بنفسج

لماذا اخترت السفر؟ إجابات لفتيات خضن التجربة

الإثنين 20 مارس

قالوا دائمًا إن للسفر فوائد سبعة، ولم يذكر أيها ممن قالوا تلك المقولة، وتركوا لكل مسافرٍ الغوص في أغوار رحلته ليتعرف بنفسه إلى فوائده السبعة، وتجربته الذاتية، وأهدافه التي وضعها نصب عينيه، وانطلق في دروب الحياة يسعى. أن السفر للشباب دراسة أو هجرة أو ترحال، وأتى الوقت لتكون للبنات نصيب من الحكاية. بعضهن خرجن اضطرارًا، وأخريات كانت الدراسة وسوق العمل نصب أعينهن، فارتحلن من حضن الأهل إلى أحضان الغربة، وأخريات كان الهدف وحده هو التجربة والبحث عن الذات في أرض جديدة بلغة جديدة ربما، وبين تلك الحكايا القادمة كان السؤال الأول لكل من قابلنا من فتيات تركن مخيرين أو مضطرين أرض الوطن، لماذا؟ فكانت تلك حكاياهم مع الإجابة.

| السفر للأمان

تقول مي خلف: "كنت أبحث عن تغيير شيء ما فيّ، وكانت قناعتي أن تغيير المكان شيء أساسي لتغيير الحظوظ وفتح الآفاق.  عقدت النية أن أختار حياة جديدة وأتعلّم لغة أخرى، وأكمل شهادة الماجستير. انطلقت من دون أن أخطط، كنت أدخر المال من عملي في بلادي يكفيني في الغربة لسبعة أشهر على الأقل، وأخبرت عائلتي أنني سأمضي للتجربة، فإن فُتحت لي الأبواب سأكمل، وإلا، فسأعود، لم يعقني شيء للمضي قدمًا في التجربة، خاف عليّ أهلي، نعم، ولكن لم يستغرق نقاشنا طويلًا حتى اقتنعوا، فأبي بطبيعته معتاد على إتاحة الفرص وتنحية المخاوف جانبًا. قالوا لي جرّبي ونحن معكِ وفي ظهرك، ولم يكترثوا لأحد لام أو عاب..!"

"سافرت بلا هدف مباشر أو واضح"، هكذا بدأت مي خلف فلسطينية القلب والقالب حكايتها لتكمل: "كنت أبحث عن تغيير شيء ما فيّ، وكانت قناعتي أن تغيير المكان شيء أساسي لتغيير الحظوظ وفتح الآفاق. عقدت النية أن أختار حياة جديدة وأتعلّم لغة أخرى، وأكمل شهادة الماجستير، ولكنّي لم أرتب لأي شيء من هذا إلا في مخيلتي فقط. انطلقت من دون أن أخطط، كنت أدخر المال من عملي في بلادي يكفيني في الغربة لسبعة أشهر على الأقل، وأخبرت عائلتي أنني سأمضي للتجربة، فإن فُتحت لي الأبواب سأكمل، وإلا، فسأعود، لم يعقني شيء للمضي قدمًا في التجربة، خاف عليّ أهلي، نعم، ولكن لم يستغرق نقاشنا طويلًا حتى اقتنعوا، فأبي بطبيعته معتاد على إتاحة الفرص وتنحية المخاوف جانبًا. قالوا لي جرّبي ونحن معكِ وفي ظهرك، ولم يكترثوا لأحد لام أو عاب..!

