بنفسج

عالية محمد باقر: المرأة التي أنقذت مكتبة البصرة

السبت 07 مايو

سقطت بغداد إثر الهجوم المغوليّ على عاصمة الدولة العباسية، وقتل خلق كثير، وأحرقت مكتبة بيت الحكمة التي ضمّت كنوزًا لا يمكن للزمن أن يجود بمثلها، وامتلأ نهر دجلة والفرات بلون الحبر، ولون الدّم. وبعد ستة قرون من هذه الحادثة، اجتاح الأسطول الفرنسيّ ميناء سيدي فرج بالجزائر معلنًا احتلالها، وأصدر مرسومًا منع اللغة العربية، وتعدّى على هويّات الأفراد فغيّر الأسماء، وأحرق شجرات العائلة. في غضون ذلك، كانت اسكتلندا لا تزال تقاوم ضدّ محاولات بريطانيا منع الرجال ارتداء التنورة الإسكتلندية التقليدية، وفرضها لعقوبات على من يخالف ذلك.

واليوم، يخوض الفلسطينيون حربهم ضدّ سرقة التراث الذي يعتمده الكيان الصهيونيّ فينسبه إليه، متجاهلًا أنّ عمر المنسوب أكثر من عمر النّاسب بمئات السنوات. هذه المشاهد المتتالية عبر الزمن توضّح حقيقة مهمّة، وهي أنّ للمستعمر ملّة واحدة مهما تغيرت الأماكن وتبدلت الأزمنة: الاستيلاء على أرض غيره، وما عليها بشعوبها وثوراتها وعاداتها وتقاليدها، وهو في الحقيقة لا يريد مصادرة الأرض بقدر ما يريد طمس الهوية ومعالم الثقافة، حتى يجعل من أصحابها تُبّعًا له، بعد أن يجرّدهم من كلّ ما يمكن أن يربطهم بجذور الوطن وترابه.

ويبدو أنّ عالية محمد باقر، كانت ممّن اعتبروا بمآسي التاريخ، وتفطّنوا عشية الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 إلى أنّ هذا الغازي شأنه شأن أسلافه، سيدمّر نتاج العراقيين الأدبيّ والثقافيّ حتى لا يتبقى لهم منه أثر؛ ليعيدهم إلى نقطة الصفر، ويمنع محاولاتهم في المقاومة... وهذا ما حدث!

| عالية: بطولة من طراز خاص

في أوائل شهر أبريل/نيسان 2003، سقطت بغداد للمرة الثانية بعد اجتياحها من قبل القوات الأمريكية، فسارعت عالية إلى التواصل مع محافظ مدينة البصرة لتطلب منه نقل كتب المكتبة المركزية إلى مكان آمن. غير أنّ المحافظ رفض من دون أي سبب.
 
تقول عالية: "كانت مجموعة من الكتب المهمة والثمينة، أخذتها إلى منزلي ورتبتها، ووضعت جزءًا منها في الثلاجة القديمة". قامت بطلب المساعدة من بعض الموظفين، وأهل المنطقة، وشرحت لهم أهمية هذه المهمّة ومدى سريتها، فلّبوا النداء وسارعوا إلى مساعدتها، وبدأت عملية نقل الكتب ليلًا على نحو تدريجيّ، إلى المطعم المجاور، ثمّ إلى منزل عالية الخاصّ.

ولدت عالية في مدينة البصرة سنة 1952، وأكملت تعليمها الابتدائيّ والثانويّ لتلتحق بعدها بالجامعة المستنصرية في بغداد وتتخصّص في علوم المكتبات. وبعد تخرّجها، عملت في العديد من المكتبات في مختلف محافظات العراق، ثمّ تمّت ترقيتها فيما بعد لتصبح الأمينة العامة لمكتبة البصرة المركزية.

