بنفسج

"صح رمضانكم": عن تراتيل الشهر الفضيل في الجزائر

الإثنين 18 ابريل

في الجزائر، يُسمّي السكان الشهر الفضيل: "سِيدْنا رمضان"، هكذا بكسر التاء، وتسكين الدال مع ترنيمة مرخّمة مشبّعة باللطف، معتّقة بالروحانية. ولفظ "سيدي" هنا يُقال عادة للأجداد، والمعلمين، والعلماء، وكبار السّن، دلالة على التقدير والاحترام، والمنزلة العالية التي يحوز عليها صاحب اللفظ. هم يعتبرونه كيانًا قائمًا بذاته، يتحدثون عنه باعتباره ضيفًا عزيزًا، يتحسرون حين مغادرته، يقولون: "سيدنا رمضان مسكين والله ما طوّل"؛ أي: "سيّدنا رمضان المسكين لم يطل المكوث". وفي هذا القول طرفةٌ وشيءٌ من تناقض؛ فالجزائريون إذا أحبوا شخصًا ما وحزنوا على فراقه سمّوه مسكينًا، متغاضين بذلك عن الحدّ الفاصل بين الشفقة والحبّ؛ فرمضان لا يحتاج منّا أن نشفق عليه، لأنّه هو من يرأف بنا.

التهاني الخاصة بقدوم الشهر الفضيل تبدأ هنا قبل رؤية الهلال بأيّام؛ الجميع يختمون كلامهم بلفظ "صحّ رمضانكم" عند اللقاء، والوداع، وفي المحلّات، وبين الشوارع، لتصبح هذه العبارة سمفونية يختصّ بها أهل الجزائر البيضاء من شرق البلاد إلى غربها. ولفظ صحّ، كما ورد في لسان العرب لابن منظور هو خلاف السّقم، ويعني ذهاب المرض والبراءة من كلّ عيب وريب، وكذلك يبارك السكان لبعضهم آملين أن يخلو هذا الشهر من كلّ خلل أو سوء. العبارة ذاتها تُقال عند الفطور، وعند السحور "صحّ فطوركم، صحّ سحوركم".

| "السويقة" وأجواء رمضان

inbound8201444127066711414.jpg
السويقة بمدينة قسنطينة – تصوير  رحمة الله هاجر (خاص بنفسج)

من بعيدٍ ترسل الإشاراتُ في السويقة بمدينة قسنطينة – عاصمة الشرق الجزائريّ – مبكّرة منذرة بقدوم رمضان. والسويقة سوق شعبيّ مغطّى تفوح منه رائحة الخضار والتوابل، واللوز، والقمح المحمّص (الفريك)، والحلو، والزيتون، وكلّها أجزاء من أطباق لا غنى عنها في مائدة رمضان.

تتسوّق لطيفة (48 سنة) مع ابنتها رحمة (23 سنة) من السّويقة كل عام من أجل رمضان، وتقتني كل ما يلزمها لتحضير الفطور خلال الشهر، معتبرةً ذلك طقسًا مقدّسًا لا يمكن التخلي عنه. تقول لبنفسج: "ريحة رمضان الحقيقية ما تكون إلا في السّويقة"، بالنظر إلى البضاعة الخاصة بالشهر التي تطرح هناك، وتعقّب رحمة على قولها من خلال الحديث عن خصوصية هذا المكان وبركته: "الأسعار هنا تهبط في رمضان، والباعة يرأفون بالنّاس، ويضيفون لهم السلعة في الميزان.. البركة في هذا المكان ربانية".

طبق شباح السفرة.jpg
طبق شباح السفرة القسنطينيّ – تصوير وفاء من قسنطينة (خاص بنفسج)

أما مائدة رمضان في قسنطينة العريقة، مدينة الهوى والرياس، ومحطّة العثمانيين، وملاذ الأندلسيين، فهي ذات طابعٍ خاصّ، تشترك مع بقية المدن في الأصول وتختلف في الفروع. ومن أشهر الأطباق المميّزة لهذه المدينة طبق "شباح الصفرة" الذي يعود بأصوله إلى الموريسكيين الذين لجؤوا إلى المغرب العربيّ هروبًا من حروب الاسترداد في الأندلس، وكانوا بذلك سفراء لعاداتهم وتقاليدهم.