اقتباس مي.jpg

فُتح، لي باب الرزق الواسع في غربتي وانطلقت في مجال عملي بشكل كبير، لم يكن يسمح وجودي في بلادي أن أحققه، وجعلني السفر والعيش وحدي أكثر حرية، فقد كنت صاحبة قراراتي وأتحقق مما أؤمن به وورثته من محيطي، فصرت أكثر ثباتًا وأقوى إيمانًا، ولم يتوقف الرزق في العمل فقط، إنما رزقني الله زوجي كذلك، فتعارفنا في الغربة، وهو من غير جنسيتي، ونشأت قصة حب جميلة بيننا لتتوثّق بالزواج، فأصبحت الغربة وطنًا، كنت أشتاق فقط مشاركة أهلي بغداء الجمعة الأسبوعي.

| رؤية مختلفة

تقول آلاء الرشيد: " جئت إلى إسطنبول منذ خمس سنوات أبحث في مجال عملي عن آفاق أوسع وفرصة جديدة في مجالي، وكذلك لإكمال رسالة الدكتوراه التي بدأت، فقارنت بين سلبيات وإيجابيات بقائي في الدولة العربية التي كنت أقيم فيها وبين سفري، فرجحت الكفّة للسفر . قد فتح السفر آفاق نظري للحياة والمجتمعات بشكل كبير، ودعاني إلى التعرف عن قرّب على الشعوب، سواء في الدولة التي اخترتها أو جنسيات عربية أخرى. وأكسبني السفر قوة الشخصية والقدرة على الاعتماد على النفس أكثر، وجعلتني الغربة أمرّ بالكثير من التجارب التي تعلمت منها أكثر مما كنت سأتعلم وأنا في مكاني. وأؤمن أن يومًا قادم قريبًا سأخدم أرض وطني بكل ما طوّرته فيّ بلاد الغربة".

ومن فلسطين إلى سوريا بدأت آلاء الرشيد كلماتها قائلة: "جئت إلى إسطنبول منذ خمس سنوات أبحث في مجال عملي عن آفاق أوسع وفرصة جديدة في مجالي، وكذلك لإكمال رسالة الدكتوراه التي بدأت، فقارنت بين سلبيات وإيجابيات بقائي في الدولة العربية التي كنت أقيم فيها وبين سفري، فرجحت الكفّة للسفر والمغامرة، ولم أجد أي رفض من الأهل للسفر، بل كانوا داعمين لي، فقد منحوني منذ الصغر حرية الاختيار في جميع قراراتي ولم يقفوا يومًا في وجه مستقبلي وطموحي، وقد واجهت العادات والتقاليد التي تنظر لسفر الفتاة وحدها نظرة غير واعية أو ناضجة، ولا ترى أهمية تطوير الفتاة لذاتها من الناحية العلمية والمهنية، ورغم كل الإنجازات التي حققتها، بفضل الله، في غربتي، إلا أن البعض لا يزال ينظر إليّ باستغراب وتوجس.

اقتباس آلاء.jpg

تكمل: "قد فتح السفر آفاق نظري للحياة والمجتمعات بشكل كبير، ودعاني إلى التعرف عن قرّب على الشعوب، سواء في الدولة التي اخترتها أو جنسيات عربية أخرى. وأكسبني السفر قوة الشخصية والقدرة على الاعتماد على النفس أكثر، وجعلتني الغربة أمرّ بالكثير من التجارب التي تعلمت منها أكثر مما كنت سأتعلم وأنا في مكاني. وأؤمن أن يومًا قريبًا  سأخدم أرض وطني بكل ما طوّرته فيّ بلاد الغربة، لذلك لم يراودني الندم على اختياري للسفر والغربة عن الأهل، ربما تخطر في بالي ثنائية الخيارات في بعض الأوقات بين أن أبقى مع عائلتي ولا أحقق تطور علمي ومهني وثقافي. وبين أن السفر ضرورة، لأن أوطاننا لم توفر ما نطمح إليه، فترجح الكفة لإكمال التجربة مع كل ظروفها وإن تملّك الشوق للأهل قلبي..".

