بنفسج

شيرين أبو عاقلة: حوار لم يكتمل مع بطلة قصة رحلت

الخميس 12 مايو

نقرة صغيرة على الكتف، التفتتْ مع ابتسامة غامرة تسأل: صورة؟ أجبتها: أطمع بالأكثر، كان المسرح يعُج بالجمهور والمعجبين، يريدون التقاط الصور معها ومع صحافيات أخريات، ودّعتني بصورة ووعد بإجراء حوار صحافي كامل في أقربِ وقت. لا أخفيكم، كانت صورتي معها بالنسبة ليّ ذخيرة، كيف لا؟ وهي أستاذة الصحافة المتمرسة في الإعلام، وسيدة الميدان الفلسطينيّ، أرسلت الصورة إلى الأهل في غزة، أخبرتهم والدنيا لا تسعني سأُجري حوارًا مع شيرين أبو عاقلة!

كنتُ سعيدة للغاية وأفشيت لصديقتي سرًّا أن أجمل ما في مؤتمر فلسطيني الخارج – إسطنبول، أنّه جمعني بشيرين والكثير من الفلسطينيين في أصقاع الأرض، نعم، فنحن المغتربين من غزة نقبض بكلتي يدينا على كل حدثٍ يلّم شملنا لأننا لا نصحو من حصار غزة حتى، ونحن بين يديّ بلاد مفتوحة من كل الجهات.

"اششش ولا صوت أجت شيرين".. طفلة كنت لا أتجاوز الثامنة، أثير الفوضى في البيت والجميع ينتظر بلهفة أي جديد من أخبار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، هناك كانت تكبر شيرين أيقونة صامدة بلا خوف بين القرى والبلدات، تغطي الاجتياحات وتنعى الشهداء، منها عرفنا حارات فلسطين شبرًا شبرًا.

لم يكن الأمر يتعلق بصحافية حالمة مثلي تلتقي بإحدى عمالقة الإعلام صدفة قدريّة وحسب؛ بل كنت أقف جانبها وأرى كيف كبرتُ وجيل كامل على إطلالة شيرين أبو عاقلة عبر شاشة الجزيرة. كان حُلمًا، وكنت أرى فيها، ككل فلسطيني عبر الشاشةِ، بحّة صوتنا، أثر خطواتنا، وهمّنا الكبير في المخيمات، والاقتحامات، والحروب، والاعتصامات، هي صوت فلسطين، في صورتها أمل بخبرٍ سعيد، بنصرٍ قريب، بانفراجةٍ صغيرة، بتراجعٍ للجندُ ولو خطوتين، بصباح مقدسي غير حزين، هي نحن الفلسطينيين.

"اششش ولا صوت أجت شيرين".. طفلة كنت لا أتجاوز الثامنة، أثير الفوضى في البيت والجميع ينتظر بلهفة أي جديد من أخبار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، هناك كانت تكبر شيرين أيقونة صامدة بلا خوف بين القرى والبلدات، تغطي الاجتياحات وتنعى الشهداء، منها عرفنا حارات فلسطين شبرًا شبرًا، تتنقل من حاجزٍ إلى حاجز، ومن مدينةٍ إلى أخرى، القدس، رام الله، جنين، طوباس، تل الربيع، البيرة، أريحا، الأغوار، بيت لحم، يافا، والمقام لا يتسع لمزيدٍ من السرد...

تواصلنا، اتصلت بها مرارًا، لم تُجب، تركت لها رسالة قصيرة، ردت: "آسفة حبيبتي، للأسف أنا في جنين ووضع الشغل صعب شوي"، طلبت تأجيل إجراء الحوار. مرة أخرى كنت سعيدة بمجرد الردّ، بدأت أحضّر نفسي جيّدًا، إنّها شيرين، يجب أن أعرف كيف أسبر أغوارها بالأسئلة، حتمًا سأسألها عما لا يعرفه الكثيرون خلف الشاشة، عملها في التدريس في جامعة بيرزيت مثلًا، أو حصولها على دبلومة في الإعلام الجديد مؤخرًا، وقد يأخذنا الحديث إلى كواليس المراسلة التلفزيونية، نسخر ربما من غباء الجنود في باب العمود، أو أبادرها بسؤالٍ عن نظرةِ انكسار من جنديٍ ما، وحتمًا كنتُ سأعِدُها بفنجان قهوة على بحرِ غزة يومًا..

