بنفسج

أبوة أم صداقة: هل يمكن أن تكون مربيًا وصديقًا في آن؟

السبت 26 مارس

تختلف العلاقات بين البشر تبعًا لقربهم أو بعدهم عن بعضهم بعضًا؛ كلما اقتربوا زادت العلاقة تعقيدًا وتركيبًا، ولعل العلاقة بين الأهل وأبنائهم من أدق تلك العلاقات وأكثرها حساسية، فكثير من الآباء/الأمهات اليوم  يعانون من تسلط أهالهم عليهم عندما كانوا صغارًا، هذا التسلط دفعهم إلى تغيير إطار وشكل علاقتهم مع أبنائهم كليًا عندما كبروا وأصبحوا في موقع المسئولية (مكان أهلهم)، وظنوا أن استبدال علاقة الأهل التسلطية بشكل آخر هو الصداقة؛ فهل هذا ممكن؟ هل تعني صداقة حقيقية كأي علاقة صداقة؟ 

يحسب الآباء إن أصبحوا أصدقاءً لأبنائهم، أن هذا سيجعل الأبناء دائمًا أقرب لهم، فستكون العلاقة بين الابن وأبيه أكثر سلاسة، فيصارحه بكل هواجسه وخواطر ه، خاصة في مرحلة المراهقة، وستجد الابنة في أمها ملاذًا آمنا لكل ما يمر بها.  ولكن ما هو الثمن الذي سيقدمه الآباء للحصول على تلك المكانة في قلوب صغارهم؟ وهل الصداقة بين الأهل وأبنائهم تكون مثل الصداقة العادية أم لها خصائص فريدة تميزها؟ هذا ما سنحاول استعراضه في هذا المقال.

| العلاقة بين الآباء والأبناء: أبوة أم صداقة 

لنتحدث بداية عن علاقة الأهل بالأبناء (المرحلة الأولى من الحياة): فيما مضى، كانت الأبوة -وسأعبّر بهذه الكلمة عن مهام الأمومة والأبوة معًا، ولا أقصد الأب بشكل حصري، وهو ما ينطبق على كلمة أهل أيضًا. يسمع الأبناء فيطيعون من دون نقاش، ولكن ظهرت بمرور الوقت دعوات تعطي اهتمامًا أكثر للأطفال، وأن الطريقة القديمة  خلفت مشاكل نفسية عديدة من ناحيتين، الأولى كانت بسبب التسلط الشديد من الآباء على الأبناء، والثانية بسبب التسيب التام.

لنتحدث بداية عن علاقة الأهل بالأبناء (المرحلة الأولى من الحياة): في ما مضى، كانت الأبوة -وسأعبّر بهذه الكلمة عن مهمات الأمومة والأبوة معًا، ولا أقصد الأب بشكل حصري، وهو ما ينطبق على كلمة أهل أيضًا. يسمع الأبناء فيطيعون من دون نقاش، ولكن ظهرت بمرور الوقت دعوات تعطي اهتمامًا أكثر للأطفال، وتعطيهم بعض المساحة للنقاش والحوار، أن الطريقة القديمة  خلفت مشاكل نفسية عديدة من ناحيتين، الأولى كانت بسبب التسلط الشديد من الآباء على الأبناء، والثانية بسبب التسيب التام والدلع المفرط الذي يعطيه الآباء لأبنائهم أحيانًا، وذلك في محاولة منهم للتخلص من عقدة التسلط التي مارسها عليهم آباؤهم وهم صغار، فأرادوا تعويض أبنائهم وإسقاط كل الحدود والحواجز بينهم وبين الأبناء، ورفعوا شعار "لنكن أصدقاء لأبنائهم ونقدم لهم ما قد حرمنا نحن منه".

ولكن، هل يمكن أن تظل دائًما أفضل وأقرب صديق لأبنائك؟ وهل يجب علينا هذا من الأساس؟ هل يجب أن نكون حازمين بشكل مطلق في دورنا كآباء؟ أم يجب إعطاؤهم الحرية ليعبروا عن أنفسهم كيفما أرادوا مثل البالغين؟

الصديق لا يعطي الأمان، تقول باربرا هارفي¹، المديرة التنفيذية لأولياء الأمور والمدرسين والمحامين في أتلانتا، "إن الأطفال يريدون، بل ويحتاجون لحدود، ويعتمدون على الأهل لوضع تلك الحدود ليبقوا في أمان. عندما لا يكون هناك حدود للأطفال؛ يصيبهم ذلك بالقلق لأنهم لا يشعرون بأمان حقيقي في المنزل، وهم يدركون ضعفهم وحاجتهم للعناية والرعاية والحماية".