اقتباس مريم.jpg

أما مريم، فتقول في البداية، وهي مصرية تعيش في إسطنبول: "منذ سنوات ثلاث خرجت من مصر أبحث عن الأمان والاستقرار. صليت صلاة استخارة كثيرًا، ثم توكلت على الله، وتركت ورائي كل شيء وهاجرت ونصب عيني مستقبلي الذي ودّدت البحث عنه بأمان وسلامة. أشتاق لأهلي كثيرًا، لكن، لا يوجد عندي من سبيل سوى الاستمرار في العيش الذي حُرمت منه في وطني، ولو خُيّرت بين البقاء والسفر لاخترت السفر دائمًا، فبه تعرفت إلى ثقافة مختلفة وعملت في مجال جديد، فاكتسبت خبرة أكبر، ربما الشيء الوحيد الذي ترك أثره السيء في نفسي هو وفاة جدتي وأنا في غربتي التي لم أختر".

| هل يغيرنا السفر؟

تقول فاطمة اليدير: "كان هدفي الأول من السفر الإقامة في بلد أكثر حرية من موطني، يحترم الإنسان ويقوم نظام العيش على تساوي الفرص والعدل، يحترم عقلي وكياني. لم أكن فتاة تخاف السفر من قبل، وكنت أمارس التخييم حتى في بلدي، ودرست بعيدة عن أهلي من عمر 18 سنة، لكن لم أكن أتوقع أن فيّ كل هذه الجرأة والمغامرة. الآن أنا أنتقل من بلد إلى آخر لفرصة عمل، ولا أعرف عن البلد الجديد شيئًا، ولا أعرف فيه أحد من دون أي قلق ولا خوف، ربما يعود السبب أن كسر حاجز الخوف يكون بالتجربة الأولى. وصراحة، ولا أخفيكم سرًا أنني أستمتع في كل مرة أكسر فيها حاجز خوف جديد..".

ومن الشرق إلى المغرب تقول فاطمة اليدير عن غربتها التي اختارت: "كان هدفي الأول من السفر الإقامة في بلد أكثر حرية من موطني، يحترم الإنسان ويقوم نظام العيش فيه على تساوي الفرص والعدل، يحترم عقلي وكياني.. بين التخطيط للسفر، واتخاذ القرار، والحصول على الفيزا، وتأمين المال اللازم للانطلاق في رحلتي، استغرقتُ حوالي 18 شهرًا، وكانت بداية المعوقات التي واجهتني نظامنا التعليمي في دولنا العربية التي لا يتطابق في أغلبه مع الأنظمة العالمية، فوجدتني رغم حصولي على شهادتي العلمية من الهندسة من أفضل جامعة في بلدي، مضطرة إلى إعادة دراسة سنتين ماجستير لعدم الاعتراف بشهادتي في أغلب الدول المتقدمة..!

وكان موقف أهلي بين داعم ومتحفظ على الفكرة، خاصة أن قرار سفري كان من دون عودة، فالخيار للرجوع ليس مطروحًا من الأساس، وقد وجدت في رحلتي ما أبحث عنه، وحققت الكثير مما أصبو، وربما لو كان بيدي الخيار، لكنت اخترت أن يكون سفري في سن أبكر مما كنت عليه حين بدأت الرحلة.

فاطمة.jpg
تسألينني هل يغيرنا السفر؟ لا شك في ذلك -والحديث لفاطمة- بالنسبة لي كان استمرارًا لجانب كبير من المتغيرات، ربما بالسفر نرى الأشياء من زاوية أخرى، فإذا تغيرت البيئة تتغير القناعات والسلوك والمظهر، يقولون إن المغترب يعيش حياة اللا انتماء، فلا يجد نفسه منتميًا لبلده الأصل أو لبلد غربته. بالنسبة لي لم أجد في نفسي رفضًا لفكرة الانتماء للجهتين، فلا أذكر أن فكرة الوطن تغيّرت بالنسبة لي، ولم أكن فتاة تخاف السفر من قبل، وكنت أمارس التخييم حتى في بلدي، ودرست بعيدة عن أهلي من عمر 18 سنة، لكن لم أكن أتوقع أنني أمتلك كل هذه الجرأة والمغامرة. الآن أنا أنتقل من بلد إلى آخر لفرصة عمل، ولا أعرف عن البلد الجديد شيئًا، ولا أعرف فيه أحد من دون أي قلق ولا خوف، ربما يعود السبب أن كسر حاجز الخوف يكون بالتجربة الأولى. وصراحة، ولا أخفيكم سرًا أنني أستمتع في كل مرة أكسر فيها حاجز خوف جديد..".

