بنفسج

أبناؤكم أم أبناء الحياة: تتبع تاريخي لأصل الحكاية

الجمعة 03 فبراير

يلعب الكوكب الأزرق دورًا مهمًا في تكوين أفكارنا، فهو ينقل لنا كل ما يُقال عن موضوع بعينه، حتى وإن كانت متناقضة، والوفرة تصيب بالحيرة، ونصاب بالتشتت أكثر. من أمثلة ذلك، مقولة تربوية ظهرت مؤخرًا، قد تثير حفيظة البعض، "أبناؤكم هم فرصتكم الثانية، حاولوا أن تعوضوا بهم ما فاتكم وكونوا سندًا لهم، ولا تكونوا عثرة في طريقهم". وهذا ينافي المقولة التي تنسب خطأ لسيدنا علي، كرّم الله وجهه: "لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". أو مقولة جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكًا لكم". فأيهما الصواب؟

| هل أبناؤنا فرصتنا الثانية؟

أبناء4.png

كما نقول في العامية المصرية "مفيش دخان من غير نار"، لا بدّ لأي نار (فكرة) من مصدر ظهرت منه، وربما لو حاولنا تتبع المصدر لأعطينا المقولة حجمها الحقيقي، وإسكانها في مكانها المناسب. تتبع منبع النهر، وما يحدث له أثناء جريانه ينبئنا بكيفية سير النهر، وإلى أين سيتجه ويصب. هل ننجب الأبناء كي نكمل ما لم نفعله فعلًا، أو لنعوض فيهم نقصنا البشري؟ هل أبناؤنا هم فعلًا فرصتنا الثانية، لنحاول تعويض ما فاتنا؟ لنعد للوراء قليلًا لفهم كيف بدأ الأمر.

منذ بدء الخليقة أدرك الإنسان قصر عمره، وأنه مهما عاش فهو ميت في النهاية، فليتعب وليلهث في الحياة ليُحَصِّل المجد بشق الأنفس وطول الصبر والعمل والجهد. وعندما يصل الإنسان لما يطمح إليه، يفكر: ماذا سيحدث لهذا الذي بنيت بعد عمر طويل؟ ومن هنا أحتاج إلى من يُكمل بعده ما وصل إليه، وبدأ فيه (أو ما لم يفعله وفشل في تحقيقه). الابن يداعب حلم الخلود الناقص في الإنسان، الذكور في المجتمعات القبلية، والتي يغلب عليها التراحم، هم مطلب مهم لاستكمال المجد الشخصي والعائلي/القَبَلي (نذكر خيبة أمل امرأة عمران حين رزقت بفتاة وليس فتى، فقد كانت تريد نذره لله، ولكن الله تقبل الفتاة أيضًا بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا).

الابن كسند، فالمجتمعات القبلية تنظر للابن بأنه امتداد طبيعي لمسيرتها الاستكمال مجد القبيلة، نلاحظ مثلًا دعاء سيدنا زكريا بالذرية التي ترثه وترث من آل يعقوب، ليس لنفسه فقط، ولكن لعائلته أيضًا، في تلك المجتمعات لا يتصرف الفرد بوصفه فردًا، و لكنه يتلاشى تمامًا في داخل المجتمع والعائلة.

الابن كسند، فالمجتمعات القبلية تنظر للابن بأنه امتداد طبيعي لمسيرتها الاستكمال مجد القبيلة، نلاحظ مثلًا دعاء سيدنا زكريا بالذرية التي ترثه وترث من آل يعقوب، ليس لنفسه فقط، ولكن لعائلته أيضًا، في تلك المجتمعات لا يتصرف الفرد بوصفه فردًا، و لكنه يتلاشى تمامًا في داخل المجتمع والعائلة، فقد سمعنا عددًا من القصص حتى وقت قريب، نسبيًا، النصف الأول من القرن الماضي، من أن بيت فلان يريد أن يناسب بيت فلان، وليس الفتى يطلب الفتاة بعينها، ذلك راجع لعدم وجود تباين كبير بين الأفراد والتربية تقريبا واحدة والهدف من تكوين الأسرة معروف.

