بنفسج

لالة فاطمة نسومر: امرأة من واجهة الثورة الجزائرية

الخميس 18 اغسطس

كانت البداية من أعالي جبال جرجرة الجزائريّة، وكانت الربوات الشاهقة فيها تردّد صدى الثورة الملتهبة لتكون جحيمَ مستعمر معتدِ سلب الأرض، ومحى معالم الهويّة واعتدى على الكرامة، وأباد الملايين. وكانت صاحبة الصدى امرأة حديدية تُسمّى لالة فاطمة نسومر، لم تمنعها الحناجر الكسيرة حولها من أن تبادر فتصرخ بأعلى صوتها: "ليس في الأرض سادة وعبيد كيف نرضى بأن نعيش عبيدًا؟" [1]. فقادت ثورة عُرفت باسمها، خلدتها صفحات التاريخ إلى جانب ثورات الرجال الشجعان؛ يُقال مقاومة لالة فاطمة نسومر.

كما يُقال مقاومة الحداد، ومقاومة الأمير عبد القادر، ويشهد الأعداء على شجاعتها ملقبين إياها بجون دارك جرجرة، فترفض هي أن تُنسب إلى كلّ ما يمتّ للاستعمار بصلة، وتختار لقب "خولة جرجرة" تيمنًّا بالصحابية الجليلة "خولة بنت الأزور" التي كانت تتخفّى في زيّ الرجال لتقاتل في جيش خالد بن الوليد. فمن هي هذه البطلة التي أفنت زهرة شبابها في المقاومة، وتوفيت في سن الثالثة والثلاثين بعد أن أوقفت المستعمر على ساقِ واحدة؟

| ولادة على صفيح ساخن

لالة فاطمة نسومر، لم تمنعها الحناجر الكسيرة حولها من أن تبادر فتصرخ بأعلى صوتها: "ليس في الأرض سادة وعبيد كيف نرضى بأن نعيش عبيدًا؟" [1]. فقادت ثورة عُرفت باسمها.
 
ولدت سنة 1830 في أعالي قرية ورجة بمدينة تيزي وزّو الجزائرية التي تعدّ إحدى أكبر المدن الأمازيغية في البلاد. وبينما تعكس هذه السّنة صورة بائسةً في الذاكرة الجمعية للشعب الجزائريّ بسبب كونها بوابةً لمأساة حقيقية لم تنته إلا بنيل الاستقلال بعد 132 سنة.

فتحت لالة فاطمة نسومر عينيها لأول مرّة على مشاهد الخذلان، وأساطيل الاحتلال؛ إذ ولدت سنة 1830 في أعالي قرية ورجة بمدينة تيزي وزّو الجزائرية التي تعدّ إحدى أكبر المدن الأمازيغية في البلاد. وبينما تعكس هذه السّنة صورة بائسةً في الذاكرة الجمعية للشعب الجزائريّ بسبب كونها بوابةً لمأساة حقيقية لم تنته إلا بنيل الاستقلال بعد 132 سنة، فقد كانت كذلك محطّة مفصلية ظهرت في إثرها الكثير من المقاومات التي عبّرت عن الرفض المطلق للاستعمار منذ لحظة بداياته.

ولعلّ الوسط الاجتماعيّ والثقافيّ الذي نشأت فيه لالة فاطمة نسومر هو ما ساهم في تشكيل فسيفساء شخصيتها، وبلورة معالمها؛ فقد تربّت على لفظ المقاومة منذ نعومة أظافرها باعتبار المدّة الزمنية التي عاشت فيها، والتي شهدت توغّل جحافل الاستعمار في مدن الجزائر، وولادة الكثير من المقاومات الشعبية الرافضة لذلك. كما أنّها ابنة سيدي أحمد محمد شيخ الزاوية الرحمانية آنذاك، ويعود نسبها إلى سيدي أحمد أومزيان الذي كان مقدّمًا للطريقة الرحمانية. أمّا أخواها الطاهر، والطيّب فقد عُرف عنهما حفظهما للقرآن الكريم، وتفقههما في الدّين.

الملفت للنظر في كلّ هذا هو أنّ لالة فاطمة نسومر كانت تتقن القراءة والكتابة، وأثر عنها حفظها للقرآن في سن السّادسة، في وقتِ كانت النسوة يمنعن فيه من الدّراسة في الزاوية، واقتصر الحفظ على الذكور، ممّا جعل منها استثناء بين قريناتها. يقول الدكتور كريم بلعيد (57 سنة) من قرية تيزي راشد في تيزي وزّو أثناء حديث مع بنفسج: "تعلّمت لالة فاطمة نسومر القراءة والكتابة من خلال مشاهدة الدروس التي كانت تعطى للصبية في الزاوية، وحفظت القرءان بفضل استماعها لتكرارهم للسور". وقد أكّدت على ذلك الباحثة سميرة تواتي في ورقتها البحثية بعنوان: "لالة فاطمة نسومر: الروحانية والمقاومة والقيادة النسائية في الجزائر المستعمرة"[2]. مشيرةً إلى أنّها اعتمدت على ملكة حفظها في تحصيل علمها.