| الرفيق في السفر

اقتباس ندى.jpg

ولفضاء ألمانيا انطلقت ندى اللاهوني التي تركت الأهل والصحب لدراسة ما تحب، فتقول: "سافرت لدراسة مجال الفضاء على أيدي خبراء، فأعود إلى مصر ذات يوم لأنشر ما تعلمت، وأترك بصمة في مجال قليل من يهواه ويتعلم عنه، ورغم أن أهلي كانوا يشجعونني على خوض غمار التجربة، إلا أن منحة الدكتوراه جاءت في نفس الوقت الذي أتممت فيه خطبتي بأشهر معدودة، وكنا نجهّز لبداية حياة جديدة، لينقلب كل شيء بالمنحة التي جاءت في وقت غير منتظر، إلا أن خطيبي – زوجي حاليًا- شجعني كثيرًا على المغامرة والقبول، وكان هذا الوقت هو أصعب الأوقات التي مرت علينا، فاتخذنا القرار سويًا، وقبلتُ المنحة، وسافرت في البداية وحدي لأبدأ الطريق وأشقه. وحين عدت في أجازتي الأولى تزوجت، ثم سافرنا لنواجه الغربة معًا.


اقرأ أيضًا: د. أحلام بشكار: رحلة "الألف ميل" لم تنته في الصين


تكمل: كانت البداية صعبة بلا شك، فزوجي لم يكن لديه في البداية فرصة للعمل، كما أن اللغة من أصعب اللغات على مستوى العالم، ثم رزقنا بطفلنا الأول، الأمر الذي زاد من قلقنا عليه، لأسباب تعود إلى اختلاف الدين والثقافة وتأثيرهما عليه في نشأته الأولى، خاصة لقلة عدد المسلمين في المكان الذي نعيش فيه، كلها كانت ولا تزال معوقات أمامنا، ولكننا نتحداها بالصبر والاجتهاد، فنربي أنفسنا كي نستطيع تربية طفلنا وحفظه في غربتنا، وحتى يتسنى له الحصول على التعليم الأساسي بالجودة العالية في جو خال من الضغوط والمشاكل، والأهم من ذلك جو آمن."

 ولو خيّرت بين المكوث في وطني وبين السفر من جديد لاخترت السفر بلا شك. فرغم صعوبة الغربة والاغتراب، إلا أنها كانت فرصة ثمينة لقربي من زوجي، فصرنا أكثر قربًا وتفاهمًا، كما أنه خلق فرص جديدة لكلينا، ونمّى ذواتنا، وساعدنا على اكتشاف ما وراء حدود النفس، وما لا ندركه من مهارات ومواهب لدينا، وكل هذا لم يأت إلا بالسفر. والوطن في النهاية هو المكان الذي يوجد فيه أبي وأمي، وحيث ولدت. وهو كذلك المكان الذي أجد فيه قلبي وبيتي وزوجي، بل إن الوطن الآن صار في عين طفلي، فلانتماء هو الميل إلى الهُوية والوطن من دون تعصب وبكل اتزان..".

| تجاهل للمثبطين

inbound4556008892816469604.jpg
الحلم بالنسبة لهناء الكحلوا كان حلمًا صعب المنال ولكنها حققته لأجل التعرف على ثقافات أخرى

