بنفسج

سمر حمد: عناقيد خير يرويها القرآن

الأحد 10 يوليو

من قرية عين يبرود في رام الله، بدأت الحكاية حيث بيتها الأول هناك في المسجد الذي صقل شخصيتها وفكرها ووضعها على أول الطريق، لتصبح ما هي عليه الآن علمًا وعملًا، كانت كأي فتاة متفوقة حلمها أن تدرس الطب، ولكن على حين غرة فاجأها مدرس التربية الإسلامية بسؤاله: "لماذا يبخل المتفوقون بأن يكونوا مشاريعًا لدراسة العلم الشرعي؟ سقط سؤاله في قلبها أولًا، فنبض نبضة لم ينبضها من قبل، كررت كلماته في نفسها مرارًا، إلى أن اهتدت إلى الالتحاق بكلية أصول الدين، فشدت على يديها السيدة الأولى في حياتها التي علمتها معنى اليقين، والصبر من دون حدود، راضية بقضاء الله وقدره حين اقتحم جسدها السرطان، فوقع الخبر على قلب صغيرتها سمر كالنيران، إلى أن زرعت الأم المعطاءة الرضا في قلبها بأفعالها لا بأقوالها.

| |لفصل الأول من الحكاية

 سمر حمد الناشطة حاصلة على بكالوريوس في أصول الدين من جامعة القدس "أبو ديس"، ومعلمة في مدرسة النجاح في رام الله، وطالبة ماجستير حاليًا. لم تنس سمر أي شيء مرّ عليها في صغرها، وخصوصًا تلك المواقف التي صقلت شخصيتها. حين كانت في الثانوية العامة رأت أستاذها يبكي بشراسة لم تر مثلها من قبل، حرقة دموعه وصلت حرارتها لكل الحاضرين، وسط تساؤلاتها "لماذا هذا كله؟".
 
جاء الخبر "اغتيال طائرات الاحتلال الإسرائيلي للشيخ أحمد ياسين"، شهقة خرجت من سمر ومشت بعدها كالمغيبة، تضيف لبنفسج: "أدركت حينها بأن لحياة الفلسطيني معان كثيرة، ولا أعظم من أن يعيش لأجل الرباط، فيجعل من حياته ومماته سطور صدق لرباطه فيها". 

بنفسج تستضيف الناشطة سمر حمد لتصحبنا في رحلتها الحياتية، وتروي لنا قصص العائلة، ومواقف الوجع التي صنعت منها إنسانة تعي قيمة اللحظة وتعلم جيدًا ألم الفراق. سمر حاصلة على بكالوريوس في أصول الدين من جامعة القدس "أبو ديس"، ومعلمة في مدرسة النجاح في رام الله، وطالبة ماجستير حاليًا. 

بفعل تغيرات الزمن وما عايشته خلال حياتها السابقة باتت سمر أكثر هدوءًا، على خلاف الصغيرة سمر التي شاكست في طفولتها كما ينبغي، لم تكن تستهويها ألعاب البنات أبدًا، تذهب حيث الألعاب الخطرة التي تنال من جسدها الصغير بشدة، مما يزعج والدتها، بعد هذا العمر كله تذكر  كيف كانت تتحول ملامح والدتها حين تراها تلعب ألعاب الأولاد، وتحفظها عن ظهر قلب فهي زادها في أيامها المنهكة. تقول سمر: "ترعرعت في عائلة تتكون من ٣ بنات وولدان، والدي كان رجلًا بسيطًا يؤمن كحال الكثيرين في فلسطين آنذاك بالطلقة الأولى ويهتف باسم الثورة، أنا وهو متشابهان حد التناسخ في الشكل، ومختلفان جدًا في الفكر والنهج، أنا أؤمن بنهج الإسلاميين. اختلفنا كثيرًا، ولكنه لم يكن يومًا أبًا ديكتاتوريًا، تركني اختار الفكر الذي أريد والانتماء الذي أحب، أعلن اختلافنا علانية حبًا وفخرًا بي". 

inbound7162242590345126474.png

بصوت هادئ مشتاق حد السماء لوالدتها التي كانت نجمة مضيئة في لياليها المعتمة، تخبرنا عن حنان الأم قائلة: "ما زال وقع خطوات أقدامها في غرفتي حيًا في ذاكرتي التي تأبى أن تنسى أي تفصيل يخصها، تأتيني برقة لتتأكد من أنني أراجع دروسي في ليالي الامتحانات، لو عشت عمري كله لأن أصف أمي العظيمة ولا أوفيها حقها أبدًا".

