الطّبيعة الرّحبة، أو تأمّل جمال فريد، أو إدراك مفاجئ لفكرة أخّاذة، وليس بزيارة مكان مقدّس، ولذا شعرت وكأنّ هذه الرّحلة لن تقودني لشيء، ولكن ربّما تكون محطّة أكتسب منها معرفة جديدة، ومنظورًا مختلفًا بالتّالي.

وكلّما امتدّت بي الطّريق البرّيّة وسط الصّحراء الشّاسعة أترك تدريجيًّا كل الأفكار المسبقة وراء ظهري، ثمّ قرّرت أن أستشفّ سحر المدينة بقلب خالٍ من أية مؤثرات، وبعين تراقب على سجيّتها ولا تستحي من استكشاف الخبايا، يدفعني شوق للجزء المجهول من نفسي، الجزء الذي أشعر به ولكن لا أضع يدي عليه أبدًا، الشوق للخلود الذي يلازمني كإنسانة رغم معرفتي بإنّي في هذه الدنيا فانية.

في الحقيقة نشأت المدينة المنوّرة في وادٍ، ورغم توسّعها فما زالت تلك الجبال خالية من العمران، ربّما لأنّ طبيعتها البركانيّة لا تسمح. وبعد اجتياز الجبال بدأت مزارع النّخيل تتناثر يمينًا وشمالًا مضيفة لمسة يانعة بهيجة للمكان، مزارع غزيرة النّخل وباذخة الخضرة.

بعد قطع مسافات بدت لا نهائيّة وسط سهول رمليّة لا تضاريس لها، انبثقت فجأة جبال مهيبة، كانت هي من أول ما استقبلناه على حدود المدينة، لونها مختلف وبعضها يميل إلى السّواد، في الحقيقة نشأت المدينة المنوّرة في وادٍ، ورغم توسّعها فما زالت تلك الجبال خالية من العمران، ربّما لأنّ طبيعتها البركانيّة لا تسمح. وبعد اجتياز الجبال بدأت مزارع النّخيل تتناثر يمينًا وشمالًا مضيفة لمسة يانعة بهيجة للمكان، مزارع غزيرة النّخل وباذخة الخضرة، جغرافية المدينة من نوع خاصّ، يبعث في النّفس مزيجًا من الشّعور بالرّهبة والعطاء غير المحدود.

احتجت لوقت حتى ألمّ بكلّ المشهد، فبين الأعمدة الضّخمة والأقواس الفخمة كانت أمم من النّساء، بعضهنّ يصلّين وبعضهنّ يتلو القرآن وأخريات انشغلن في أمور أخرى، ولفت نظري بشكل خاصّ حلقات تعليم تلاوة القرآن الكثيرة التي أعادتني لعصور سابقة حيث كان مجلس العلم يعقد في المسجد، وحيث الصّغيرة والكبيرة تتجاوران، أضفت تلك الحلقات على المكان حيويّة خاصّة، وكان المسجد كبيرًا بما يكفي ليستوعب الأصوات المتداخلة دون أن يؤثر أحدها على الآخر، واستمرّت الحلقات حتى آذان المغرب.

وقبيل الصلاة، لاحظت نسوة تمدّدن سفرة لإفطار الصّائمين، تحوي خبزًا ولبنا وتمرًا، إذ أنّه كان يوم خميس والصّيام مستحبّ فيه. لفت نظري أن اللواتي قمن بإحضار الطعام وتجهيز مائدة الإفطار يتكلّمن اللهجة السّعودية الحجازية مع أنّ ملامحهن شرق آسيوية أو أفريقية مختلطة، ثار فضولي وبحثت في غوغل عن العائلات المدنية الشهيرة، فعددت ما يقارب العشرين أصلًا أتت منه هذه العائلات من مئات السّنين: الشّام، مصر، الأكراد ، إسطنبول، حضرموت، المغرب، الهند، البصرة، البوسنة، حرّان، كشمير، أفريقيا، داغستان، لبنان".

واستوعبت معنى أن تكون المدينة حضنًا للمسلمين من أنحاء الارض، جاءت بهم المحبة إلى هذا المكان فلم يستطيعوا مغادرته، وصارت ذريتهم أصلانية هنا، وهم بهذه الملامح المختلفة جد الاختلاف، يتكلمون بحميمية وألفة لكونهم أبناء منطقة واحدة، وفكّرت كيف أن مدنًا تتحوّل إلى عالميّة ليس بسبب اقتصادها وسوق العمل كما يحدث عادة، بل لسبب حبّ المكان ومن سكنوا المكان.

ذهبت إلى باب الحرم رقم ٢٨ حيث مدخل النساء الذي يقودنا إلى الروضة، وبعد مشي طويل وصلت إلى المكان الذي تتجمّع فيه الزّائرات للروضة المباركة، وتقوم المسؤولات هناك بإدخال مجموعة تلو مجموعة. كانت صديقتي قد شرحت لي سابقًا أنني سأميزها من خلال سجادها الأخضر المختلف عن السجاد الباقي الموزّع في أرض الحرم، ولاحظت أيضًا بأن أعمدتها الدّاخليّة قديمة تمّ تجديدها، وشكل الزخارف مرسوم لا منقوش كما في بقيّة أجزاء المسجد النّبويّ، يظهر فيها بشكل جليّ الطّابعان الأمويّ والمملوكي.