| لالة فاطمة نسومر: وقفاتٌ في الاسم والمعنى

مدينةتيرزي.jpg
مدينة تيزي وزو الجرائرية التي ولدت فيها لالة فاطمة نسومر

تنتمي لالة فاطمة نسومر إلى عائلة المرابطين، "إمرابض"، وهي عائلة تحظى بتقدير شديد من قبل القبائل الأمازيغية؛ لأنّها تعرف بورعها، والتزامها الدينيّ، واحتوائها للكثير من الولاة الصالحين في المنطقة. وفي هذا الصّدد، تعرب نادين (22 عامًا) عن استغرابها من جدّتها التي تنادي أولادها بـ: "لالة" و"دادة" لأنّهم من عائلة المرابطين؛ إذ يطلق لفظ لالة في منطقة شمال إفريقيا كتعبير على التقدير والاحترام والمكانة العالية التي تحظى به صاحبته.


اقرأ أيضًا: وجيهة الحسيني: امرأة الثورة وصانعة الثوار


أما اسم فاطمة، فينطق بالأمازيغية فاظمة – Fathma على حدّ قول نادين، وهي الطريقة التي يدعو بها سكان المدينة هذه السيّدة و"نسومر" هو لفظ النسبة إلى قرية سومر، فأتى الاسم مجتمعًا "لالة فاظمة نسومر" وأدّى مراد الهوية والانتماء بجدارة؛ فقد عرفت تلك المنطقة (منطقة القبائل) منذ القدم بثوراتها وحبّها للأرض، وتمسّكها بغصن الزيتون وتلابيب الحرية. [3]

ونحن إذ نقف في المعنى من حياة لالة فاطمة نسومر، فإنّنا نرصد ثلاث جوانب رئيسية ساهمت في صنع شخصيتها وجعلت منها مثالًا يحتذى به، وتتداخل بعضها في بعض لتشكّل معلمًا وجب الوقوف عنده والاعتبار به، وهذه الجوانب هي القيادة والروحانية والحرية.

| أن تكون الروحانية سبيلًا للقيادة

الشريف.jpg
المناضل الشريف بوبغلة الذي قُطع رأسه وهو حي

انضمّت لالة فاطمة نسومر إلى صفوف المقاومة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ وهي في التاسعة عشر من عمرها، وكانت بداياتها بالمشاركة في القتال إلى جانب صفوف المجاهد أبو معزة. وبعد سنة من ذلك، التحقت بمقاومة الشريف بوبغلة في معاركه التي ساهمت في منع امتداد الاستعمار نحو أراضي جرجرة، وقد أعجب القائد "بوبغلة" بشجاعتها وحنكتها، وطلب يدها للزواج فرفضت بسبب تعليق زوجها الأول لعصمتها.

بدأت قيادة لالة فاطمة نسومر الفعلية سنة 1854، وقد تسبّبت في خسائر فادحة للمستعمر الفرنسيّ. لكنّ المغزى يكمن أساسًا في كيفية تقبل مجتمع لطالما كانت مقاليد الحكم والقرار فيه للرّجل لأن تتمّ قيادته من طرف امرأة عزلاء. يقول الدكتور كريم بلعيد بأنّ ورعها وزهدها له أثر كبير في تهيئة هذا القبول، فقد كانت مضرب المثل في روحانيتها واستقامتها. كما أنّ قوة شخصيتها وعزيمتها فرضت على الرجال احترامها وتعيينها كقائدة لهم، مضيفًا: "ورث عنها بأنّها كانت تأمر بربط أقدام الرجال بعضهم ببعض حتّى لا يفرّوا من مواجهة المستعمر في المعارك".

الاحتلال الفرنسي1.jpg
ناضلت لالة فاطمة نسومر ضد الاحتلال الفرنسي

لم تتوقف لالة فاطمة نسومر عن تشجيع أتباعها وإعدادهم نفسيًّا لمواجهة الزحف الاستعماريّ، يقودها حبّها لله والوطن والأرض التي غرست فيها جذورها. وقد نجحت في أن تلحق الهزيمة بالمستعمر الفرنسيّ في أولى معاركها معه سنة 1854، والمعروفة بمعركة "سباو العلى"، مخلّفة أكثر من 400 قتيل وما لا يزيد عن 20 قائد فرنسيّ. كما توالت انتصاراتها بعد ذلك في عديد من قرى المنطقة، ونجحت في أن تثبت للمستعمر أولًا، وللعالم ثانيًا بأنّ حق المرأة في الدفاع عن أرضها مكفول لا يسقط بالتقادم.