 كما أن فرص الاختلاط والتعامل بين الأفراد من الجنسين كانت محدودة للغاية، وقد روى د. المسيري عن أهله -رحمهم الله جميعًا - أن والده عندما بلغ سن الزواج اتفقت عائلته على أن يتزوج من عائلة (الكاتب)، فلما ذهبوا للخطبة، اكتشفوا أنهم في منزل (آل حلبي) المجاور للكاتب، وبعد تفكير سريع اتفقوا على الزواج من آل حلبي! فيقول: "وهكذا تم زواج أبي من أمي، وأتيت أنا وأخوتي إلى هذا العالم نتيجة خطأ مطبعي".

| الابن وريثًا

أبناء1.png

عند الملوك والأمراء، ما إن يحكم الملك سلطانه ونفوذه على المملكة، فإنه يسارع بالزواج لكي يحصل على الوريث المرجو، وما يستتبع ذلك من نشوب حروب داخلية خفية بين الزوجات، وأحيانًا المحظيات لأولادهن الذكور، وتمهد له الطريق كي يفوز بولاية العهد. ويشمل الأمر استخدام الأبناء لعقد التحالفات مع الدول المجاورة بزواج أبناء الملوك من أمراء تلك الممالك كي يضمنوا الولاء وبسط النفوذ وعدم تعارض المصالح. كانت إمارات أوروبا في فترة من الفترات عبارة عن إمارات يحكمها أقارب وأصهار وأنساب.**

وقد يرث الابن أيضًا المجد العلمي لعائلته إن كان موهوبًا ولديه الذكاء الفطري اللازم لذلك، كثرة الأبناء تضمن بشكل نظري وجود وريث مناسب يمتلك المهارات اللازمة. فائدة الأبناء لم تكن مقتصرة على إرث الحكم أو المال في الطبقات الأقل، بل نجد أن الأبناء يعتبرون وسيلة لكسب المال، وعمالة الأطفال شيء شائع في المجتمعات الزراعية والبدوية، وحتى في أوروبا أثناء الثورة الصناعية، يحصل الطفل على أجر أقل من البالغ، ولا يستهلك طعام كثيرًا، ويجمع ولي أمره أجرته ممن يعمل لديهم، ولكن بالطبع نسبة الوفيات كانت عالية جدًا في تلك الحقبة بين الأطفال لقلة الرعاية الصحية وبدائية الأدوية نسبيًا، والطعام الصحي والماء النظيف، ولذلك، كان إنجاب الكثير من الأطفال ضرورة حتى لا تنقرض العائلات.

أبناء5.png

يظهر مرة أخرى الظروف والدوافع التي تفضل إنجاب الذكور على الإناث، فالفتيات لا يورثن اسم العائلة لأبنائهن بعكس الرجال، فوجود ابن ذكر ضمان آخر لاستمرار تلك العائلة جيل آخر على الأقل وإلا تنقرض ويخفت ذكرها. لحروب الكثيرة التي كانت تعج بها البشرية (حتى وكأن تاريخ البشر هو تاريخ حروبهم واقتتالهم) كان يلتهم أيضًا، الكثير من البشر، فإنجاب الكثير من الأطفال يُعد قوة من قوى الدولة لأنهم سيتحولون لجنود يعضدون نفوذ الدولة وسلطانها على ما حولها.

دار الزمن دورته وتبدلت الأحوال شيئًا فشيئًا، وإن بقي بعض من تلك الدوافع في بعض البيئات حتى اليوم، فالمُلك التوريثي لم يعد هو أساس حكم الدول المتقدمة، وأصبح الأمر له طابع مؤسسي أكثر، ووضعت الحروب أوزارها، أصبح إنجاب الكثير من الأطفال ليس بسهولة الماضي، فتحول لعبئ ولم يعد وسيلة لكسب المال السهل، خاصة في المجتمعات الحضرية، حيث تعليم الأطفال مهم وطويل ومكلف، فأدى ذلك لانخفاض عدد الأطفال في الأسرة الواحدة، وقلّت الفوارق الاجتماعية التي تدفع لتفضيل الذكور على الإناث خاصة عند إتاحة تعليم الفتيات واستطاعتهن دخول سوق العمل.