في أوائل شهر أبريل/نيسان 2003، سقطت بغداد للمرة الثانية بعد اجتياحها من قبل القوات الأمريكية لتبدأ حينها ملحمة دموية دامت لسنوات، واستمرّت تبعاتها إلى اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات. وكان من المتوقّع أن يمتدّ الغزو الأمريكي إلى بقية المدن في الأيام المقبلة، فسارعت عالية إلى التواصل مع محافظ مدينة البصرة لتطلب منه نقل كتب المكتبة المركزية إلى مكان آمن خوفًا من أن تطالها أسنّة لهب المحرقة، غير أنّ المحافظ رفض من دون أي سبب.

inbound7963112678353437775.jpg
عاليا باقر برفقة مؤلفة الكتاب

تقول عالية في حوار لها مع سكاي نيوز: "كانت مجموعة من الكتب المهمة والثمينة، أخذتها إلى منزلي ورتبتها، ووضعت جزءًا منها في الثلاجة القديمة"؛ [1] لم تستسلم عالية بعد ردّ المحافظ السلبيّ، بل قامت بطلب المساعدة من بعض الموظفين، وأهل المنطقة، وشرحت لهم أهمية هذه المهمّة ومدى سريتها، فلّبوا النداء وسارعوا إلى مساعدتها، وبدأت عملية نقل الكتب ليلًا على نحو تدريجيّ، إلى المطعم المجاور، ثمّ إلى منزل عالية الخاصّ.

نجحت مهمّة "عالية" في إنقاذ ما يقارب ثلاثين ألف مجلّدًا ومخطوطًا أثريًّا نادرًا، من بينها مخطوط سيرة نبوية ترجع إلى القرن الرابع ميلاديّ. وبعد أيام من الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وصلت القوات الأمريكية والبريطانية إلى البصرة، وأحرقت المكتبة كما كان متوقعًا: أكثر من 50 ألف مجلّد يضمّ تاريخًا عريقًا لأرض ما وراء النهرين طالته ألسنة اللهب وغيبته إلى الأبد، من طرف قوات بلاد لطالما تغنّت بمراسيم الحرية ومعاني الحداثة والحضارة. لكنّ عالية كانت لهذه المحرقة بالمرصاد، وأدّت دورًا بطوليًّا ساهم في إنقاذ النصف الآخر من المكتبة، وحفظ تراث العراق النفيس من الإبادة.


اقرأ أيضًا: "فاطمة ريما": أيقونة ثورية وحب فطري للمقاومة


سواء أرادت هي ذلك أم لا، فقد لقنتنا عالية بتصرفها النبيل هذا دروسًا في المعنى الحقيقيّ للنضال والكفاح، وعلمتنا بأنّ البطولة لا تقتصر على الجنود في المعارك؛ إذ يكفي فعل الرفض والمبادرة، والوقوف في وجه الجهل ليصنع بطلًاً تعتبر به الأجيال؛ بطلًا لا يموت قبل أن يكون ندًّا كما يقول غسّان. وفي حديث لها مع صحيفة النيويورك تايمز [2] في 27 يوليو 2003، تصوّر "عالية" علاقتها الوثيقة بالكتب إلى حدّ يجعلها تحسّ بها كأنّها حيّة ترزق، وتقول: " كان احتراقُ الكتب كأنّه معركة وتصوّرتُ أنّ تلك الكتب، كتب التّاريخ والثقافة والفلسفة تصرخ مناديةً: لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".

| حكايةٌ كان لا بدّ لها أن تخلّد

 
كاتبة أدب الأطفال الشهيرة جانيت وينتر ألفت كتاب بعنوان: أمينة مكتبة البصرة قصة حقيقية من العراق – The librarian of Basra : A true story from Iraq نسجت فيها بأسلوب سلس مشوّق، ورسومات مبهجة، حكاية الشجاعة التي أبدتها عالية لتنقذ كتب بلادها من الدمار.
 
وقد لاقت هذه القصة رواجًا واسعًا، بل وساهمت في نشر الوعي بين أطفال المجتمع الغربيّ حول لا أخلاقية الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق وكتبها.