وتحكي هناء الكحلوت التي تركت الأردن لتحلق في سماء تركيا عن سفرها: "كان هدفي التجربة الجديدة والتعرف إلى مساحة مختلفة من العالم، بعيدة عن منطقة الأمان التي عشت فيها وسط أهلي وأصدقائي في الأردن. أقنعت أهلي لسنوات ثلاث متواصلة. كنا في نقاش شبه يومي ما بين رفض قاطع ولين الجانب بعض الشيء، وبين العصبية مرة، والصمت مرات أخرى. وإشراك بعض الثقات لإقناع أهلي بالتجربة، حتى أنني بعت ذهبي الخاص لأتحمل تكاليف سفري وإقامتي بالفترة الأولى. وبعد إقناع استغرق وقتًا طويلًا أتت معي أمي وأخواتي في بادئ الأمر، فرتبنا مكان سكني واستقرت أموري في العمل، وعادوا هم إلى الأردن، وبقيت وحدي لأبدأ مواجهة مغامرتي وتجربتي منفردة."

تقول: "تعلمت التركية لأندمج مع مجتمعي الجديد، ولأكسر الحواجز مع أهل بلد لا يعترفون بلغة أخرى، لم يكن الأمر سهلًا بكل تأكيد، لكنني كنت أقاوم وأسعى وأستكشف قدراتي ونفسي كل يوم، وتعلمت في شهور قليلة من الاحتكاك بجنسيات وأديان وثقافات مختلفة، ما لم أتعلمه في سنوات عمري كله التي قضيتها داخل إطار العائلة، والبلد الواحد ودائرة الأصدقاء المغلقة.في بداية جلوسي في إسطنبول واستقراري بعدها، كانت تصلني بعض الرسائل السلبية بين الحين والآخر أو تصل إلى أهلي، ولكن مع الوقت تلاشت. وكنت ولا أزال أغلق أذنيّ عن كل ما أسمع من مثبطات، وأضع هدفي أمام ناظري وأمضي. ولو عاد بي الزمن لسافرت مرات عدة، ولو انفتح لي المجال لتغيير تركيا لدولة أخرى لن أتردد في الإقبال على السفر من جديد."

اقتباس هناء.jpg

وعن الوطن تقول هناء: "الوطن بالنسبة لي يعني السكون والأمان، حينما أعيش في مكان يؤمن لي مأكلي ومشربي وأمني من دون مشكلات أو اضطهاد من أي نوع، فهذا هو الوطن بالنسبة لي وقد وجدته في سفري، لذلك أتمنى كثيرًا لكل من يستطيع السفر ألا يتردد ويخوض التجربة، فالمواقف الصعبة، ولو كانت صغيرة هي التي تصنع منا شخصيات مختلفة وتكشف لنا ما خفي عن أنفسنا في أواطننا،وعملت على الاندماج بالمجتمع التركي من خلال المشاركة برحلات المشي في الغابات والاكتشاف، وممارسة هواية ركوب الدراجة، والقراءة، وزيارة أماكن جديدة وقرى بتركيا لمعرفة الثقافات القديمة في البلاد.

| الغربة منذ الولادة
عبير الكالوتي.jpg
عبير الكالوتي

وفي ختام حكايتنا، تقول عبير الكالوتي: "لم أكن بالأساس أرتبط بمكان محدد، فأنا فلسطينية، ولم أقم في بلدي يومًا، لذلك خيار السفر والانتقال إلى بلد آخر بعيدًا عن الأهل، لم تكن غريبة أو مستنكرة من عائلتي التي دعمتني دعمًا كبيرًا. لم أكن أخطط للعمل بالخارج، ولكن كل الخيارات كانت متاحة، فأنا لا أقرر أمرًا إلا بعد تفكير عميق وحساب كل المآلات قبل اتخاذ خطوتي التالية. ولأن أهلي يعلمون عني ذلك لم يقفوا يومًا أمام طموحي الدراسي أو المهني."

