بنفسج

ممنوعة من حضور ندوة: عن تأهيل الأماكن للأمهات والأطفال

الثلاثاء 27 سبتمبر

ما أن تتزوج الفتاة حتى تدخل مرحلة جديدة تمامًا علي حياتها؛ فهي تنتقل من كونها فرد في أسرة لربة الأسرة. ولا تستوعب اختلاف خطوة الزواج على حياتها إلا حينما يرزقها الله بالأطفال،  فهي حتى بعد ولادتهم وخروجهم من جسدها تفاجئ بأنها لم تعد بمفردها في أي مكان تذهب إليه، ولكنها مسؤولة مسؤولية تامة عن طفل صغير لا يمكنه التعبير عن حاجاته الأساسية إلا بلغة واحدة: الصراخ والبكاء! وعليها أن تفهم سبب هذا الصراخ وهذا البكاء المختلف في كل مرة . 

هذا أمر مربك.. وما يزيد الأمر  إرباكًا هو عدم وجود أي تأهيل للأماكن العامة - في معظم أو لنقل أغلب المدن العربية، فهناك مدن بأكملها بلا حمامات عامة آدمية، ومعظم المطاعم والمحالات العامة لا يوجد بها غرفة تغيير حفاظ أو رضاعة.. حتى دور العبادة فمكان النساء فيها دائمًا أصغر وبلا أي اهتمام أصلًا . تشعر الأم الجديدة (خاصة وأن كانت في غربة أو تسكن وبعيدًا عن أهلها  كما هو حال أغلب الأسر حاليًا) بأن حياتها انتهت لأنه لا يوجد أي تأهيل لها أو لطفلها الرضيع.  

وتصاب كثير من الأمهات الجدد بإحباط وتوتر شديد يجعلها تتسائل.. هل أنا أم جيدة؟ لماذا أنا الوحيدة التي تشعر بكل هذا الضغط؟ وندخل الأم في دوامة من الضغط وتأنيب الضمير الشديد. ولكن هل معنى ذلك أن الأمر بلا حل أو أن الامومة عقاب للمرأة؟ بالطبع لا.. في عصرنا الحالي هناك العديد من الأمور التي يمكن فعلها لكي لا تكون الأمومة عبء مهول في شكل حياتنا الحديث، بل يمكن أن نجعل الحياة مكان أفضل بأشياء بسيطة نسبيًا ولكنها قد تشكل فارقًا كبيرًا .

| الأمومة والأماكن العامة: قراءة مجتمعية

received_562919532297390.webp
غرف للرضاعة الطبيعية في بعض الأماكن العامة

كثير من الأمهات عزفن عن وظائفهن، وأسباب إبداعهن وشغفهن فقط لأنهن أنجبن، فلا حضانات موثوقة، وإن كانت، فهي باهظة، لا تقوى الأسرة العادية على وضع أطفالها فيها. بينما يجب أن تكون الحضانات حكومية وشبه مجانية. وإذا أرادت الأم حضور ورشة تطويرية، أو إبداعية، في مجالها، فهي أيضًا لا تستطيع حضورها لذات الأسباب، ولو أرادت الأمهات قضاء وقت لاستجماع أنفسهن، كممارسة الرياضة مثلًا، فهن أيضًا لا يستطعن ذلك!

وإذا أردن التسوق، فأماكن قضاء الوقت للأطفال قليلة جدًا، وإن وُجدت فهي لطبقات معينة لغلاء ساعات قضاء الأوقات فيها. وإن أردت الأم التنقل في عربة طفلها الصغير، فستجد صعوبة بالغة في استخدام المواصلات العامة، كالباصات وغيرها. وهي صعوبة لا تقل للأم التي ترضع طفلها رضاعة طبيعية، فلا يوجد غرف للرضاعة، مريحة ونظيفة، ولا تتوفر الحمامات الخاصة بتغيير فوط الأطفال.

هناك قصور حقيقي في البنية الأساسية لاستيعاب الأطفال في المدن العربية، وكأن الأطفال الأمهات، والصغار غير موجودين في الصورة أصلًا، وعنصر بشري يجب إخفاؤه عن الأنظار تمامًا، حتى يبلغ العمر الذي يكون فيه غير مزعج للآخرين.

فماذا تفعل الأمهات إذن، ونحن لا ننفك نلومهن ونعاتبهن عن لحظات الغياب عن الفضاء العام الثقافي والفني والسياسي بل والاجتماعي أيضًا! للأسف الشديد، هناك قصور حقيقي في البنية الأساسية لاستيعاب الأطفال في المدن العربية، وكأن الأطفال والأمهات، والصغار غير موجودين في الصورة أصلًا، وعنصر بشري يجب إخفاؤه عن الأنظار تمامًا، حتى يبلغ العمر الذي يكون فيه غير مزعج للآخرين.