اقرأ أيضًا: الأب الأعزب: ما الذي فعلته التنشئة بأدوارنا؟


الأبوة ضرورة لبناء الحدود اللازمة للنمو السليم للأبناء، فعندما يصبح الطفل هو أفضل صديق لوالديه غالبًا ما تسقط تلك الحدود بينهما، وهذا يصيب الأطفال بالقلق، فهم غير مؤهلين نفسيًا أو وجدانيًا لهذا الدور بعد، وهو أكبر من قدرتهم. وإن تم ذلك بشكل أو بآخر يجعل الطفل ينضج أسرع مما هو مفترض، ويحرمه ذلك من التواصل الصحي مع أقرانه وأن يعيش سنه. الصداقة الحقيقية تقوم على التكافؤ بين الأقران أو الأتراب (نفس العمر)، مرورًا بنفس التجربة الحياتية والشعورية، وهذا غير موجود بين الأهل (الأكبر سنًا والأكثر خبرة بالحياة) وأبنائهم، خاصة في سن عمرهم الأولى.

ومن الجدير بالذكر، التنويه إلى فرق في غاية الأهمية، ونلاحظ شيئًا مهمًا هناك، قد يقول الطفل أن والديه هم أقرب أصدقائه، هذا مختلف عن أن يتخذ الآباء أطفالهم أصدقاء! عندما يقول الطفل ذلك يعني أن أهله نجحوا في أن يكونوا الكبار الموثوقين في حياة الطفل الذي يتوجه إليهم بالكلام وطلب الدعم، ولكن إن تم العكس، وأصبح الكبار يحكون ويخبرون الطفل ما لا ينبغي معرفته - في هذه الحالة يشعر الطفل بمسؤولية عن أهله، فلا بد أن يتخلى عن دوره كطفل لممارسة دور صديق والديه و يكون على قدر المسؤولية.

أبوة.png
يظن بعض الآباء أنهم إن كانوا أصدقاء لأبنائهم – من دون قيد أو شرط أو حدود واضحة - فهذا سيضمن لهم طاعتهم

الطفل بحاجة ماسة للتوجيه والإرشاد، يقول نيكول باركنز¹، أخصائي نفسي مرخص مع مركز Horizons Developmental Resource Center في ميشيجان، "إنه يجب على الأهل التمسك بدور الموجه والمرشد للطفل، ووضع كل القواعد التي تضمن سلامة الطفل وتبين لهم عواقب الأمور. الحد الفاصل بين الأبوة والصداقة رفيع للغاية لدرجة التشويش، فكلاهما يحتاج للإنصات الجيد، وإمضاء وقت ممتع معًا وتفقد أحوال الآخر، ولكن في النهاية صديقك لن يجعلك تتبع قواعد يضعها لك، وأحيانًا قد لا يعطيك نصيحة صادقة."

يقول كاشري برايت¹، معالج في ولاية يوتا مختص بالأطفال والمراهقين، "على الأهل أن يشعروا بالمسؤولية تجاه أبنائهم باستمرار، ويجب أن يقبلوا ألا يحبهم أبناؤهم في بعض الأوقات، خاصة عند إجبارهم بأشياء ضد رغباتهم وهي في صالحهم! وألا يؤثر ذلك على مسؤولياتهم نحوهم، لأنهم لا بد وأن يتخذوا بعض القرارات في صالح الأطفال وعكس رغبتهم، كالمذاكرة والاستحمام وغسل أسنانهم."

الصداقة والمحبة لا تضمن لك الطاعة الدائمة، يظن بعض الآباء أنهم إن كانوا أصدقاء لأبنائهم – من دون قيد أو شرط أو حدود واضحة - فهذا سيضمن لهم طاعتهم، لأنهم يحبونهم كأصدقائهم، ولكن في الواقع ما يحدث هو العكس! سيحدث خليط في الأدوار عند الأطفال، وإن أراد الأهل وضع قواعد -فيما بعد - سيستاء منهم أطفالهم، فهم لم يكن لهم أي دور داعم في حياتهم ولم يقدموا حماية أو رعاية فيما سبق، فلماذا يتحكمون بنا الآن؟ سيقاوم ويرفض الأطفال طاعتهم!

أبوه.png
يمر الطفل بمرحلة الاستقلال وهي مرحلة نفسية أشبه بفطام الطفل النفسي من الأسرة

سلطة قد تشكل خطورة على طفولة أبنائك، تقول شانا دون هاوزر¹، معالجة الطفل والأسرة في سياتل، "عندما يفقد الأهل سلطتهم على أبنائهم، يكسب الأطفال كثير من السلطة غير متناسبة مع عمرهم، وهذا يعرضهم للقلق أكثر من غيرهم من الأطفال ويجعلهن أكثر عدوانية وشراسة إن لم تنفذ رغباتهم، لا بأس من أن يصبح الأهل على علاقة وطيدة وقريبة ودافئة مع أطفالهم، شرط أن يعرف الاطفال أن الآباء هم المسؤولين عن القرارات أن يضعوا لهم حدودا واضحة وصارمة."