لا يزال حلم توريث العمل، والعلم، والمكانة، والنفوذ يداعب خيال البعض، أو حتى تحصيل ما فشل المرء فيه ظنًا منه أنه يضمن مستقبلًا أفضل لأبنائه. في ما مضى كان يمكن أن يظهر طفل وسط العدد الكبير من الأبناء به صفات مناسبة أو مؤهلات تجعله أهلًا لتركة والده، لكن مع تغيّر الظروف، وقلّة عدد الأطفال في الأسرة الواحدة، لم تعد تلك الاحتمالية سهلة التحقق، كذلك، تسارع وتيرة الزمن وتغير متطلبات السوق لتراجع مكانة بعض الوظائف، بل وظهور وظائف جديدة على الساحة لم تكن موجودة في زمن الآباء، كل هذا يجعل فكرة أن الابن هو الفرصة الثانية للمرء لتعويض ما فاتكم خاصة في المجال العملي ليست بالفكرة الجيدة أو السديدة تمامًا.

| أولادنا ليسوا ملكنا

أبناء2.png

ولكن هل معنى ذلك أن المقولة خطأ بالكلية؟ وإننا لا يجب أن نفرض على الأبناء أي شيء البتة بحجه أنهم لم يخلقوا لزمننا وأنهم ليسوا ملكًا لنا. كما وقفنا على ظروف نشأة المقولة الأولى تاريخيًا، لنقف أيضًا على ظروف ظهور المقولة الثانية. المجتمعات الحداثية بها نوع من الفردية الشديدة والتطرف في تقديس الذات، فدائمًا هناك تأكيد على أن تجربة المرء - أي شخص - هي تجربة شديدة التفرد، ولن يستطيع أحد فهمها أو الوقوف عليها لأنهم لم يتعرضوا لنفس ما تعرض له هذا الفرد، وبالتالي، من الصعب الحكم عليه أو فهمه.

ومن هنا يكون أنك على مقولة: أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، الحياة شيء أصم لا يشتاق، من يشتاق حقًا هم الأفراد الصغار الذين يسعون ليكونوا أنفسهم بشكل جديد مختلف عن السابقين. فهل حقًا لا بد من نبذ كل ما كان يفعله السابقون لنعيد اختراع العجلة؟ في الحقيقة، ليس صحيحًا أن المجتمعات التقليدية تستحق الفردية المحمودة اللازمة للتميز الفردي، ولكن ليس الحل هو المغالاة في الفردية حتى لا نكاد نرى أحدًا سوانا (سوى رغبات أطفالنا في هذه الحالة) في هذا العالم. هناك قيم أساسية لا أحسب أنها ستتغير مهما تطورت الحياة، مثل الصبر والمثابرة إن أردت أن تتقن عملًا.

الاتقان لا بديل عنه، حسن الخلق عمومًا، لين الطباع، الأمانة، الاحترام، الطفل يأتي الحياة ضيفًا مستكشفًا جديدًا لا بد من تهذيبه، ولا ندعه مثل الزرع البري للأشعث، ولكن لا بدّ من احترام ميول الطفل عمومًا مع ذلك التهذيب، المانجو تثمر في الصيف والفراولة في الشتاء، ألوانهم وطعمهم مختلف، وهكذا الأطفال، ولكن كلا الفاكهتان لا بد من تعهد أشجارهما بالرعاية والعناية والتقليم اللازم كي تنتج أفضل الثمار. الاختلاف بين الفاكهة مثل اختلاف الأطفال، لا بد أن يحترم ويستوعب، ولكن عدم العناية به وتهذيبه وإزالة الحشرات والأمراض لن تجعله يثمر بشكل جيد.

أولادنا ليسوا ملكنا (فلا أحد يملك أحد)، ولكن يمكن أن نكون قدوة لهم بشكل عملي، وليس بالتلقين الغبي كي يحذوا حذونا، كم من أبناء فرق جدًا في نشأتهم اهتمامات الآباء وتأثروا بها حتى وإن لم يقصد آبائهم ذلك. بل وقد تختصر عليهم تلك النشأة طريق طويل ما كانوا ليسيروه وحدهم، أولادنا قد يكونوا فرصة ثانية لنمارس معهم أبوة/أمومة افتقدناها في صغرنا، أحيانًا فاقد الشيء يكون أكثر شخص تقديرًا لأهميته وحرصًا على عطائه. أبناؤنا أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها بعدنا نرعاهم الرعاية الأساسية اللازمة، كي تكون ثمرة المانجو أو الفراولة أو البطيخ، في أجمل شكل ومضمون لها.