بنفسج

بين درعا والشيخ جراح: هل الإنسان واحد؟

الأربعاء 08 سبتمبر

يقول مريد البرغوثي: "لماذا يظن كل شخص في هذا العالم أن وضعه بالذات هو وضع مختلف؟ هل يريد ابن آدم أن يتميز عن سواه من بني آدم حتى في الخسران؟ هل هي أنانية الأنا التي لا نستطيع التخلص منها؟". هذا السؤال هو جواب قصير جدًا على أسئلة استنكارية كثيرة تكررت في الأسابيع الماضية مع تصاعد وتيرة الإجرام ضد أهالي درعا في سوريا المنكوبة. سوريا التي ما زالت تنزف منذ 2011، ولكن في الخفاء أحيانًا وتحت غطاء التبريرات والتحليلات والتفاصيل السياسية المقيتة أحيانًا أخرى.

كلما مررت بعبارات للإخوة السوريين أو غيرهم ممن تستطيع أن تلمس في حديثهم بعض الغضب، أو العداء ربما تجاه الاهتمام بما يحدث في فلسطين وما يقابله من تجاهل وإهمال لما يحدث في سوريا، انتابني شعور بالقهر أحاول جاهدة السيطرة عليه. فأنا أعرف لماذا سيلجأ هؤلاء للاعتقاد بأن فلسطين هي السبب في حجب الأنظار عن معاناة درعا الآن، ومناطق سوريا المختلفة قبلها. نعم أعرف لأن هذا هو مجال تخصصي. لماذا يتنافس الناس في إثبات أيهم أكثر استحقاقًا للتعاطف؟ لماذا يحاول كل طرف إثبات أن معاناته هي الأشد؟ أن خسارته هي الأفدح؟

هل تذكرون الطفل أيلان الذي وجدوا جثته مرمية على شاطئ تركي؟ هل تذكرون رد فعلكم على هذه الصورة في المرة الأولى التي رأيتموها؟ ثم ماذا حدث؟ لقد تحولت لرمز من نوع ما لكن الغالبية العظمى ينظرون إليها الآن ولا يهتز لهم جفن، لقد حدث هذا أيضًا مع القضية الفلسطينية عبر السنوات، في البداية كانت الصدمة والفاجعة، ثم شيئًا فشيئًا أصبح الأمر معتادًا. 

لأن العالم جعلنا نعتقد أننا نعيش في غابة لا يمكن للجميع أن ينجو فيها، ولأن حالة الإعلام الشعبي لا تكفي لتغطية كل ما يحصل من مآسٍ. يختار الجمهور الأخبار والقضايا الأكثر بشاعة، أو التي يظهر فيها شخصيات مبهرة تلفت النظر، أو التي بذل أحدهم مجهودًا لإخراجها بصورة تجعل من الصعب عليك أن تتخطاها. هل تذكرون الطفل أيلان الذي وجدوا جثته مرمية على شاطئ تركي؟ هل تذكرون رد فعلكم على هذه الصورة في المرة الأولى التي رأيتموها؟ ثم ماذا حدث؟ لقد تحولت لرمز من نوع ما لكن الغالبية العظمى ينظرون إليها الآن ولا يهتز لهم جفن.

لقد حدث هذا أيضًا مع القضية الفلسطينية عبر السنوات، في البداية كانت الصدمة والفاجعة، ثم شيئًا فشيئًا أصبح الأمر معتادًا. لم تعد فلسطين تظهر في الأخبار إلى قليلًا، أو ربما مع بداية قصف جديد. لا ليس ظهور فلسطين على الخارطة هو السبب في اختفاء درعا منها، بل يمكن لدرعا أن تمسك بيد أختها فتقفان معًا أمام عدسات الكاميرات والمصورين، تبكيان الجماهير وتحصدان نتائج هذا التعاطف.

صار السوري يقول إذا سمع عن خبر قصف غزة: نحن نقصف في سوريا ونشرد منذ سنوات، والفلسطيني يقول إذا سمع تهجير أهالي درعا: كنا مكانهم من قبل. يعتقد كلاهما أنه بإزاحة الآخر يفسح مكانًا جديدًا له، ولا يعرفان أنهما يلغيان بعضهما.