كثير من الآباء لا يحبون دور الديكتاتور في العلاقة بأطفالهم، لا بأس من ذلك. يمكن أن تكون العلاقة شبه صداقة من ناحية تشجيع الطفل وتقليل الانتقاد في كل تفاصيله، ولكن لا يجب أن يتخلى المربي تمامًا عن دوره في الإرشاد ووضع قائمة بالمسموحات والممنوعات. وجود المربي فكرة في غاية الأهمية في حياة الأطفال، فهناك أشياء فد تخدع الأطفال أو تجذبهم من دون جدوى حقيقية منها. ومع ذلك لا يجب أن يغفل المربي المراحل المختلفة التي يمر بها الطفل في رحلة تأهيله لعالم الكبار، هذا يوم حتمًا سيأتي.

يمر الطفل بمرحلة الاستقلال أو الفرادة²، وهي مرحلة نفسية أشبه بفطام الطفل النفسي من الأسرة، كما تم فطامه من الرضاعة عندما كبر جهازه الهضمي وأصبح جاهزًا لاستقبال طعام الكبار، يسعى الطفل في تلك المرحلة تكوين هوية ذاتية خاصة به. منذ بدء الميلاد حتى سن الثالثة لا بد أن يكون الآباء حازمين تمامًا ومسؤولين عنه بشكل كامل، فالطفل في هذه المرحلة أصغر من أن يدرك أو يميز ما حوله. في مرحلة ما قبل المدرسة يمكن أن يمرّن الطفل على بعض القرارات البسيطة، مثل اختيار الطعام في المرحلة الابتدائية نزيد من مساحة الاختيار المنضبط تحت إشراف الأهل. وكلما يتقدم الطفل في العمر يمكن زيادة مساحة الحرية المنضبطة لديه حتى تصل للتشارك وتقديم مشورة في المرحلة الجامعية.

| الأبوة: الشخص الذي تقصده عند الحاجة

بوة.png
يجب أن يكون الأهل بالنسبة لأطفالهم خط الأمان الأول يستوعبونه دون نقد

هناك تعبير أكثر دقة من الصداقة، وهي "الشخص الذي نقصده عند الحاجة"³، يفضل أن يكون الأهل لأطفالهم ممثلي الأمان والحنان. الأمان بالدعم والدفاع عنهم ضد الأخطار أو ما يقلق الطفل بشكل عام، والحنان مثل الاحتضان الجسدي والإنصات لما يمكن أن يؤرق الطفل أو الاستماع لرغبته وتساؤلاته اليومية. أن يستوعب الأهل الطفل من دون نقد دائم أو تقريع يشجع الأطفال على الكلام معهم أكثر (طبعًا هذا خاضع لنوعية شخصية الطفل نفسه هناك أطفال حكائين، وهناك أطفال طبيعتهم صامتة - جوانيين). هناك بعض النصائح التي تجعل الطفل يقصدك عندما يواجه أي شيء:

| التشجيع والتنزه معه لوحده: التشجيع المنضبط الصادق بلا تهويل وتثمين أي جهد يبذله الطفل. والتنزه يفيد الطفل وينعكس عليه بطريقة إيجابية.

| الإصغاء الجاد: مناقشة أي شيء يقوله بفعالية ومنطق، سيشعر الطفل أنك تقدره إنسانية ولا تستخف بآرائه حتى وإن لم تكن أفضل شيء.

| الثقة به: لا بد من إعطائه قدر من الثقة وتكليفه بمهام صغيرة مناسبه له.

| المرونة في التعامل: لا يجب أن تضع الكثير من الحواجز بينك وبينه، عليك إشعاره أن كلامه مهم ويستحق أن تترك الهاتف مثلا للتواصل معه. مع إفهام الطفل أن الأهل من حقهم  أن يكون لهم وقتهم الخاص. 

| منحه مساحة خاصة: إعطاء الطفل جزء من حريته وعدم التدخل في كل كبيرة وصغيرة بشكل خانق خاصة عندما يدخل عمر العشرات بداية الصبا.

| الأبوة: الأمان الذي لا مناص منه

لا يجب أن يقع الأهل في تلك الأخطاء عند وضع حدود للحماية:

| عدم المبالغة في الحماية: هذا سيعطل ملكات التطور الطبيعية للطفل ويجعله فردًا اعتماديًا.

| عدم العنف: لا يجب استسهال استخدام العنف الجسدي خاصة في الأعمار الصغيرة. فالعنف قد يجدي في البداية ثم لا يكون فعالًا كما يجب، وقد يضطر الأهل لزيادة جرعة العنف ليحدث أثرًا. كما أن العنف يجعل هذا الأمر مألوفًا وطبيعيًا لديه، وتكون هذه لغة التعامل عنده لأن هذه هي المفردات التي يعامله الكبار بها.

