بنفسج

للصحابيات صوت يُسمع: كيف ولماذا جادلت النساء؟

الأحد 08 يناير

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي
دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

الجُرأة والحِجاجُ مفردتان انصهرتا فيما بينهُما، في بوتقةِ الجِدال الذي لا يفرّق بين النّاس، ولا يفضّل بعضَهم على بعضٍ إلاّ بالعلم الرّاسخ، تُعليهم النيّة أو تحطّهم، والجُرأة أحد أبعاد الجدال وأساسه التي عليها يقُوم وبها يتحقّق ويكون، تدعمه وتُقيم سياجه، لكن -فلابدّ لكلّ شيءٍ من (لكن)- هل استطاع الخَلق تحقيقهما معًا دون إخلالٍ بالمعنى، دون تحريفٍ ولا تشويهٍ، ولا ترهيبٍ ولا مُصادرةٍ؟ طبعًا لا، فقُدرتهم على المراوغة والمُخادعة بمكرٍ عظيمٍ، على الإظهار والإخفاء (إخفاء ما يُظهر باطلهم وتزوير ما يُظهر أنهم ليسوا أصحاب حقّ)، مكّنتهم من تحوير مفهومَيْ الجدال والجرأة للانتصار على الغير، بما يخدم هوى النّفس، لا حرصًا على الوصول إلى الحقّ بالمناظرة القويمة. في هذه المقالة عرض ومعالجة وقراءة تاريخية وتشريعية وبيانية لـ دور المرأة المسلمة في العهد النبوي. 

| وحدة التشريع

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

ولم يبرز هذا الإخلال إلى الوجود مؤخرًا فقط، بل منذُ النفخة الأولى حين تشكّل في أبغى صوره، وصَدح في {أنَا خَيْرٌ مِنْه}، وسيستمر إلى يومِ البعث ليتجلّى في أفحشِ مظاهره وأغربها وأشدّها وقاحة، في جِدال الإنسان لله -سبحانه وتعالى- إنكارًا ومكابرةً: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. والحقيقة أنّ الجدالَ ليس مفهومًا نظريّا فحسب، ولا سفسطة، ولا نزاعًا بغرضِ البغي، يؤدّي لخصومة وفجورٍ وتراشقٍ إن انقضت الحُجج، وغلب الهوى، وأُحضِرت الأنفُس الكِبْر والمَراء متنكّرةً للحقّ إن بدا، مُنكرة للهزيمة والتّنازل لأنّهما –بالنّسبة لها- قرينَا التنازل عن هَيبتها واحترامها وكيانِها، بل يتجاوز كلّ هذا اللّغو واللّغطِ إلى معنى أقوم وأبلغ من ذلك.

معنى غير ذي عِوَجٍ إن كان حُسن الأدب، والصّبر على المُخالف، ولين القول، وسَبك الحُجج سبيلاً ومنهاجًا للبيانِ والبلاغ، قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال أيضًا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، خيرٌ ذو سمعةٍ عكرةٍ حين جفّت المحابر عن بيان المحمود من أوجهه والوقوف على أبجديّاته، أمّا بُطلان سياقِه وسُقوط شروطه، التي تجعل التحلل من الأدب منهجًا، لتغدو البذاءةُ -لفظًا وفعلاً - دليلاً على الجرأة، ومطلب الالتزام بالأدب، والاحترام مطلبًا تافهًا يمكن القفز عليه بالسخرية والتسخيف والاستهزاء، (وهذا لا يقلُّ خفّة وسطحيّة عن منهج التسلّط والاستبداد)؛ فأسبابٌ كفيلةٌ لهُجرانه والانصرافِ عنه.