استمرّت مقاومات لالة فاطمة نسومر إلى غاية سنة 1857 حينما طلبت الهدنة والتفاوض بعد قتال باسل، واشترطت على قائد الاحتلال حقن دماء كلّ الذين قاتلوا معها. ولأّنّ الاستعمار لا ملّة له ولا دين ولا ذمّة، فقد نقض العهد فورًا وقضى على المجاهدين، ونفى لالة فاطمة نسومر إلى مدينة المدية أين بقيت لمدّة سبع سنوات قبل أن يتوفاها الموت بسبب إصابتها بالشلل وهي في عمر الثالثة والثلاثين.

فاطمة نسومر1.jpg
فنان جزائري يرسم  لالة فاطمة نسومر

هناك الكثير من الأساطير والقصص التي تنسج في بلاد القبائل حول لالة فاطمة نسومر[2]، والقصّة في النهاية سبيل من سبل الكفاح، وغرس القيم، وانعكاس لمكانة هذه المرأة في بلادها ومسقط رأسها. وفي تصوير لحظاتِ الانعتاق في معركتها الأخيرة، يقولون بالأمازيغية: أَمَلَّه يا فاطم نسومر لَلْأَمَهْزُور ذَلْحَنّي.. إِسْمِسِي إِنُذَ لَعْرَاش يَبِّتْ أَثْغَاب وَرْثَلِّي.. أَبْنِي أَسْلِيمان سِيلْ أَيَهْزِي أَذَلْحَمْلي.

يشرح لنا زكرياء (26 سنة) ونادين (22 سنة) معاني هذه الكلمات باللغة العربية، والتي جاءت كرثاء لامرأة لا يجب أن ترثى لأنّ الرثاء للأموات، أمَّا هي فلا تزال حيّةً بين أشجار الزيتون وخبز التنّور: آه لالة فاطمة نسومر ذات الشعر المخضوب بالحناء.. ذاع اسمها في القرى لكنّ المستعمر هجّرها، فاختفت.. ها هي عند بني سليمان آه من دموعي التي تذرف كالسّيل سيدة "ورجة"، سيدة الحرية.

| رفضها للزواج

رفات غاطمة.jpg
ضريح لالة فاطمة نسومر

كانت لالة فاطمة نسومر ذات عزيمة، وإرادة وشخصية قويّة جسّدت عبرها الكثير من القرارات التي اتّخذتها من تلقاء نفسها، ورفضت معها أن ترضخ للمجتمع. ومن أبرز معالم ذلك موقفها من الزواج، ورفضها للكثير من الرّجال الذين تقدموا لها رغم كلّ محاولاتِ أخويها ووالدها. وبعد وفاة أبيها، زوّجت قصرًا من ابن عمّها الذي أحبها كثيرًا، لكنّها بقيت مصمّمة على رأيها ولم تسمح له بأن يقترب منها؛ فعادت إلى منزلها، مع تعليق زوجها لعصمتها ورفضه تطليقهَا مع تباين الآراء حول دافعه من وراء ذلك، ما بين رغبة في الانتقام، وأمل بعودتها له نابعًا عن حبّه له، حسب ما ورد في مقال الباحثة سميرة تواتي [2].

بلاد القبائل، هناك تقدير كبير للمرأة، وهم يضربون لنا بها المثل ليغرسوا فينا حب الوطن والعلم منذ صغرنا؛ يقولون: الأرض هذي مدتلكم بزاف، ومتنساش إذا بلادك احتاجتك تكون حاضر من أجلها".

يعطينا هذا الموقف تصوّرًا حول مدى جسارة لالة فاطمة، وثباتها على رأيها في وسط لم يكن للمرأة فيه خيار من غير الزواج، وكان رفض الزواج فيه من المستحيلات التي لا يمكن أن تقع، وقد ولّد موقف لالة فاطمة من الزواج لفظًا جديدًا يطلق على كلّ امرأة ترفض الزواج بعناد في منطقة القبائل، فيقولون: "لالة ن ورجة"، أي "سيّدة ورجة" انتسابًا إلى لالة فاطمة نسومر التي كانت من منطقة ورجة.

لا تزال لالة فاطمة نسومر مضرب المثل في القوة والقيادة وطلب العلم على حدّ قول المهندسة المعمارية سيلين جاووت من قرية أولخو بتيزي وزّو، والتي تضيف: "في بلاد القبائل، هناك تقدير كبير للمرأة، وهم يضربون لنا بها المثل ليغرسوا فينا حب الوطن والعلم منذ صغرنا؛ يقولون: الأرض هذي مدتلكم بزاف، ومتنساش إذا بلادك احتاجتك تكون حاضر من أجلها". بلادكم التي قدّمت لكم الكثير، يجب أن تقدّموا لها أنتم كذلك، كما فعلت لالة فاطمة نسومر!


| مراجع

[1] بيت شعريّ من قصيدة "الذبيح الصاعد" لشاعر الثورة الجزائريّ: مفدي زكريا

[2] فاطمة نسومر

[3] الأمازيغ كلمة تعني الرجال الأحرار، أمّا غصن الزيتون فهو كناية عن أرض القبائل الأمازيغية التي تعرف بحقول الزيتون.