يصنع هذا الطبق الذي يعني "زينة المائدة" من كرات مقرمشة معدّة باللوز إضافة إلى اللحم الحلو، والفواكه المجففة. ويعتبره القستنطينيون سيد المائدة وبنتها، والتي لا يمكن بأي شكل من الأشكال ألا يكون حاضرًا فيها. تعزي وفاء (30 عامًا) سبب هذا التقدير إلى اعتبار الطبق فال خير وسعادة في الشهر الفضيل، يشترط أهل المدينة وجوده حتى تحلو أيامهم وتهنأ في بقية شهر رمضان، وذلك بالنظر إلى مذاقه الحلو.

| بين "الشوربة فريك" و"الحريرة" حربٌ طاحنة!

مائة جزائرية.jpg
مائدة رمضان – تصوير وفاء من قسنطينة (خاص بنفسج)

تسمّى الجزائر بالبلد القارة، وهي على كبر مساحتها واختلاف تضاريسها ومناخها، وتنوع عادات سكانها وتقاليدهم ولهجاتهم، تحوز على أشياء كثيرة أخرى مشتركة تربط بين محطات المدن، وتجمعهم تحت مظلة الهوية والانتماء؛ فالكثير من الأطباق التقليدية التي تزيّن مائدة رمضان في كلّ أنحاء الجزائر لا يختلف فيها اثنان، تجدها حاضرة في المدن الساحلية كما تجدها في المناطق الصحراوية: طاجين الزيتون مثلًا، وطاجين الحلو، والحميس (فلفل وطماطم)، والبوراك (ورق عجين محشي بالكفتة، والجبن)، والخبز التقليدي المعروف بالمطلوع، والكسرة، وخبز الدار، وغير ذلك.

لكن مربط الفرس يكمن في الطبق الأساسي المتمثّل في الحساء الذي يستفتح به الجزائريون فطورهم طيلة الشهر، ويعدّ أيقونة رمضان، والمسمّى الذي تُعرّف به المائدة وتُعرَف؛ والحساء في الجزائر –عمومًا- نوعان: طبق الشوربة فريك المعدّ بالقمح المحمص (فريك) واللحم والطماطم، وطبق الحريرة المعدّ بالخضار والتوابل المميّزة؛ وهنا تتجدّد الصراعات الودية في كلّ رمضان بين أهل الشرق والوسط، وأهل الغرب حول مدى أفضلية كل طبق على الآخر: أهل الشرق يرون بأنّ المجد للشوربة فريك، وأهل الغرب يجزمون بأنّ "حريرتهم" لا تضاهى.

الفريك.jpg
الفريك يزيّن واجهات المحلات بمدن الشرق والوسط في رمضان – تصوير ريحان مرغم (خاص بنفسج)

في حديث مع بنفسج، يعلق الصحفيّ والكاتب والباحث الأكاديميّ "إلياس رحماني" على هذه الحرب الطاحنة فيقول: "مع كلّ شهر رمضان يشتدّ الصراع بين طبق الشوربة فريك وطبق الحريرة، فيسعى كلّ معسكر لإبراز أنّ طبقه أفضل من الآخر. وما زاد الصراع حدّة هو تقرير للـcnn عن أفضلية الشوربة فريك على الحريرة"، وهو لا يخفي حبه للحريرة بصفته ابن الغرب الجزائريّ، معتبرًا أنّها لا تجارى من أي حساء آخر، معترفًا بأنّ الغلبة كمًّا وعددًا هي لأنصار الشوربة فريك.


