بنفسج

"أميرة" أمُّ بعمرِ العاشرة لستة أطفال!

الإثنين 30 اغسطس

لم تكن مصادفة! كان هذا الموعد اتفاقًا بيني وبين عائلة الأسيرة نسرين أبو كميل أن أصل بيتهم الساعة السادسة تمامًا. وصلت، تفاجأت من الهدوء المطبق في بيت يوجد به سبعة أطفال أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره، وأصغرهم ثمانية أشهر، في حين كانوا هم يضبطون تردد المذياع على إذاعة صوت الأسرى، لتبدأ المذيعة بإرسال السلام والتحيات للأسرى وذويهم، في حين يهاتف "أبو فراس" زوج الأسيرة "نسرين" تحت الهواء ليكون أول المتصلين بالإذاعة.

هو برنامج "على جناح الطير"، الذي يصفه أهالي الأسرى بـ"بلل الريق"، لا سيما حين تتأخر زياراتهم أو تمنعهم قوات الاحتلال من الزيارة لشهور عدّة. هنا تبدأ الأمهات بسرد أخبار العائلة وطمأنة أسيرها أو أسيرتها، في حين كان لعائلة الأسيرة "نسرين" الرئة التي يتنفسون بها في غيابها؛ لكونهم ممنوعين من الزيارة من أول يوم لاعتقالها، حيث ترفض قوات الاحتلال خروج باص خاص بهم لسجن الدامون؛ لكونها الأسيرة الوحيدة من مدينة الحرب "غزة"!

| "ماما يلا روحي"

الأسيرة نسرين أبو كميل من حيفا، والمتزوجة في غزة من "حازم أبو كميل" عام 1999،ولديها 7 أطفال كانت قد غادرت غزة عبر حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، في الثامن عشر من أكتوبر  2015م، ليحتجزها الاحتلال ويخضعها للتحقيق، بتهمة أنها تنتمي لحركة المجاهدين، وأنه تم تجنيدها من أجل جمع معلومات عن أهداف في الداخل.
 
غادرت "نسرين" غزة واتجهت إلى حاجز إيرز بعد أن تلقت اتصالًا هاتفيًّا من مخابرات الاحتلال، وأخبرها يومها أن سبب الاستدعاء هو استلام تصريح لزودها بالدخول للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ لكونها من سكان "حيفا" وهي تحمل الهوية "الإسرائيلية" ومتزوجة في غزة، خاصة وأن ذويها من سكان الأراضي المحتلة عام 1948.

"ألو..السلام عليكم أم فراس.. كيف حالك يا غالية؟ اشتقنالك .. الأولاد بدهم يسلموا عليك ومشتاقين لك". افتتح أبو فراس مشاركته بتلك الكلمات، في حين وقفت "ملك" قبالة أبيها تتوسل له أن يختصر كلماته لتبدأ هي بالكلام، ووقف "أحمد" (عامان ونصف العام)، يشد الهاتف من أبيه، "أحمد" الذي لم يعِ من الأمومة شيئًا سوى "ماما عالجوال نادي عليها"، وهو الذي يظن أن أي مكالمة يهاتف بها أبوه تكون أمه وتسمعه!

"ماما... ماما.. ماما" قالها "أحمد" ثلاثًا، أنتظر أن ترد عليه أمه، لم يكن يفطن ذلك الطفل أن أمه تسمعه، لكنها مكالمات حكمت عليها "إسرائيل" أن تكون باتجاه واحد! "ملك" التي توسلت لوالدها أن تتحدث قبل الجميع، كانت قد استقبلتني على سلم بيتهم، وجدت عيونها باكية، سألتها "ما بك؟"، أجابت: "مشتاقة لماما كتير، وبدي ياها تطلع من السجن". أمسكت "ملك" ذات السبعة أعوام الهاتف بعد أن وضعه "أحمد" حين يئس أن ترد عليه أمه، فانفجرت باكية "ماما يلا روّحي أنا بدي ياكي"، وأصبحت تحكي كلامًا مخلوطًا بالدموع، لم نفهم منه بعد ذلك إلا "طولتي كتير".

"السلام عليكم ماما.. كيف حالك.. أنا أميرة.. بحبك كتير... وكل أخواتي بخير"، ما هذا التمالك؟ وكيف بدت متماسكة لهذا الحد؟ تسرد أخبار إخوتها وأخواتها المهمة وغير المهمة، بثبات كبير، وصوت لا يتقطع، لاحظ الأب استغرابي، فأجاب تساؤلات دارت في عقلي: "إذا لم تبد أميرة هكذا ستقلق أمها. أميرة حلّت مكانها، تطبّب هذا وتواسي ذاك، وتغير الملابس للطفل الرضيع، وتصنع الحليب له. أميرة إذا لم تبد بهذا الثبات أمام أمها على المذياع ستنهار نسرين داخل زنزانتها"!

