بنفسج

عزيزتي حاء... حديثي إليك حواء

الخميس 20 يناير

عزيزتى حاء، تحيةٌ إليكِ من أخرَى لا تُشبهك، أكثرّ قوّة وصلابة بفرضِ واقعٍ لم يكُن لها فيه اختيار، أُخرى تميلُ حينًا لأقصى العاطفةِ، وآخرَ لأقصى العقلِ ولا توسّط عندها في الكثيرِ من الأشياء. أخرى لا تحبذُ المنتصف، قد تختارُ السقوط من الهاويةِ على أن تعلَق في حالِ لا يُرضى قيمةً لا ترضَى هوانها لذاتِها. ليسَ في الأمرِ غرورٌ أو تكبّر، وإنما كبرياءٌ بحت، يدفعنُي لإفلات الكفّ التي لا تتشبثُ بي، ولو كان إفلاتها يعنى هلاكي، أهلكُ ما بيني وبين نفسي، أضعفُ ما بيني وبين نفسي، وللآخرين بسمةُ الوجه وشموخُ الجبين واقتضابِ الجواب، لأن الإسهاب فيه يعنى أن تخون النبرةُ صاحبها بالنحيب بين الكلمات!

لا تستمدُ دعمها من اتصالِها بآخر، بل من صلةٍ لا تنقطعُ مع صوتِ دواخلها، ومع مقياس الصوابِ والخطأ في كل حال، وتحت قسوة كلّ شعور، نفسُ تملكُ ما يكفى من شجاعةٍ لتضع نقطةً في آخر السطر، ولا تكتفي بالانتقالِ لغيره، بل بإحراقِ الدفترِ كاملًا وتقبّل حقيقة أنها على وشك خوضِ بدايةٍ جديدة، ولادةٍ جديدة، متعسرةٌ لكن كما تهوِّن الطلة الأولى للوليد آلام المخاض، فإن الصباح الذى يفتحُ الواحدُ فيه عينيه بعد زمانٍ من التيه، ليُدرك أنه بلغ وجهته أخيرًا ، يهوّن عناء الانعتاقِ من الماضي، ومشقة السيرِ في طريقٍ وعرٍ وحيدًا بعد أن ظنّ يومًا أن قدمي من أحبّ لن تُفارقاه أبدًا.

 هل تعرفين كيف تزداد قيمة المرء في عينّي نفسهِ وأعين الناس؟ بالتخلي، أن يدركوا وجود مقدرتك عليه حين تحتدم الأمور، حين تحصرك الحياة يومًا في دورٍ لا يليق بك، لا يليقُ بنفسٍ مُكرمة تستمد قيمتها من حقيقة وجودها لا من نظراتِ الآخرين ولا كلماتهم ولا فضلة مشاعرهم أو منة مواساتِهم.

عزيزتي حاء، لم تكُن الجسارة أبدًا أن ينأى المرءُ بنفسه عن الخطأ، وإنما أن يملك جرأة الاعترافِ به والرغبة الصادقة في التأشيرِ بخطوطٍ عريضةٍ على موضعهِ وتعويضِ نفسهِ بوعدٍ ألا يُعرضها لمثيلهِ من جديد عزيزتي حاء، نحنُ نفقدُ أجزاءً من أنفُسنا يومًا تلو الأخر حين نفنى في غيرِنا، حين نضع أرواحنا ومشاعرنا بين كفيه يفعل بها ما شاء، نحنُ من نتقدم بخطواتٍ حثيثةٍ ناحية الخذلان والفجيعة، ثم لاحقًا من نلوم سوى أنفسنا؟!

عزيزتي، السيرُ إلى جوارِ الأخرين خيرٌ من السيرِ فوق أكتافهِم، الأول عزّ واستغناء، والثاني حملٌ سيفلته الآخر يومًا تعبًا أو مللًا أو زهدًا، تتعدد النتائجُ والخاتمة واحدة. إن خشيتنا المريضة والرهبة التي تخطفُ دمنا خوفًا من خسارة الآخرين، للمفارقةِ الساخرة لا تقودنا سوى لخسارتهم رغم كل الجهود لاستبقائهم! وإن جزءًا من قوّة المرءِ تكمن في إدراكهِ أنه لن يكون خسارةً سوى لمن أحبه حقًا وتآلف معه حقًا، وكان مرآته حقًا، ومن لم يفعل فلن تكون الخسارة له سوى مكسبٍ ولو أوجعهُ الأمر قليلًا في النهاية.

عزيزتي حاء، إن استثارة تعاطفِ الآخرين قد يُهَوِن شيئًا من الألم، لكن استثارة إعجابهم يذهبُ بكلّه أدراج الرياح، وإن ماضٍ لا خسارة فيه ولا دروس قاسية، لن يقود لمستقبلٍ جميل. وإن الرابح الأكبر ليس من نال كل ما أحبّ وأراد، بل من لم تُصيره هذه الأشياء عبدًا لها. عزيزتي حاء، كنتِ واحدةً من نساءٍ قليلات انطبعن في ذاكرتِي طويلًا، كنتِ امرأة لا تشبهني على الإطلاق لكنني وددت لو صادقتها ووجهتُ لها هذه الكلمات وجهًا لوجهٍ بكفينِ يُربتان على وجنتها ويحتويانِ شعثها وفمٍ يتمتمُ بالمواساةِ أولًا، ثم يسبُّك على ما سببتهِ لي من أوجاعِ رأسٍ لاحقًا!