اقرأ أيضًا: رمضان تونس: قلوبنا فوانيس تبعث حبًا


وينظر الأستاذ إلياس إلى هذا الصراع باعتباره انعكاسًا لعقلية الجزائريين، ودليلاً على تنوع العادات والتقاليد في الجزائر من مدينة إلى أخرى: "المتابع للصراع بين أنصار الطبقين يستمتع بأساليب الفريقين في الدفاع عن طبقهما ومهاجمة الطرف الآخر، ولعلّ هذا ما يميّز الجزائريين بروح الدعابة والأسلوب الساخر في تطرقهم لهكذا مواضيع، وهذا الصراع يبيّن أنّ بلدنا قارة وبها من الأطباق والعادات والتقاليد ما لا توجد في أي بلاد أخرى". كما يسيق الخلفية التاريخية لكلا الطبقين مشيرًا إلى انتشار الحريرة في المناطق التي كانت تحت حكم المماليك المغربية والزيانيين، على عكس الشوربة فريك التي كانت في المناطق الخاضعة لحكم الدولة الحفصية. ويرسل في الختام بحسّ دعابة تحياته لأنصار الحريرة قائلًا لهم: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السالكين فيه، ولا تنظروا إلى قلة السالكين إذا اقتنعتم بصدق قضيتكم. المجدُ للحريرة!".

| نصيب الأطفال من رمضان

 
 
تجهّز الجدّة زينة (70 عامًا) مع ابنتها سامية (45 عامًا) الفطور للحفيد إلياس الذي سبقهما إلى السطح، وتنتظران بترقّب وحماس شديدين آذان المغرب حتى تتناولا الفطور. تقول سامية بأنّ الصغير إلياس يصوم للمرة الأولى في حياته، وتجري العادة هنا في جبال القبائل الأمازيغ بأعالي مدينة تيزي وزو أن يفطر الولد الصائم لأول مرة على سطح المنزل افتخارًا به لتحمله مشاق الصيام لمدة يوم كامل. تضيف الجدة زينة: " الإفطار على السّطح يعني بأنّ هذا الولد الذي استهلّ مشوار الصوم والصبر هو تاج العائلة، هو فوق رؤوسنا جميعا".

تجهّز الجدّة زينة (70 عامًا) مع ابنتها سامية (45 عامًا) الفطور للحفيد إلياس الذي سبقهما إلى السطح، وتنتظران بترقّب وحماس شديدين آذان المغرب حتى تتناولا الفطور. تقول سامية بأنّ الصغير إلياس يصوم للمرة الأولى في حياته، وتجري العادة هنا في جبال القبائل الأمازيغ بأعالي مدينة تيزي وزو أن يفطر الولد الصائم لأول مرة على سطح المنزل افتخارًا به لتحمله مشاق الصيام لمدة يوم كامل. تضيف الجدة زينة: " الإفطار على السّطح يعني بأنّ هذا الولد الذي استهلّ مشوار الصوم والصبر هو تاج العائلة، هو فوق رؤوسنا جميعا".

أما في وادي ميزاب بمدينة غرداية الصحراوية، فللأطفال نصيب أوفر هناك، على غرار عادات تقليدية أخرى لا تفارق الأسر الميزابية (الميزابيون طائفة من الطوائف الأمازيغية) وتمنح للشهر الفضيل روحًا وبهجة. تشرح لنا عائشة (27 عامً) تقليدَ "تكوفت نزومي"، أو "قفة الصيام" قائلةً: "تقدّم القفة للطفل البالغ الذي سيصوم رمضانه الأول بعد التكليف لتشجيعه وتحفيزه على إتمام دينه". وتحوي هذه القفة المصنوعة من سعيف النخل المميّز للمدينة على الحلويات والمكسرات وطبق تقليدي يعرف بالطمينة. وتصف عائشة هذا الجو بالعرس: "تحضير هذه القفة يكون في جو عائليّ بهيج؛ إذ يعتبر عرسًا في ذلك البيت؛ فالكل يتعاون في ملئها، كما تقدّم للطفل إكراميات من طرف العائلة، كالمال والهدايا والحلويات".