تكمل: "كانت الأولوية في اختيار الدولة التي سأرحل إليها، مدى سهولة العودة إلى حضن أهلي وقتما أشاء للزيارة كل عام، أو العودة النهائية، فأبي وأمي كانوا ولا يزالون أولويتي الأولى، ورغم أن معي الجنسية الأمريكية، إلا أن اختياري لأمريكا مع تجربة السفر إليها لم أجدها الخيار الأنسب في تلك المرحلة، فلم أكمل هناك، ثم اخترت دولة أخرى، وهأنذا هناك أمضي في دراستي وعملي حتى أنهي أهدافي، فإما أن أجددها أو أعود وقتها إلى حضن أهلي."


اقرأ أيضًا: ما لا نعلمه عن السفر


تعلمت – والحديث لعبير– في سفري الكثير، فنمط المعيشة كان مختلفًا تمامًا عما اعتدته، فقد اختلطت بما يقرب من 12 جنسية مختلفة، مع اختلاف اللغات والثقافات والأديان كذلك. ومكثت فترتي الأولى في سكن طلابي، فكان من الأوامر الصارمة في مواعيد النوم والخروج والعودة ما جعلني أتعلم أن الإنسان مرن لدرجة مدهشة، فهو يتكيف مع المعطيات الجديدة دائمًا بما يناسب ما استجد عليه. علمني السفر التخلي عن كل ما يمكن التخلي عنه، وأن أتخفف دائمًا من أحمالي سواء الأشياء العينية أو الاجتماعية، فلا مكان إلا لما هو مهم فقط، وتعرفت إلى نفسي أكثر في الغربة، واكتشفت في نفسي أشياء لم أكن لأعرفها لولا قيامي بكل الأدوار لنفسي، أمًا وأبًا وصديقًا وأخًا، فأنا المخولة وحدي بكل المسؤوليات، وزادت لديّ مساحة التأمل واللامبالاة في بعض الأحيان.

اقتباس عبير.jpg

والوطن بالنسبة لي معنى رمزي أكثر منه مبنيًا، قد يكون اليوم هنا اليوم، وغدًا في مكان آخر، لكن أحلم للآن بالمعنى الفيزيائي لفلسطين أن أكون فيها يومًا ما وأنتمي له ولو تفرقت عنها، والغربة ليست اختيارًا دائمًا، فقد تناسبني أكثر لأني شخص يميل لتحمل المسؤولية والاستقلالية، وأعرف أين أكون ومتى أكون بالمجموع، ومتى أكون بالفرد؛ فالغربة تجعلنا أكثر شفافية مع أنفسنا لأننا نعرف كم نحن ضعفاء وأقوياء في الوقت ذاته، وربما أكثر ما علمني إياه السفر كان أن كل الأشياء تفترق وتختلف والثابت الوحيد هو الله؛ فالحياة كلها فيها تخل وافتراق وعدم ثبات، ولكن شعوري بالقوة الإلهية زاد مع الغربة، ونعم، صارت البنات أكثر جرأة عن ذي قبل، فالمجتمع صار أكثر انفتاحًا وتعددت الوجهات، وبعيدًا عن الأسباب التي جعلت السفر حاجة ملحة للكثير، فلا حاجة لأوطان تلفظ شعوبها..".

كان هذا غيض من فيض لعدد قليل من فتيات قبل أن يتجرأن على قرار السفر والمغامرة وتحدي الأهل والمجتمع، فقد تجرأن على أنفسهن أولًا للانطلاق في عالم جديد. والملاحظ في السنوات القليلة الماضية ازدياد عدد الفتيات اللاتي ارتحلن من أوطانهن بحثًا عن طموح متجدد، ومعرفة أعمق بالنفس، واكتشاف الذات، مئات وربما آلاف منهن انطلقن، البعض منهن مضطر، والبعض اختار طريقه ووجهته.