ثمّ إنّ الجدال مفهومٌ شموليٌّ غير تراتبيّ، ولا إقصائيّ لسببٍ جُغرافيّ أو ماديّ أو معنويّ أو حتّى جنسيّ، ميزان التفاضل فيه العلم والأدب، فلا يقتصر على فئة أو طبقة أو جنسٍ دون آخر، ووحدهُ التّشريع –قرآنًا وسنّةً- يحدّد المنازل، السّبل والحقوق، ويضعُ الموازين بالقِسط ويُشرّع من ومتى وكيف ولمَ؟ وسأقف في هذا المقال على الجدال كحقٍّ طبيعيّ للمرأة من أجل تحصيل حقّ، أو إنكار باطلٍ، أو تغيير واقعٍ، أو إقامة عدل، أو دفع ظلمٍ. دون أن يكون جنسها سببًا في مصادرة صوتها، أو الحطّ من مكانتها، أو إذلالها والتضييق عليها، وذلك بذكر صور ومواقف خلّدها القرآن والسنّة العطرة، فبين دفّتًيْ هذين المرجعين، دارت رحى الإسلام وسارت ركابه في شتى مناكب الأرض.

| عائشة الصدّيقة ابنة الصدّيق

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

كانت أمّنا عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- رابطة الجأش، غزيرة العلم، كثيرة السّؤال، ذات جرأةٍ على الحقّ نادرة، وجَوْدةٍ للتعبير عن نفسها بالغة؛ ما وهبها ملكةً نقديّة وقدرة على تغليب النظرة المقاصديّة في الفتوى، وكانت ثابتة القلب، لم تزعزعها المصائب ولا هزّتها الفتن، قويمة النّفس، تعرفُ أقدار النّاس فتُنزلهم منازلهم، تدرك جيّدًا متى تُحكم عقلها ومتى تُدير عاطفتها.

وكانت -رضي الله عنها- إذا نطقت لم يستطع أحدٌ أن يتصدّى لها، ففيما يُروى عنها أنّ زوجاتِ النبيّ -عليه الصّلاة والسلام- أرسلن إليه فاطمة ابنته ثم زينب زوجته، ينشُدن عدله ويُطالبنه بمعاملتهنّ كمعاملته لعائشة -رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا- فلم تلبث زينب في حديثها إلى النبيّ أن وقعت في عائشة واستطالت عليها، وعائشة تراقبهما بصمتٍ، فلمّا أدركت أنّ النبيّ لا يكره أن تُدافع عن نفسها، ردّت عليها بحدّة حتّى أسكتتها، تقول السيّدة عائشة: "فلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أنشبها حتّى أَنحَيْتُ عَلَيْهَا" (أي لم أمهلها حتّى غلبتها). وما كان للنبيّ حينها إلاّ أن تبسّم وقال: "إنّها ابنةُ أبي بكرٍ"، إعجابًا بكمال فهمها وحُسن نظرها وأدبها. فما أشبهها بأبيها في شجاعتها وحدّتها، وهو الذي كان يهابه الفاروق، وقد ذكر ذلك في حادثة سقيفة بن ساعدة: "كُنْتُ أُدَارِى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ".

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

وتظهر صفاتها هذه مع النبيّ أيضًا، في حادثة الإفك لمّا رفضت بقوّة جأشٍ ودلال الحبيب على حبيبه أن تقوم للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- وتشكره بشارته لها بنزول الوحي ببراءتها من التهمة -حين أمرها والداها بذلك- وقالت: "والله لا أقُوم إليه ولا أحمد إلا الله". وكذا في خلافها معه حين سمعها أبو بكرٍ رافعةً صوتها عليه تجادله، فقال: "يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ وَتَنَاوَلَهَا، أَتَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟"، لكن النبي حال بينه وبينها وراح ينشد رضاها يبتغي الصّلح.

وقد أعانتها طباعها هذه على تبليغ العلم، ورواية خصوصياتها مع النبيّ، والتصريح للنساء من حولها بمقصده -عليه الصّلاة والسّلام- من مسائل نسائية إن صرفه الحياء عن ذلك (ككيفية الاغتسال من الحيض مثلاً)، دون أن يمنعها خجلها الأنثوي من تأدية معاني قد تتردد أخريات غيرها في التعبير عنها، كما خالفت ونقدت وعارضت فتاوى وأحكام بعض الصّحابة، خاصّة ما يتعلّق بمسائل النّساء الفقهيّة، كفهمهم الحرفيّ لحديث لعن النّامصات المغيّرات للخلق، بحيث منعوا إزالة المرأة لأيّ شعرٍ ينمو على جسمها ووجهها، في حين ذهبت هي بذوقها النسائيّ إلى إفتاء النّساء في هذه المسألة بقولها: "أميطي عنك الأذى وتصنّعي لزوجك"، فقد اعتبرتها مسألة نظافة شخصيّة.