يكون هذا في حدود عمر [4-6] سنوات، ماذا لو أنجبت الأم طفلين أو ثلاثة بفارق بسيط؟ سنجد أن الأم تختفي عن الحياة والأنظار حوالي عشرة أعوام متتالية حتى يكبر صغارها! لا أدري كيف يضيق مجتمع بأفراد مستقبله الذين يضمنون استمراره، وبدلًا من ذلك يتم معاقبة الأم بنظرات صامته مستاءة إن أصدر طفلها صوتًا طبيعيًا يعبّر عن احتياج ما، لأنه لم يتعلم لغة البشر بعد.


اقرأ أيضًا: هل تُدفن الأمهات؟ آراء وحلول


أصبح هناك تأهيل، في بعض البلدان، لبعض الأماكن، لاستقبال الأطفال أثناء تسوق أمهاتهم مما يجعل تلك الأماكن مقصدًا للأم من دون غيرها. وهكذا بعض المطاعم التي تحدد مكانًا مخصوصًا للعب الأطفال، أو إنشاء ملاهٍ خاصة تستقبل الأطفال لعدد محدد من الساعات حتى تقضي الأم ما تريده من مصالح. هذه الثقافة بدأت على استحياء في بعض الأماكن وفي بعض البلدان، وهي ليست مجانية أو شبه مجانية، بعكس دول الغرب التي تعتبر وجود هذه الأماكن جزءًا من بنيتها التحتية.

وهناك - للأسف الشديد - بطء كبير في استيعاب الأمهات في العالم العملي الوظيفي والثقافي، وذلك لسيطرة فكرة عقاب المرأة على الخروج للعمل أو لأي شيء بجوار مسؤولياتها كأم. لأنه الوجدان التقليدي الجمعي يرى دور الأم مقصورًا على دورها في المنزل فقط، وإن فعلت أي شيء آخر، ستكون مقصرة، وإن أرادت الخروج من المنزل فلتتحمل هي عبء الأطفال وحدها! بل إن الأمر امتد لكثير من الآباء الذين يرفضون ويمتعضون جدًا من الجلوس بأبنائهم عند خروج الأم لمصلحة خاصة بها أو للعمل. (على الرغم من أنه في كثير من الأحيان يكون لعملها ضرورة مادية مهمة تعود على أسرتها بالفائدة، ولكن لا يتم دعمها في ذلك، انخفاض مستوى الأسرة المادي سيعاني منه الأطفال في المقام الأول، وهو ما لا تطيقه الأم، لذا تتحمل هذا العناء المضاعف بصبر).

| أفكار لتأهيل الأماكن العامة للأم والطفل

received_2008318069556554.webp
أماكن مخصصة لعربات الأطفال في الحافلات والمواصلات العامة

إن ضاق الأب ذرعًا بمتطلبات أطفاله، فسنجد أنه من المنطقي أن يضيق الآخرين ذرعًا بهم أيضًا، فقد لا يتحمل جمع رسمي وجود أطفال في مقابلات أو ندوات أو مؤتمرات. وإن أردنا الحقيقة والنظر بإمعان، فالأمر له شقان:

| الأول: أنه من حق الطفل أن يلعب ويلهو ويمرح دول التكبيل الدائم بالتزام الصمت، أو التزام مكان واحد بجوار الأم التي تحضر مؤتمرًا أو اجتماعًا (فليس كل الأطفال يطيقون ذلك)، وما يظهر لنا عبر وسائل التواصل من صور براقة وأن الأطفال غاية في الأدب والسكون في البرلمان، ليس من حقيقة كل الأطفال، وليست الصورة المنشودة والمنتظرة منهم.

| الثاني: هو أنه من حق من يحضر مؤتمرًا أو ندوة ثقافية ما أن يكون هناك حد أدنى من الهدوء الذي يساعد على التركيز والإصغاء. وهناك محاضرون يتشتتون فعلًا من وجود أقل صوت يصدر أثناء المحاضرة، (فما بالكم بوجود بطفل يبكي ولا يهدأ؟)

لمواجهة هذا الأمر هناك حلول منها:

| تجنب المواجهة: إما أن تريح الأم نفسها وتتجنب المواجهة وتبقى بطفلها في بيتها، أو أن يكون هناك وعي مجتمعي بأهمية مشاركة النساء، وعدم عقابهن لكونهن أنجبن أطفالًا صغارًا، وليتحمل المجتمع كله كلفة الجيل القادم.

