بنفسج

"إذا فُقِدت عُرِفت": كي لا نعتاد النعم

الإثنين 08 نوفمبر

في توالي الأيام، وانشغال المرء بأعمالٍ ترفعُ من مقامهِ علميًا أو عمليًا أو حتى اجتماعيًا، ولهفته المستمرة لبلوغِ أحلامه التي لا يفتأُ إلا أن يحققها، يغيبُ عن ناظرِ كُل مِنا أجلُّ النعم ولو صغرت، فكلما اعتاد الإنسان على توافر كل ما يريد بجهله وغفلته، ينسى ما يملك بدءًا من نعمة الإسلام العظيمة التي نشأ عليها، والغاية التي خُلق من أجلها، وتمييز الله له بالعقل الذي حباه به، وتوكيله المهمة التي عليه أن يؤديها، فما إنْ سُلبت منه نعمة، والتي إما أن تكون امتحانًا من اللهِ، أو تأديبًا على ذنوبه يضجر، وفي كلاهما غاية النفع للمرء "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور"ٌ (٩) هود.

يسأم المرء لأنه اعتاد توالي النعم وغفل عن شكرها، اعتاد رؤية ما يحب فيجزع عندما يفقد، اعتاد شعور الفرح، فلم يحتمل وشاحة الحزن، اعتاد على توافر كل شيء فروعهُ المنع على حينِ غفلةٍ! ولو قارن كل منا أعظم مصيبتين نعيشهما اليوم لهان عليه كل ما يفقد، وهل من مصيبة أعظم من فقدان الحبيب المصطفى، أو مصيبة تمسُ بديننا العظيم،وما أكثرها هذه الأيام.

فلو أنّ كُلٌ منا بسطَ مصيبته أمام فقد معلمنا وإمام المرسلين لهانت مصيبته ولو عظمت، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصابَ أحدَكُم مُصيبَة، فليذكُر مُصيبتَهُ بي، فإنها من أعظمِ المصائبِ". أو رآها لم تمسْ إسلامنا لصغرتُ في عينه كل آلام الحياة. لم نخلق لنعيش السعادة الدائمة، ولا لنتذوق حلاوة العيش الرغيد فنبتسم دائمًا. إنّ الحياة بأسرها مليئة بالصِعاب التي لا تنتهي، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ" (٤) البلد.

فمهما توالت المسرات سيأتي اليوم الذي يتجرعُ كل امرئ مرارة الحزن ووعرة الطريق وضيق الحياة بأي شكلٍ من الأشكال! والفائزُ حقًا من يتلقى كلُ مصيبةٍ على أنها خيرٌ وإن لم يظهر ذلك، وكل فقد هو عطاءٌ وإن بدا غير ذلك، وكل تأخرٍ هو بشريات آتية وسعادةٌ ثمنها الصبر الجميل والرضا الصادق، وركلٌ قوي لكلِ يأسٍ أو حتى جزعْ. المشكلة تكمنُ في تعدادِ الإنسان لما يفقد! ونسيانه ما يملك، أو سأمه مما يملك ورغبته في تجديدٍ لِما يملك، نستيقظُ صباحًا، نستنشقُ هواءً، نعدّ طعامًا، كُل إنسانٍ يمضي يومه كما يحب وكما يلزم.

https://lamenteesmaravillosa.com/wp-content/uploads/2016/06/corazon-que-florece.gif?auto=webp&quality=45&width=1920&crop=16%3A9%2Csmart%2Csafe

 تتكرر الأيام، فيسأم كل شخص من حاله، يودُّ حياةً فيها روتينٌ آخر فيضجر ويضجر، حتى يغفل عن تأدية الثناء على الله على ما حباه وأعطاه. الرسول ﷺ يقول:‏ "من أصبح منكم آمنًِا في سرِبه، مُعافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدُّنيْا بحذافيرها"؛ الأمن، الصحة، قوت اليوم، تخيل كأنك ملكت الدنيا، فلا تنسى ذلك. كم من مريضٍ يتمنى ذويه أن يُرفع جهاز التنفس عنه ويعود إليهم معافًا لا وجع به! وثانٍ أرهقه النوم على أسِرة المشفى، يتمنى العودة لبيته سالمًا معافى، وآخرون اعتادوا الألم ومرارة الداء والدواء.

كم من فقيرٍ يسعى من طلوع الفجرِ باحثًا عن رزقٍ زهيد ليسدَ جوعًا أنهش بطون أبنائه في المساء ليكونَ صباحًا عنوانه: لا حرمان اليوم! كم من مغتربٍ يتمنى أن يعود إلى أحضان عائلته يلتمسُ دفء والديه وحُب إخوته! كم من زوجةٍ تبكي حسرةً، تتمنى أن تلمسَ يد طفلٍ تداعب شعره صباح مساء. وثانية تمضي الأيام تبكي فقيدها الذي وُضع تحت الثرى، وأخرى تُهدئ نفسها بالدعوات والصلوات منتظرة عودةِ زوجها من أسرٍ فرّق شملهم.

وضح الدكتور: عبد الرحمن ذاكر الهاشمي في حديثٍ له أن أصعب ما يواجه النفس هو الألفة التي تحرمها المتعة، ألفة الأشياء التي تحرمها متعة الأشياء في ذاتها، فكثير من الغنائم لا يعتبرها المرء غنائم مثلًا: مرور يومك بدون تراجع غنيمة، ثباتك وهدوؤك غنيمة، إمساك لسانك عن أمرٍ اعتدت الخوض فيه غنيمة، إمساك بصرك عن أمرٍ اعتدت البصر إليه غنيمة، لعب رياضة ولو بأقل القليل، ولم تكن من قبل في اعتيادك، غنيمة، مسألة الالتزام بقراءة معينة لم يكن لها التزام لديك غنيمة.

ثُمَّ أوصى قائلًا: احصوا غنائمكم في اليوم، ستجدون أنكم في نعمٍ يصعبُ إحصاؤها ونعم الله لا تُحصى، "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (٣٤) إبراهيم. "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (١٨) النحل. فكل يومٍ تُؤدي فيه صلاة الفجر هو رفعة، كل يومٍ تقرأ فيه القرآن، ترتله بصوتك وتسمعه بأذنك هو نعمة حُرم منها الكثيرون، كل يومٍ تستيقظُ وأنت ترى، تسمع، تمشي، تمسك بيدك، تمارسُ يومك كما تحب، فهو نعمة وإن لم يأتيكْ غيرها.

لأنك متى حُرمت منها علمت عظمتها، يقول سيدنا علي كرم الله وجهه: "‏العافية إذا دامت جُهلت، وإذا فُقدت عُرفت". فنحنُ دائمًا في عافية ونعم، لكن لدوامها جهلناها، ومتى فقدناها أبصرنا عظمتها. يقول الدكتور عبد العزيز الشثري منبهًا: ‏تعوذوا بالله من نسيان النِّعم". قد يقتلك الروتين الهادئ لحياتك، ويضيق صدرك بتشابه أيّامك، ولو تأملت قليلًا لأدركت أن يومك الذي يشبه أمسك في صحتك وقربِ أهلك وخلوّه من فواجع المصائب، هو يومٌ مُبهج تحملُ ساعاته ألف نعمة وأنت لا تشعر ".