لم تنس سمر أي شيء مرّ عليها في صغرها، وخصوصًا تلك المواقف التي صقلت شخصيتها، حين كانت في الثانوية العامة رأت أستاذها يبكي بحرقة لم تر مثلها من قبل، حرقة دموعه وصلت حرارتها لكل الحاضرين، وسط تساؤلاتها "لماذا هذا كله؟". جاء الخبر "اغتيال طائرات الاحتلال الإسرائيلي للشيخ أحمد ياسين"، شهقة خرجت من سمر ومشت بعدها كالمغيبة، تضيف لبنفسج: "أدركت حينها بأن لحياة الفلسطيني معان كثيرة، ولا أعظم من أن يعيش لأجل الرباط، فيجعل من حياته ومماته سطور صدق لرباطه فيها". 

inbound4647958645330880592.jpg
الناشطة سمر حمد

في ذلك العام الذي تشكلت فيه مفاهيم سمر عن الوطن والنهج، نالت شهادة الثانوية العامة بتقدير امتياز، لتبدأ رحلة اختارتها بملىء إرادتها في كلية أصول الدين بجامعة القدس "أبو ديس" بعيدًا عن قريتها، فاغتربت هناك برفقة رفيقات المسجد، درسن معًا وكبرن على حب الكتلة الإسلامية بالجامعة، بالرغم كل التضيقات عليهن آنذاك، نفذن مبادرة رواد المساجد لتحفيظ القرآن الكريم، فكانت ثمرة جهودهن خلال فترة الدراسة الطويلة، وقرأن سوية كتاب الحكم العطائية ومدارج السالكين في تزكية النفس، نضج فكر سمر خلال تلك الفترة، وأصبحت أكثر علمًا ومرونة.

inbound7262791166347520761.png

أنهت الدراسة وعادت حيث مسقط رأسها بين أحضان العائلة، وشاءت الأقدار أن يتم خطبتها لشاب على خلق ودين وثقافة، وسيطًا معتدل الفكر، كما وصفته سمر منذ جلستهما الأولى سويًا، ولم تخب نظرتها فيه أبدًا، ظل الخطيبان في رحلة تعارف حتى اُعتقل وزج في سجون الاحتلال لعامين، وهنا تعرضت سمر للامتحان الأعظم في حياتها، ففي ظل غياب خطيبها اكتشفت إصابة والدتها بمرض السرطان في مراحله الأخيرة، تردف: "ظللت أدعو خلال ١١ شهر اللهم ارحمني من حياة بلا أم، عايشت تلك الفترة الطويلة مع أمي يدًا بيد رأيتها محتسبة صابرة، تخبرني أن مرضها خير فربما جاء لدفع بلاء أعظم، فأيقنت وقتها أن للدقيقة لذة لا يعرفها إلا من ذاق طعم الفراق عن الأحبة، توفيت والدتي وظلت ذكرياتنا ملجأي في الأوقات الصعبة". 


اقرأ أيَضًا: م. ريما بدير: للألف ميل مشوار بدأته من أبي


بعد رحيل الأم أدركت سمر أن للدعاء ألف وجه للاستجابة، وآمنت أكثر أن الله يستجيب لنا بأشكال أخرى، ولكننا لا ندرك حينها من فرط الألم، وأيقنت أن الأعمار تقاس باللحظات الجميلة. تجاوزت سمر فترة الألم، ولكن قلبها ما زال حتى اللحظة يبكي والدتها، ولكنها حياة يجب أن تسير. 