| تبليغ إدارة المؤتمر: حلول بسيطة، مثل أن تبلغ المرأة الأم القائمين على المؤتمر بأنها ستضطر اصطحاب طفلها/ أطفالها معها. ويكون هناك توفير غرفة صغيرة لاستضافة الأطفال أو الرضاعة أو تغيير الحفاض. ويمكن أن يكون فيه سماعات لنقل بقية المحاضرة إن اضطرت الأم استخدامها كي لا يفوتنا شيء.

received_479219966984577.webp
غرف خاصة لتغيير الحفاظ والعناية بنظافة الطفل

| وضع الطفل في حضانة: في بعض الأعمال الأخرى لا تتيح وجود الطفل بقرب الأم دائمًا، إن كانت هناك أعداد كبيرة من الأمهات العاملات في مكان ما يفضل أن يوفر مكان العمل حضانة بداخله مقابل أجر بسيط، وتتركه الأم ويتصلون بها إن احتاج رضاعة أو ما شابه، وتعوض هذا الوقت المستقطع من العمل فيما بعد، ولكن وجود الأم بالقرب من الطفل يحفزها على العمل، ولا تجعل العمل يخسرها خاصة إن كانت مؤهلة ومميزة ونوعية في مجالها.

هذا للأطفال الرضع، ويمكن أن تستمر خدمة الحضانة حتى يكبر الطفل ويدخل المدرسة، بعد المدرسة يمكن أن يكون هناك خيار أن تستقبل حضانة العمل الطفل بعد انتهاء يومه الدراسي لتقدم له وجبة خفيفة صحية حتى تنهي الأم من دوامها، أو يمكن إيجاد خيار إتمام ما تبقى من العمل في المنزل. وقد أثبتت أزمة الكورونا إمكانية ذلك لكثير من الأعمال.

| توفير أماكن مخصصة للألعاب: توفير مكان للعب الأطفال في كل المرافق العامة، بما في ذلك المولات والمطاعم، وبعضالمطاعم العالمية توفر هذه الخدمة، مما يجعلها  هي الخيار المفضل للأمهات ذوات أطفال عند الخروج، حتى وإن لم يكن الطعام المقدم هو الأفضل، إذ غالبًا ما تعتمد هذه المطاعم على "الفاست فود والوجبات السريعة" ، فوجود شيء يلهي الأطفال بعيدًا عن أمهاتهم أو الألعاب الإلكترونية مع أطفال آخرين هو مطلب تعرف الأمهات قيمته جيدًا.

received_602525917937608.webp
مكان مخصص للعب الأطفال في مطعم

| مقترحات نثرية أخرى: هناك مقترحات نثرية أخرى، مثل سوار أو قلادة التتبع الإلكتروني التي تمكن الأم من معرفة مكان طفلها بدقة شديدة، وفيها جهاز إنذار مزعج يتحكم به عن بعد، في حال   تعرض الطفل للخطر. 

| توفير مكتبات عامة للأطفال: توفير مكتبات عامة ليقضي الطفل فيها وقتًا مفيدًا بين الكتب، أو ندوات تثقيفية، أو أفلام وثائقية قصيرة مع شرح متخصصين، هي فكرة جيدة أخرى الأطفال. وطبعًا، لا يجب أن ننسى وجود الحدائق واللعب البدني، كلعب الأطفال بالكرة أو الألعاب التقليدية بعيدًا عن الشاشات الإلكترونية هو من أهم الأنشطة التي تساعد الأطفال على النمو والاستمتاع بطفولتهم بشكل سليم.

ومع هذا كله، لا يزال هناك ضيق بوجود المرأة في المجال العام، ويظهر ذلك في عدم تأهيل الأماكن لوجودها كأنه عقاب ضمني على خروجها. نجد ذلك واضحًا جدًا في حال مساجد النساء، فهن دائمًا غير موجودات في الصورة، وينتبهون بعد بناء المسجد مثلًا لوجودهن فيضعوا ستارة سيئة، أو يُعطين أسوأ وأضيق مكان، أو مكان عال جدًا به سلالم كثيرة لا تناسب إلا الشابات القويات.