ومع كل ما سبق، لا يعني ذلك عدم وجود حدود أو قواعد لا تنازل عنها. الحرية إن لم يكن لها بعض الضوابط تتحول لفوضى لا يُحمد عقباها، لا يجب أن يقع الأهل في تلك الأخطاء عند وضع حدود للحماية:

| عدم المبالغة في الحماية: هذا سيعطل ملكات التطور الطبيعية للطفل ويجعله فردًا اعتماديًا.

| عدم العنف: لا يجب استسهال استخدام العنف الجسدي، خاصة في الأعمار الصغيرة. فالعنف قد يجدي في البداية، ثم لا يكون فعّالًا كما يجب، وقد يضطر الأهل لزيادة جرعة العنف ليحدث أثرًا. كما أن العنف يجعل هذا الأمر مألوفًا وطبيعيًا لديه، وتكون هذه لغة التعامل عنده لأن هذه هي المفردات التي يعامله الكبار بها، كما أنه قد يجعله عصبيًا، ولا يجيد فهم نفسه والتعبير عن نفسه بالكلام، وهذا يزيد من عصبيته أكثر لأنه لا يتواصل مع نفسه، وبالتالي مع العالم بشكل فعّال.

| زيادة المحاذير: بشكل زائد عن الحدّ، قد يؤدي إما إلى شخص يريد كسر كل هذه المحظورات، أو شخص جبان يخاف من كل شيء، والأهم أنها تقتل الفضول الفطري عند الطفل الذي يساعده على معرفة ما يحيط به ويكسبه الخبرات الحياتية اللازمة.

يثق الآباء أن ما يغرسونه في وجدان أطفالهم- حتى لو أبدوا تمرد عليه - هو ما يرسخ في وجدانهم ويمثل واحة الأمان النفسي لديهم. وما يغرسونه في نفوسهم سوف يحصدونه عاجلًا أو آجلًا، فيجب أن تبدأ الرحلة بالقواعد، ثم نعطي الثقة في اتباعها ونرفع أيدينا عنهم تدريجيًا.

| اللوم الدائم: وتحميل الطفل مسؤولية أمور خارج نطاقه، هذا أيضًا يحد من انطلاقه في الحياة ويهز ثقته بنفسه.

تنوع الأدوار: التربية فن من فنون الحياة، نكتسبها الممارسة والتعلم، ولا يجب أن يكون الأهل إما مربين فقط أو أصدقاء فقط. ولكن الأدوار تتغير تبعًا للحاجة والعمر والمواقف. الأطفال يريدون دعم من أهلهم كأنهم أصدقاء، ويريدون أيضًا الإرشاد والتوجيه.


اقرأ أيضًا: الأبوّة المفرطة: هليكوبتر تدور فوق رؤوس الأبناء


كل من الأهل والأطفال لديهم منظورات مختلفة للحياة، تبعًا للعمر والظروف التي مر بها الأهل عندما كانوا صغارًا. تذكر الأهل لطفولتهم ومشاركة أطفالهم ما كانوا يشعرون به آنذاك قد يشعر الطفل أن أهله قريبين منه ويتفهمونه. ليثق الآباء أن ما يغرسونه في وجدان أطفالهم- حتى لو أبدوا تمردًا عليه - هو ما يرسخ في وجدانهم ويمثل واحة الأمان النفسي لديهم. وما يغرسونه في نفوسهم سوف يحصدونه عاجلًا أو آجلًا، فيجب أن تبدأ الرحلة بالقواعد، ثم نعطي الثقة في اتباعها ونرفع أيدينا عنهم تدريجيًا. وليس ألا نجعل هناك حدودًا منذ البداية، ثم نعاني التمرد والرفض فيما بعد لنضع أشياء لم توضع في نفوسهم في وقتها الصحيح، لنساعد أبناءنا ليدعوا لنا بعد عمر طويل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.


| المصادر 

[1] ¹ ¹https://www.chicagotribune.com/lifestyles/sc-fam-parent-child-best-friends-0320-story.html

[2] ²https://www.verywellfamily.com/should-you-be-friends-with-your-kids-5119877

[3] ³https://ezyschooling.com/parenting/expert/parents-are-your-best-friend-myth-or-reality

[4] https://www.goodtherapy.org/blog/parenting-and-friendship-0131124/