وفي الحقيقة مرّت سنوات ونحن نتلقَ أخبار إعدامات، واغتيالات، شهداء، والكثير الكثير، لكن يبقى الخبر الذي نصحو عليه في الصباح مفجعًا بشكلٍ لا يحتمله العقل ولا تفلته الذاكرة أبدًا، فكيف إذا كان اغتيالًا صارخًا في وضح النهار لشيرين أبو عاقلة، شيرين المحفورة في البال دومًا.

اليوم، نصحو أو قل لن نصحو على فاجعة اغتيال هذه الياسمينة الفلسطينية الثائرة، وأنا لم أرَ ياسمينًا يُخضّب بالأحمر أو يصبح ثائرًا إلا في فلسطين، وفي الحقيقة مرّت سنوات ونحن نتلقَ أخبار إعدامات، واغتيالات، شهداء، والكثير الكثير، لكن يبقى الخبر الذي نصحو عليه في الصباح مفجعًا بشكلٍ لا يحتمله العقل ولا تفلته الذاكرة أبدًا، فكيف إذا كان اغتيالًا صارخًا في وضح النهار لشيرين أبو عاقلة، شيرين المحفورة في البال دومًا، المراسلة الأولى لشبكة الجزيرة، والصوت الذي يرتبط بالأرض كمعزوفة عندما تختتم تقاريرها الصحافية قائلة: "شيرين أبو عاقلة، الجزيرة...

صحافية في مهمة إعلامية ترتدي بزة الصحافة، تقف أمام الجنُد مكشوفة؛ ليفهم هذا الأحمق أنّها ترتدي سترة واقية وليست سترةً مدرعة بالأسلحة، أنها تحمل مايكرفونًا وليس قنبلة! تُغطي حدث اقتحام جنود الاحتلال لمخيّم جنين، كآلاف الاقتحامات السابقة على مدار أعوامٍ قضتها تُطلّ فيها على الشاشة العربية، وتعرفها عصابات وحشيّة من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي في الميادين والساحات والحواجز والاقتحامات، وعلى مسافة 25 عامًا من التغطية كانت قد نجت شيرين دومًا من رصاصة عابرة، لكنّ اليوم أطلق قناص بجحٍ على الزناد تنفيذًا لأمرٍ بالإعدام كان قد بُتّ وانتهى.

الأمم المتحدة تفتح تحقيقًا في الجريمة، شاشة قناة الجزيرة تفتح عزاءً ملء الشاشة العربية، وتحقيقات استقصائية إعلامية منفردة وآنية على الهواء مباشرة، لم يبقَ جهة دولية، حقوقية، ولا إعلامية، ولا إنسانية، ولا أخرى تهتم بالمرأة، إلا واستنكرت وأدانت هذه البشاعة المحضّة، وهناك في الأرض المسروقة كيان واهن يتباهى بنصرٍ أحرزه من إعدام صحافية!

هذا الاحتلال الذي لا يكفّ عن لعب دور الضحية في الميادين الدولية كافة، وشرعنة حماقاته البحتة، والبراعة في قلب الصورة. هو سارق، يتفنن في سرقة التراث، الهوية، الفلكلور، الأكلات، فكيف يغفل عن سرقة الحقيقة في حدثٍ مدوٍ كهذا؛ لكنه لا يعرف الآن أين يُخفي وجهه أمام المجتمع الدولي فيتوارى خلف عاره بتبديل الروايات، ولكن هيهات أن تُغطى شمس السابعة صباحًا، هيهات أن يضّل الحق طريقه.

لم يُجر الحوار، ولن يُجرى أبدًا، وربما كنتُ بحاجةٍ لأجزاء لأُتمّ القصة، وستبقى ناقصة! فكيف لحوار بروفايل صحافي أن يُسطر عقود بأيامها وساعاتها؟ لقد كانت شيرين أبو عاقلة التي فجعتنا بخبرِ اغتيالها اليوم، على مدار ربع قرن تنقل الخبر والموجز والتفاصيل، ولم تدرِ كيف أصبحت في لحظةٍ "مانشيتًا" يُدمي القلب، وبينما هي تُعدم بكامل زيّها الصحافي شهيدة وشاهدة، من أرض الحدث، تبكيها فلسطين باسم عدالة الحق الفلسطيني، وباسم الإنسان والإعلام في كل الميادين.