| النساء وتقلّد المناصب العامة: هل يساعدن بعضهن بعضًا؟

received_631153081645273.webp
مكان مخصص للأطفال في مكتبة عامة

العجيب إنه كان من المنتظر أن تأتي قضايا المرأة الأم على رأس القضايا التي تثيرها النسويات وتلوح بها بغضب لتعبر عن اضطهاد المجتمع للمرأة، ولكن نادرًا ما تتصدر تلك القضايا قوائمهن. قد نظن أن المرأة الأم هي من يتوجب عليها أن تثير وتتحدث عما يتعسر من مهمتها الصعبة، ولكن للمفارقة الحزينة، فالأم تهتم بالجميع ويأتي ذلك على حسابها هي، هي غالبًا منهكة ومستهلكة أغلب الوقت، وإن وجدت وقتًا فهو من دون طاقة نفسية، فليكن هذا دور بقية النساء وبقية من يشغله مستقبل تلك الأمة. قد نظن أن النساء في بلادنا عندما يتقلدن مناصب كبيرة سيكن خير ممثلات لبنات جنسها، ولكن هذا لا يحدث، لعدة أسباب:

| الطبقة المخملية: فمن يتقلدن تلك المناصب عادة يكن من بنات الطبقة المخملية في المجتمع التي غالبًا لا تعاني مما يعاني منه معظم الطبقات في المجتمع. أو إنه عندما يمر العمر بتلكن الممثلات ينسين مشاكل النسوة الأصغر سنًا في مرحلة الأمومة الأولى.

| الضغط الاجتماعي: أو ربما مورس عليهن نوع من الضغط المجتمعي الخفي، فيتجنبن، عن عمد، الحديث في مشاكل بنات جنسهن حتى لا توصمإحداهن بأنها" فيمينست "-سوية- بمعناها السلبي، وليست ممثلة لكل فئات الشعب.

| الجيل المدلل: أو ربما يظن بعض الأكبر سنًا أن الحياة القاسية التي عاشوها وظروفهم الصعبة التي مروا بها لا يجب أن نخفف منها، لأن الجيل الجديد مدلل عمومًا، بل لا بد أن يمر بالصعوبات التي مروا بها كي يكونوا على قدر المسؤولية (هذا يفكر كثير من الكبار تجاه من هم أصغر منهم عمومًا) .

received_1168204160401732.webp
مكان مخصص للأطفال في مطار دولي

في الجانب الآخر، أصبحنا نرى الغرب يفتخر بدعمه النساء، خاصة الأمهات، بعدما تفاقمت أزمة قلة عدد المواليد وتراجع النمو السكاني بشكل أصبح يهدد مستقبل بقاء تلك المجتمعات على قيد الحياة.  إن استمر المجتمع في محاربة ومعاقبة المرأة في خروجها إلى المجال العام، والأم بشكل خاص بعدم تيسير الأسباب التي تعينها على أداء وظيفتها كأم ووظيفتها المجتمعية أيا كانت.

 ستتجه النساء إلى تقليل أو حتى عدم الإنجاب كي لا يتم عقابهن بحجبها بجوار الأبناء، بما يهدد مستقبل البلاد كما حدث في الغرب، أو ستكون النساء محبطات دائمًا، وسيظهر ذلك عليهن وعلى نظرتهن لأبنائهن، وأنهم سبب تراجعهن على المستوى الإنساني، حتى أن أقصى أمانينا تنحصر في جلسة لساعات عدة، من دون أي مسؤولية للأبناء والمنزل ترف لا يقدرن عليه ويتمنينه.

الفكرة الأساسية هي تغيير الثقافة المجتمعية الراسخة التي تعاقب الأم لخروجها بطفلها وعدم التزام المنزل حتى يكبر، وتعاقب المرأة على الخروج من المنزل عمومًا. قد يبدو هذا الكلام مثاليًا أو حالمًا، ولكن من دون الحلم، لن نتمكن من تغيير الواقع الذي بدأت بشائره في الظهور.

ليست كل النساء بنفس تلك النفسية تجاه العمل أو مسؤوليات الأبناء، فقد كانت مسؤولية المنزل تتوزع على عدة نسوة فيما مضى. أما اليوم حيث الأسر النووية وتزايد معدلات الخصوصية تصبح المرأة في الطاحونة وحدها، مما يجعل الانفصال قليلًا عن مسؤولياتها ضرورة لاستقرار صحتها النفسية، وبالتالي الحفاظ على سكينة المنزل واستقراره.

في النهاية؛ إن أردنا شيئًا بصدق لن نعدم إيجاد حلول له، الفكرة الأساسية هي تغيير الثقافة المجتمعية الراسخة التي تعاقب الأم لخروجها بطفلها وعدم التزام المنزل حتى يكبر، وتعاقب المرأة على الخروج من المنزل عمومًا. قد يبدو هذا الكلام مثاليًا أو حالمًا، ولكن من دون الحلم، لن نتمكن من تغيير الواقع الذي بدأت بشائره في الظهور، وأصبحنا نجد تلك الأماكن على استحياء كل فترة، ولكن الهدف هو زيادة الوعي بأهمية وجودها والمطالبة بها.