الأسيرة نسرين أبو كميل من حيفا، والمتزوجة في غزة من "حازم أبو كميل" عام 1999، كانت قد غادرت غزة عبر حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، في الثامن عشر من تشرين الأول/أكتوبر عام 2015م، ليحتجزها الاحتلال ويخضعها للتحقيق، بتهمة أنها تنتمي لحركة المجاهدين، وأنه تم تجنيدها من أجل جمع معلومات عن أهداف في الداخل. غادرت "نسرين" غزة واتجهت إلى حاجز إيرز بعد أن تلقت اتصالًا هاتفيًّا من مخابرات الاحتلال، وأخبرها يومها أن سبب الاستدعاء هو استلام تصريح لزودها بالدخول للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ لكونها من سكان "حيفا" وهي تحمل الهوية "الإسرائيلية" ومتزوجة في غزة، خاصة وأن ذويها من سكان الأراضي المحتلة عام 1948.

| أميرة وصدمتها

أميرة ن.jpg
أميرة وأشقاؤها

وصلت "نسرين" إلى النقطة الإسرائيلية هناك. أدخلوها غرفة التحقيق، تفاجأت، أصابتها صدمة كبيرة حين صرخ بها المحقق أن لديه معلومات بأنها تم تجنيدها من أجل جمع معلومات عن أهداف في الداخل، بحكم حصولها على الهوية الزرقاء "الإسرائيلية"! لمدة 31 يومًا كما يقول زوجها وهي تتعرض لتحقيق قاسٍ من ضباط مخابرات الاحتلال، في عسقلان، كان أقسى ما فيه ضرباتهم لها بأعقاب البندقية، وقد كانت مباشرة على القلب.

نقلت قوات الاحتلال "نسرين" بعد أيام التحقيق إلى سجن الشارون ومكثت فيه شهرًا ونصفًا، ثم نقلت إلى سجن الدامون. تهم كثيرة وجهت لنسرين في التحقيق، أبرزها تصوير وزارة الداخلية وسكة القطار ومركز شرطة حيفا وميناء حيفا، وجمع معلومات عن مواقع وأهداف صهيونية لمصلحة فصائل المقاومة الفلسطينية بغرض "التجسس" خلال آخر زيارة لعائلتها عام 2014.  في العشرين من تشرين الأول عام 2018م، حكمت محكمة الاحتلال عليها بستّ سنوات، رغم عدم اعترافها بالتهم التي وجهت لها.

لم تكن تعلم "أميرة" الابنة الكبرى لنسرين "10 أعوام" أن وصايا أمها لها سترافقها أعوامًا طويلة، تلك الوصايا التي أدلت بها "نسرين" حين أخبرتها أنها ستغادر البيت يومًا كاملًا لإتمام إجراءات التصريح! "كادت تجنّ في الثلاثة أشهر الأولى". بهذه الكلمات بدأ الأب حديثه عن معاناة "أميرة" التي وجدت نفسها بين يوم وليلة ربة البيت، ومدرّسة إخوتها وراعية أخيها الطفل "أحمد"، ومطببة أخواتها حين يمرضن! ويضيف الأب: "في أول مدّة سجن نسرين شعرت أن أميرة أصيبت بأزمة نفسية؛ لأن المهمّات التي أوكلت إليها كانت أكبر بكثير من طاقتها".

أميرة2.jpeg
أميرة ابنة الأسيرة نسرين أبو كميل

وحين طلبنا من "أميرة" أن تصف لنا الأعوام الخمسة التي فقدت فيها عمود البيت "أمها"، قالت: إنها كانت أعوامًا صعبة لا سيما في أول سجنها، فقد كان جدول يومها ممتلئًا بالصعوبات التي لا يتحملها عمرها، لا سيما حين يسألنها "ملاك" و"نادين" عن موعد عودة أمهن باكيات. في ذاكرة "طفلة" حكم عليها الاحتلال أن تكبر قبل أوانها، عادت "أميرة إلى صباح اليوم الذي غيبت فيه أمها، حيث أيقظتها من النوم لتوصيها أن تصنع الحليب لطفلها "أحمد" ذي الثمانية أشهر، واحتضنت أطفالها السبعة ثم غادرت.

ما بعد صلاة الظهر كان الموعد المحدد لرجوع "نسرين" إلى بيتها. حلَّ العصر ولم تعد، ليبدأ أحمد بالبكاء المستمر، تقول "أميرة": "لم أستطع يومها إسكاته وأخواتي، حتى مع والدي لم يسكتوا من بكائهم الذي لا يمكن أن أنساه طوال حياتي". بعد صلاة المغرب جاء زوج "نسرين" شاحب الوجه، يكسو الخوف تقاسيم وجهه، تقول "أميرة": "رفض أبي إخبارنا بأنه تلقى اتصالًا يفيد باعتقال أمي على أمل إخراجها في اليوم الثاني".