في ميزاب، لا يقتصر حضور الأطفال على الأخذ، بل يتمثل في العطاء أيضًا؛ فمع غروب شمس كلّ يوم في رمضان، ورفع الآذان، يطلق صوت البارود معلنًا عن وقت الإفطار، ويعقبه تطبيل الأطفال في البنادير المصنوعة من الألمنيوم. بوجمعة (23 سنة) طالب جامعيّ وشاب ميزابيّ يشرح لبنفسج أبعاد هذا التقليد وحيثياته: "بدءًا من اليوم الأول في السحور نلاحظ بوادر رمضان، وهذا بفرقعة البارود معلنةً الإمساك لليوم الأول، وبعدها نلاحظ الأطفال يحضرون بناديرهم المصنوعة من علب الحليب المصنعة من الألمنيوم، ويهللون ويطبلون معلنين أنه قد جاز لهم الإفطار.

ويعود هذا التقليد بأصوله إلى الماضي إذ لم تكن الوسائل متطورة مثل اليوم، فلم يكن البعيد أو المسافر يسمع الآذان، والبارود ودقّ الأطفال للطبول يساعدهم في معرفة وقت الإفطار". حينما سألنا بوجمعة عن سيد الموقف في غرداية خلال رمضان، اعتبر أنّ بائع الملابس التقليدية هو الأجدر ليحوز بهذا اللقب بالنظر إلى تهافت الرجال إلى شراء العباءات المرفقة بالسراويل والشاشية، قائلًا: "سيد الموقف هو بائع العباءات والملابس التقليدية، فمعظم المصلين يريدون أن يبدوا على أبهى حلة مرصعين بالأبيض في المساجد".

| للزلابية حكاية أخرى!

الزلابية.jpg
الزلابية من سوق في الجزائر

يبدو أنّ الجزائريين سمعوا ابن الورديّ وهو يتغنى بالزلابية قائلًا: رأيته سحرًا يقلي زلابيةً في رقّة القشر والتجويف كالقصب يلقي العجين لجينًا من أنامله فيستحيل شبابيطًا من الذهب فقرّروا أن يسيروا على خطاه في هواها والافتتان بها؛ فللزلابية قيمة عالية في نفوسهم تعادل تاريخها القديم، وحضورها البارز في السهرة وقبيل الإفطار، وارتباطها بالكثير من الأحداث والمواقف في ذاكرتهم الجمعية؛ وهي من الحلويات العريقة التي لا يمكن لرمضان أن يخلو منها، تشكّل طوابير كثيرة لشرائها، وتوزّع في المساجد وعلى الجيران. أمّا في الأحياء الشعبية حيث تنتشر عادة "الذوق" بأن ترسل كل عائلة لجيرانها طبقًا ممّا أعدت في الشهر، وتستقبل هي بدورها منهم، فلا بدّ للزلابية من حضور.

received_514608606996294 (1).jpeg
السحور بالمحلبي القسطنطيني

يُقال في أصل الاسم أنّها تنسب إلى زرياب الذي حضرها لأول مرة في تونس، وانتقلت من هناك إلى الجزائر والمغرب. بينما يرجّح آخرون سبب التسمية إلى أن سيّدًا طلب من خادمه أن يعدّ له حلوى، فقام الخادم بمزج الدقيق والماء والملح وقليها، لكنّها لم تتشكّل في صورة مناسبة فقال له الخادم: "زلّة بي"، ومن هناك سيق الاسم "زلابية"، وسيقت معه صورة رمضانية فريدة في الجزائر.

في الجزائر، يتسلل إلى قلبك قبل سمعك صوت عبد الباسط عبد الصمد الشجيّ وهو يرتل القرءان في الوقت ما بين العصر والمغرب من مآذن المساجد؛ كلّ المدن في كلّ ربوع البلاد اتّفقت على أن تستعير هذه الحنجرة الذهبية من مصر المحروسة وتجعلها صدًى يصدح بالروحانية والسّكينة، ويربط الجزائريين بجوّ هذا الشهر الفضيل حتى يقولوا في آخره: "سِيدْنا رمضان مسكين والله ما طول".