كانت أعداد النّسوة المتجمّعات قد وصل السبعمئة تقريبًا، ولافتة موضوعة على الحاجز الفاصل قد أشارت بوضوح "يُمنع اصطحاب الأطفال"، ولافتة اخرى تطمئن الوافدات "أختي المسلمة لا تتعجلي سيأتي دورك وستصلّين في الروضة"، ورغم التّطمينات والتّحذيرات تدافعت النّساء بطريقة عجيبة، وبما أنني أصررت على عيش التجربة للآخر سمحت للزحام أن يأخذني حتى وصلت فعلًا للروضة المباركة، وهناك رأيت أحد أسباب هذا الوضع، ففجأة تجد امرأة اختارت أن تصلي في منتصف المكان، وبالتالي، قطعت خط السّير وأصبح الكل مطالبًا بالالتفاف حولها، وهناك مجموعات تضامنت مع المصليات فأقامت حلقة حول كلّ واحدة كي لا يدوس عليهن أحد، وبالتالي صارت الحلقة كلها عقبة أمام طريق السائرات.

لم أفهم هذا الحرص على اغتنام كلّ فرصة لمزيد من الثّواب: هل يكون على حساب راحة المجموع، وهل الموضوع هو ركعتان تؤدّيان في الرّوضة كيفما اتّفق، بغضّ النّظر عن الخشوع فيهما. قد يعترض عليّ البعض ويتّهمني بأنني أنصّب نفسي وصيّة على أفعال العباد ولا أحسّ بالذين يأتون من بلد بعيد، وإحدى أمانيهم أن يصلّوا في الرّوضة المباركة، لكن لو ننظر من زاوية الأخريات اللّواتي حلمن بمجرّد رؤية الرّوضة والسّلام على رسول الله، ولم يتح لهنّ ذلك بسبب الزّحام الشّديد، وبعضهنّ يغمى عليهنّ وبعضهنّ الآخر يفضّلن الانسحاب للنّجاة بحياتهنّ لبدا الأمر أنانيّة ولا مبالاة بالآخر، وهذا قادني لسؤال: ماذا نريد من الرّوحانيّة؟ مجرّد الشعور الغامر العذب؟ أم إشباع حاجة متأصّلة؟ أم سلوك يعلو بجزء الإنسان الأرضي؟ ترى الناس يبكون وتغمر وجوههم ملامح السكينة والاستسلام، ولكن بنفس الوقت لا يبالون بوضع الآخرين ولا بنتيجة أفعالهم عليهم، وهذا مؤشّر على خطأ في فهم مغزى العبادة .

المدينة فيها شيء لا نجده إلّا في المدن التي تعاقبت عليها الدّول وبقيت فريدة في أصالتها، تتطوّر ولكن لا تتغيّر، ثابت عظمتها لم يهتزّ، وهو متمركز حول المسجد النّبويّ الذي شهد إقامة الدّولة ونشوء الحضارة، على بساطته آنذاك وبساطة المنطقة حوله.

ومضى يومان، وأدركت بأنّ وقت رحيلي عن المدينة اقترب، شيء ما يخنقني من الدّاخل، لكم شعرت بأنّها حميمة وقريبة منّي، وقعت في أسر هذا المكان، لا مناص، وفهمت جزئيًا شعور ذلك الكهل الذي رأيته في صحن الحرم وهو يترنم بالقصيدة أو الابتهالات، لست أدري، غائب عن هذا العالم. حين نظرت في الصور بعد ذلك سألت نفسي ما المميز في المدينة؟ إنها في النهاية مثل أيّة مدينة أخرى، فيها عشوائيات وبسطات الباعة، وفيها مبان ضخمة تجسّد الرأسمالية، وجشع المالكين والمستثمرين وملل الموظّفين، فيها أناس بالتأكيد يندبون حظّهم لأنّهم ولدوا في هذه البقعة من العالم ويتمنّون الهجرة منها بأسرع ما يمكن.

 ولا أنسى صديقتي المدنيّة التي صارحتني بأنّها تحبّ مسقط رأسها، إلّا أنّها لا تحتمل البقاء هناك لأكثر من يومين، فالمدينة صغيرة، وناسها يعرفون بعضهم، وحين أزورها يبدأ العتب من هنا وهناك، لماذا لم تمرّي علينا؟ كنت في المدينة ولم نرك؟ كلّ هذا مفهوم بالنّسبة لي، أن تحبّ المكان زائرًا لا مقيمًا، لكن هذا لا ينفي أنّ المدينة فيها شيء لا نجده إلّا في المدن التي تعاقبت عليها الدّول وبقيت فريدة في أصالتها، تتطوّر ولكن لا تتغيّر، ثابت عظمتها لم يهتزّ، وهو متمركز حول المسجد النّبويّ الذي شهد إقامة الدّولة ونشوء الحضارة، على بساطته آنذاك وبساطة المنطقة حوله.