يوم...يومان.. ثلاثة... شهور.. سنوات، لم تعد "نسرين"، ولم تعد رواية زوجة خالها أن نسرين ذهبت للبيات عند أهلها في حيفا مصدقة لدى "أميرة"، وكلما حامت في رأسها دوامة الأسئلة أوقفها صراخ "أحمد" أو سؤال "وين ماما" من أختها "ملاك" باكية! كانت "أميرة" تمسك هاتف أبيها الذي انقلب حاله رأسًا على عقب، حين أتى اتصال من شخص يسجل بـ"محامي نسرين"، لتتأكد أن أمها اعتقلت كما أخبروا أولاد الجيران أختها "ملاك"!

| انتظار انتهاء "الرزمانة"

أميرة 1.jpg
أميرة برفقة أشقائها

تروي "أميرة" فصل الوجع في غياب أمها وتحدثنا عن جدول يومها منذ اعتقال أمها، تقول: "كنت أصحو باكرًا جدًا، أعمل الفطور لإخوتي، وأجهزهم للمدرسة بعد أن أكون قد غسلت وكويت ورتبت ملابسهم في اليوم السابق، ثم أرتب البيت، وأذهب إلى المدرسة منهكة، وفي عقلي أسئلة طوال الدوام المدرسي عن أحمد الذي تركته عند والدي، عن أخواتي الباكيات في المدرسة، عن إخوتي الذين امتنعوا من الذهاب إلى المدرسة حزنًا على فراق أمي، ثم أعود إلى البيت أرتبه مرة ثانية وأجهز الغداء وأهتم بشؤون المنزل، كل ذلك وأحمد الطفل بين يدي أحمله وهو يبكي ويصرخ لفقدان حضن أمه".

"فطام أحمد" كانت المحاولة الأصعب والأقسى على قلب "أميرة"، تقول لـ"بنفسج": "كنت صغيرة جدًّا على تحمل مسؤولية أخي الرضيع. كان طوال الوقت يزحف في البيت ويصرخ يريد أمي، وكان يرفض الطعام حتى مرض أحمد، فذهبنا به إلى المستشفى بالليل أنا وأبي ونمت به أربعة أيام أتمزع قهرًا لعدم وجود أمي بيننا في هذه الأزمة"، وتكمل: "لم أكن أعرف كيف تتعامل الأمهات مع الأطفال حين يمرضون وتعلو حرارة أجسادهم، مرت عليّ أيام صعبة جدًا، كنت أكمل جميع الأعمال التي عليّ في النهار، وأجلس في الليل أبكي كثيرًا".

تلك الرزنامة هي جدول زمني، صنعها أبناء "نسرين" حين بقي على يوم تحريرها مئة يوم، غير أنهم يجتمعون قبالتها جميعًا صباح كل يوم ويشطبون رقم اليوم الذي أتى، إلى أن يصلوا إلى رقم اليوم "1" وهو اليوم المنتظر منذ ست سنوات!

أخبار "نسرين" في السجن التي تصلهم عبر المحامي أو عبر الاتصالات القليلة التي تسمح بها مصلحة إدارة السجون كانت معاناة أخرى لعائلة "نسرين" تفوق غيابها حسب تعبيرهم، حيث المرض الذي نهش جسدها في زنزانتها، لا سيما السرطان والضغط والسكري وفقد النظر في إحدى عينيها. وفي حين تتجهز الأسيرات ليوم زيارة ذويهن كأنه العيد، تتقوقع "نسرين" حول حزنها وتجلس على برشها تراقب فرحة الأسيرات في حين تأكل قلبها الحسرة؛ حيث حرمت الأسيرة نسرين من الزيارة، لأنها الأسيرة الوحيدة من قطاع غزة، وبسبب الحصار الذي يفرضه الاحتلال على أسرى غزة عمومًا، وليس بسبب المنع الأمني أو عدم صدور تصريح لزيارتها.

بعد نبرة الحزن التي تحدثت بها "أميرة" لـ"بنفسج"، تحولت ذبذبات صوتها إلى بهجة كبيرة حين بدأت تسرد تجهيزاتها وإخوتها ليوم تحرير أمها، حيث يعلقون رزنامة كبيرة على حائط كبير وسط البيت، ويشطبون يومًا بعد يوم، تقول: "ضايل لتحرير ماما 50 يومًا، متشوقين كتير للقاء ماما... بس خايفين كتير عشانها مريضة". تلك الرزنامة هي جدول زمني، صنعها أبناء "نسرين" حين بقي على يوم تحريرها مئة يوم، غير أنهم يجتمعون قبالتها جميعًا صباح كل يوم ويشطبون رقم اليوم الذي أتى، إلى أن يصلوا إلى رقم اليوم "1" وهو اليوم المنتظر منذ ست سنوات!