تختبئ درعا وراء لعبة السياسة القذرة بين المتصارعين، وراء تعتيم وحصار النظام وحلفائه، وراء خوف كثير من السوريين من تبعات كلامهم وأثر نشر تلك الأخبار على أهلهم في الداخل السوري، وراء تقصير من إخوتنا السوريين في نقل معاناتها، وراء الكثير من أخبار القتل والموت والتدمير التي حولته إلى شيء عادي فصار السوري يقول إذا سمع عن خبر قصف غزة: نحن نقصف في سوريا ونشرد منذ سنوات، والفلسطيني يقول إذا سمع تهجير أهالي درعا: كنا مكانهم من قبل. يعتقد كلاهما أنه بإزاحة الآخر يفسح مكانًا جديدًا له، ولا يعرفان أنهما يلغيان بعضهما.

أحد الأسباب التي ساعدت قضية الشيخ جراح مثلًا خلال الأحداث الماضية هو أن الحديث عنها انتقل من طابع محلي متفرد إلى سياق عالمي مشترك. لقد تحول الحديث إلى نقاشات حول النظم الاستعمارية في كل مكان، وصار العالم يتحدث عن إسرائيل باعتبارها امتدادًا لحركات للإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، واتحد الفلسطيني مع التشيلي والبوليفي، وعضو قبيلة هندية في أمريكا الشمالية، أو أخرى في أستراليا، بصفته ضحية لهذا الاستعمار. اتحد الفلسطيني مع الأمريكي الأفريقي والمواطن الأيرلندي وكل من له مظلومية في وجه السلطة الظالمة على أكتاف جيل جديد من المراهقين والشباب، أبواب جديدة من الإعلام فتحت لهم طريقًا إلى العالم.

لقد توقف الفلسطينيون – على الأقل في خطابهم الموجه للعالم – عن محاولة منافسة الشعوب الأخرى المقهورة، توقفوا حتى عن منافسة ضحايا الهلوكوست وانضموا إلى صفوف المنددين بأي ظلم، وتحولت إسرائيل إلى كيان خائن لمعاناة الشعب اليهودي. إن هذا التغيير هو نتيجة الاحتكاك الدائم بين الأجيال الجديدة عبر مختلف الوسائل واكتشافهم المشترك الإنساني الذي يجمعهم وتخطيهم لمصادر الروايات الرسمية التي ترسم الصورة بألوان المنتصر فقط. 

لأجيب عن سؤالي الأول: هل الإنسان واحد؟ نعم الإنسان واحد، في القدس وفي درعا، وفي الصومال، وفي اليمن، وفي كولومبيا، وفي كل مكان يتنفس فيه بشر. الإنسان واحد دائمًا، وتجاهل معاناته أو التقصير في نصرته ليس لسبب في ذاته، ولكن لأن العالم يحب أن يقسم البشر إلى درجات يمكن الاستغناء عن بعضها.  أتفهم شعور كثير من إخوتنا العرب في مواقف كهذه؛ فقضية فلسطين قضية محورية في الوعي العربي، قضية تتخذ ميزانًا يوزن به الحق والباطل، الخائن والشريف، لذلك تظل حاضرة ولو غابت – على الأقل حتى الآن- ثم يُعاد شحنها مرة أخرى. دوري كفلسطينية ليس أن أدافع عن فلسطين، ودور أي إنسان ليس عن يدافع عن قومه فقط، دورنا أن نقف مع المظلوم أيًا ما كان بقدر مظلوميته.

ولكن ربما نلتمس الأعذار لشعوبنا التي لا تكاد تخرج من مصيبة إلا وتدخل في أخرى، ولأهلها الذين إن لم يحاولوا الانفصال قليلًا عما يحدث حولهم سيفقدون عقولهم من أهوال العالم، أو يفقدون إنسانيتهم أيهما أقرب. أعود لمُريد مرة أخرى لأختم بعبارته التي تبنيتها منذ سنوات: "تجربة الموجوعين العرب علمتني أن وجعي كفلسطيني هو جزء من كل. وتعلمت ألا أبالغ فيه". وأطلب منّا جميعًا أن نوجه حزننا ووجعنا وقهرنا في الاتجاه الصحيح، اتجاه الظالمين والمسؤولين عن معاناتنا، في إعادة تعيين لهدف طاقة الغضب هذه حتى نستطيع يومًا في المستقبل أن نقف في وجه الشر، فهذه معركة لا تنتهي حتى تنتهي الحياة.