لقد كانت -رضي الله عنها- غوّاصة في المعاني، ذات عقليّة نقديّة، واعية بتراتبيّة الأدلّة، تنزع إلى الحقّ وتقيم العدل، ولم تتجاوز في كل ذلك سمت الأدب، ولا أسقطت النّاس منازلهم، ولا بخستهم مقاماتهم، ولا تَعَدّت معهم حدود الاحترام والتوقير.

ومثل ذلك نقدها لعبد الله بن عمر بن العاص، فيروى: أنه بلغها أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن (يفْكُكْن شعورهنّ)، فقالت: "يا عجبًا لابن عمرو هذا! وهو يأمر النّساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهنّ؛ أفلا يأمرهنّ أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناءٍ واحد، فما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات". ومخالفتها في مسألة وجوب مرافقة المحرم للمرأة في السفر، فروي في المصنّف: "ذُكر عند عائشة أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقالت عائشة: "ليس كل النساء تجد محرمًا". لقد كانت -رضي الله عنها- غوّاصة في المعاني، ذات عقليّة نقديّة، واعية بتراتبيّة الأدلّة، تنزع إلى الحقّ وتقيم العدل، ولم تتجاوز في كل ذلك سمت الأدب، ولا أسقطت النّاس منازلهم، ولا بخستهم مقاماتهم، ولا تَعَدّت معهم حدود الاحترام والتوقير.

| خولة بنت ثعلبة

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

المُجادلة التي سمع الله في عرشه حوارها مع النبيّ، وهي تجادله وتشتكي إليه زوجها ابن الصّامت الذي ظاهَرها بسب خلافٍ وقع بينهما، فقال: "أنت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي". وفي محاولة استعراض حوارها مع النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام- نحرص على وضع الجِدال في سياقاته بين المبتدأ والمنتهى، كما وضعتنا خولة -رضي الله عنها-نفسها في سياقه. فنتوقّف قبل الاسترسال في الجدال، على التّفاصيل التي وقفت عندها والأخرى التي سكتت عليها:

| خلافات زوجية مستورة: المتأمّل للحديث على اختلاف رواياته، سيُدرك أن خولة لم تذكر سبب خلافها وزوجها، ولا جهرت به وهي تشكو للنبيّ، بل أسرّته حفظًا لأسرار بيتها وزوجها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! تقول -رضي الله عنها-في ذلك: "تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ...".

| لا طاعة للزّوج في مَعصيةٍ: فخولة لم ترضخ لزوجها حين عاد وطلبها لنفسه بعد أن ظاهَرَها خوفًا منها أن يكون في ذلك معصية لله ورسوله، قالت: "كَلًّا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لَا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قَلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ". الأدب مع النبيّ: ونلمحُ ذلك في قولها: "جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ"، فيه توقيرٌ واحترام لمنزلة النبوّة، وبمثله عاملها النبيّ وزاد عليها فكان حليمًا متلطّفًا مُراعيًا لغضبها، فكان يهوّن عليها مردّدًا في كل مقالة: "يَا خُوَيْلَةُ... يَا خُوَيْلَةُ..."، فيها من الرّفق واللطف ما فيها!

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

| الإصرار على المطالبة بالحقّ: فخولة ما برحت مجلسها ولا كفّت جدال النبيّ حتّى أنصفها الله من سابع سماءٍ فأنزل فيها وفي زوجها قرآنًا، وإلحاحها يدلّ على حِرصها على فضّ الخلاف وإصلاح ذات البين، ولعلمها المُطلق بأنّها تجادل دفاعًا على حقّها فقد أكل زوجها شبابها ونثرَتْ له بطنها ثمّ ما كان لها منه ختامًا إلاّ أن ظاهرها، ولا سبيل لنجاتها إلا الله ورسوله. عدم الرّضا بأنصاف الحلول: ما يثير العجب أنّ خولة حين أنزل الله قرآنه فيها -وهو قول الله الذي لا قول بعده- ما رضت بما يقع على زوجها تكفيرًا للظّهار، فتابعت جدالها للنبيّ تريد أن تخفّف عن زوجها، فهو شيخٌ كبير فقير معدمٌ، وما برحت مجلسها حتى كان لها من النبيّ ما يُرضيها.

"يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عُمَيْرًا في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سُمّيت عمر، ثم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتّق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب".

ولخولة موقفٌ آخر مع سيّدنا عُمر بن الخطّاب، تجادله فيه وتحاججه، فتقول: "يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عُمَيْرًا في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سُمّيت عمر، ثم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتّق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب". وسيّدنا عمر يحني رأسه إليها يسمعها، لا احتقرها ولا انصرف عنها. بل قال -حين همّ أحد مرافقيه لإسكاتها-: "دعْها، أمَا تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبعِ سمواتٍ وعُمر أحقّ والله أن يسمع لها".

| أسماء مُهاجرة الهجرتين

دور المرأة المسلمة في العهد النبوي

كانت أسماء بنتُ عُميس ذات شخصيّة قويّة، لا تخافُ في الله لومة لائمٍ، جريئة، فصيحة، مُنصفة، ومن أبرز ما يروى عنها قصّتها مع سيّدنا عُمر بن الخطّاب حين قال لها وهي في بيت أمّ المؤمنين حفصة: "سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مِنْكُمْ"، فغضبت أسماء وهبّت قائلةً: "كَذَبْتَ يَا عُمَرُ كَلَّا "، ثمّ راحت تعلّل ردّها وتحاججه وكأنّه نبش بقوله ذاك آلام غربتها، والكرب والتّعب والنّصب الذي لاقته في الحبشة، فزادت عليه: "وَاللَّهِ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي أَرْضِ الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ فِي الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ". وما اكتفت بذلك بل سارعت إلى النبيّ تشكوه عُمر وتسأله أن ينصفها، فكان لها ما أرادت، فقال: "لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ، أَهْلَ السَّفِينَةِ، هِجْرَتَانِ".

إنّ المتأمّل لهذه المشاهدِ -وغيرها ممّا يدور في نفس السياق- سيَلْحَظُ ما كان يتحلّى به المسلمين في تلك الحقية من أدبٍ وحُسن فهمٍ وطيب خُلقٍ في التعامل فيما بينهم، وفي الجدال والمناظرة، دون أن يبخس أحدهم الآخر حقّه ومقامه، ويتجرأ عليه بقلة أدبٍ أو احتقارٍ لاختلافٍ في الجنس أو الجاه أو العرق أو اللون، وهو ما يجب أن يكون عليه خلق المسلمين حقًّا، وهو خلافُ ما نراه ونعايشه اليوم.

لم تكُن مساحات القَصَص في القرآن عبثًا، بل هي لبيان الأسُس والقِيم، الحقوق المكفولة والحدود المضبوطة، وتوضيح اختلافه عن محض البَغي والاستعلاء والانفِعال دون إقامة وزنٍ لمصلحة الدّين على النّفس، فلابد للنّفس البشريّة من سلطان معنوي قَيِّم.

ثمّ إنّ أبجديات منطق أي جدالٍ أو نقاشٍ أن يكون له دور بنّاء في ترسيخ مفاهيم واقتلاع أخرى، في بيان حقّ وطمسِ باطلٍ، وحدود يقف عندها بلا تَحامُلٍ على المُخالف ولا تقبيحٍ له وترذيل، وثوابت يقوم عليها وبِها، وقِبلة إليها يُولّى، إن اختفت هذه الأدوار وسقَطت هذه الحدود، وانهدَمت هذه الثّوابت، والتفَتت النّفوس عن قِبلتها، تحوّل إلى شخصنةٍ خالصة وانتصارٍ للذّات، بلا مبرر اندفاعٍ ولا قيمة أخلاقية جوهرية تجعل البغيَ جائزًا، والتّطاولُ مباحًا، وسوءَ الأدب سبيلاً. لذا، لم تكُن مساحات القَصَص في القرآن عبثًا، بل هي لبيان الأسُس والقِيم، الحقوق المكفولة والحدود المضبوطة، وتوضيح اختلافه عن محض البَغي والاستعلاء والانفِعال دون إقامة وزنٍ لمصلحة الدّين على النّفس، فلابد للنّفس البشريّة من سلطان معنوي قَيِّم، ومعالم هذا السلطان في الفرقان، وحي الله الذي يضع الموازين بالقِسط، ويضبط الحدود ويكفل الحقوق.