شكّلت هذه الحكاية البطولية مصدر إلهام واعتبار للعديد من الكتّاب، فكان لا بدّ لها أن تخلّد. مقالة نيويورك تايمز عن مهمّة عالية النبيلة فتحت عيون القرّاء حول قصتها، وقرّر بعضهم تجسيدها على الورق. وفي كانون الأول سنة 2004، صدرت أول قصة مصورة للأطفال بعنوان: مهمة عالية ـ إنقاذ كتب العراق Alia’s mission : Saving the books of Iraq من تأليف وتصوير الرسام الأمريكيّ آلان ستاماتي، سلّط فيها الضوء على أهمية القراءة، من خلال التحدّث عن دور عالية في حمايتها للكتب، والتعرّض لآثار الحروب على ثقافات الشعوب.

عالية باقر22.png
عالية باقر أمينة مكتبة البصرة

بعد ذلك بعام، صدرت قصة أخرى مصورة لكاتبة أدب الأطفال الشهيرة جانيت وينتر بعنوان: أمينة مكتبة البصرة قصة حقيقية من العراق – The librarian of Basra : A true story from Iraq نسجت فيها بأسلوب سلس مشوّق، ورسومات مبهجة، حكاية الشجاعة التي أبدتها عالية لتنقذ كتب بلادها من الدمار. وقد لاقت هذه القصة رواجًا واسعًا، بل وساهمت في نشر الوعي بين أطفال المجتمع الغربيّ حول لا أخلاقية الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق وكتبها.

لم تغادر عالية عملها أبدًا؛ فكانت أمانتها لمكتبة البصرة جزءًا من هويتها. وفي الثالث عشر من آب/أغسطس سنة 2021 رحلت عنّا متأثرةً بفيروس كورونا، بعد أن خلّفت وراءها قصة حفرت في القلوب وبين السّطور.

| لكنّ، حكاية الحرب مستمرّة

لا تزال مكتبات العراق تعاني إلى اليوم من الإهمال والإغلاق رغم انتهاء الحرب، ولا تزال النساء هنا يخضن معارك في سبيل التعليم فيظفرن به تارةً، ويتخلين عنه تارة أخرى. تقول زينب (25 عامًا) بأنّ المكتبة المركزية في مدينة قضاء الشيخ لم تفتح إلى الآن منذ إغلاقها سنة 2003، وأنّ الحرب اضطرّت الكثيرين إلى توقيف أطفالهم عن الدراسة بسبب ظروف العمل، وتضيف: "انتقلت الكثير من العائلات إلى القرى خلال الحرب، فاضطرّت إلى السير على عرف القبائل هناك وتوقيف بناتها عن الدراسة".

على الهامش، لا تزال مكتبات العراق تعاني إلى اليوم من الإهمال والإغلاق رغم انتهاء الحرب، ولا تزال النساء هنا يخضن معارك في سبيل التعليم فيظفرن به تارةً، ويتخلين عنه تارة أخرى. تقول زينب (25 عامًا) بأنّ المكتبة المركزية في مدينة قضاء الشيخ لم تفتح إلى الآن منذ إغلاقها سنة 2003، وأنّ الحرب اضطرّت الكثيرين إلى توقيف أطفالهم عن الدراسة بسبب ظروف العمل، وتضيف: "انتقلت الكثير من العائلات إلى القرى خلال الحرب، فاضطرّت إلى السير على عرف القبائل هناك وتوقيف بناتها عن الدراسة".

الشعب هنا يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الضرورية، ممّا يجعل من التعليم أو الدراسة ترفًا لولا قصة عالية الملهمة التي من الممكن أن تجعل الفتيات والنساء في العراق يتمسّكن بالكتاب وحبّ القراءة رغم كلّ الظروف.


| المراجع

[1] youtu.be/zlV6agIouwI

[2] https://www.nytimes.com/2003/07/27/world/after-the-war-the-librarian-books-spirited-to-safety-before-iraq-library-fire.html