 ماذا تفعلين في أوقات فراغك التي تقتنصيها بصعوبة؟ تجيب: "أقرأ ثم أقرأ، القراءة دواء ناجع للروح وتفتح مداركها على عوالم عديدة، نور يسطع في القلب ليمضي بقوة في طريقه إلى الله خاصة قراءة القرآن الكريم، لذلك في أوقات الكبوة عادة ما ألوذ بالقراءة ليسطع نجم الشغف والإرادة والإقدام في همتي من جديد".

| الأمومة "نبضة أخرى"

inbound5827642741769830422.jpg
الناشطة سمر حمد وعائلتها

مرت السنوات وأصبحت الفتاة المتيمة بوالدتها لأقصى حد أمًا لأربع بنات، فبعثن في حياتها نورًا انطفأ منذ أن انتقلت أمها لرحمة الله، تقول: "حين أصبحت أمًا عزف قلبي إيقاعًا لا يشبه أي إيقاعًا سابقًا، إنه لشعور لا تسعفه الكلمات، أول نبضة كانت أنسام تبلغ الآن ١١ عامًا متفوقة في دراستها وصديقة لي أتشوق أن أراها حين تكبر كيف ستصبح، أما الثانية، تقى، فتشبهني جدًا، متعلقة بأخي، ورفيقة دربي في كل مظاهرة أو نشاط أو ندوة، الثالثة حنان تحمل اسم أعظم سيدة في حياتي أمي، لطيفة ندية كالنسمة، وآخر العنقود شام تبلغ من العمر 5 سنوات نبيهة سريعة البديهة، أضافت لحياتنا رونقًا وبهجة مختلفة". 

سمر تؤمن بمقولة "أولادنا خلقوا لزمان غير زماننا"، وبأن الحوار هو الوسيلة الأنسب لتنمية شخصية الصغار، تضيف: "يجب أن يتسلح أطفالنا بأدوات ومهارات وأفكار تمكنهم من الثبات والحفاظ على هويتهم ودينهم، وعلينا أولًا أن نزرع قيمة الحب في نفوسهم، وأن يكون الوالدان القدوة لهم كون الطفل يتأثر تلقائيًا بما يراه".

inbound1876071860414607687.png

التبحر في العلوم الشرعية جعلها أكثر شغفًا وحبًا للنيل من فيض هذا العلم الواسع، فظلت تقرأ وتبحث لتزيد معرفتها، تعتبر أن المعرفة قوة تجعل الإنسان يقف على أرض صلبة يمضي في الدروب الوعرة بُخطى ثابتة، ولذلك التحقت سمر بالدراسات العليا، فأكملت الماجستير في التفسير للقرآن الكريم وتستعد لمناقشة رسالتها "حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي دراسة وتحقيق". لقد كان الجهد مضاعفًا، وخصوصًا أنها سيدة عاملة تعمل في السلك التعليمي منذ 11 عامًا، وتتحمل مسؤولية عائلة وأطفال، ولكنها بمعونة زوجها الخطيب ناصر حمد استطاعت أن تحقق إنجازات متتالية في حياتها، فقد كان نعم الداعم والرفيق الذي لا يكف عن بذل جهده لدفعها في طريق العلم والعمل. 

في ظل حياتها الغامرة بالجهود من كل جانب، أرادت خوض تجربة جديدة ليس لأجلها هذه المرة، بل بغية أن تترك أثر وتغيير في الواقع الفلسطيني ولو بالشكل اليسير، فأقدمت على الترشح للانتخابات التشريعية في العام الماضي ضمن قائمة القدس موعدنا، تقول لبنفسج: "الترشح كان بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر في ظل الوضع الفلسطيني المعقد الذي يقيد حرية التعبير هنا، كنت أعلم أنني سأتعرض للتضييق وسماع عبارات من نوع كيف تفرطين بأطفالك لو سُجنت على خلفية الترشح! ولكن وكلت أمري لله وكل ما أردته أن أكون سببًا في حياة آمنة يأخذ الكل الفلسطيني حقه، من دون تمييز على خلفية الانتماء السياسي".

inbound4239032205054777937.png

تكمل: "وددت أن يكون لي صوت في صُنع القرار، وصوت للنساء اللواتي لا يجدن نصيرًا لهن، وأقف في وجه كل من يدعو للتحلل من الدين والعرف. حقيقة التجربة أثرتني، فقد رأيت الفلسطينيين بمختلف الأطياف، المنسيين والمهمشين في المجتمع، وتعرفت على أنماط تفكير كثيرة". 

وفي نهاية حديثها الطويل لبنفسج تأمل سمر أن تكمل الدكتوراه قريبًا، وأن تترك الأثر الطيب في كل مكان، وتنهل من بحر العلوم الشرعية أكثر، وتستمر في مسيرة التعلم لآخر رمق في الحياة.