بنفسج

عن هموم العودة إلى المدرسة

الأحد 28 اغسطس

يعرف أصدقائي اهتمامي بموضوع التعليم وقضاياه، ويستغل كثيرون منهم جلساتنا بالحديث عن هموم التعليم وقضاياه التي لا تنتهي، ويستغرقنا الوقت ونحن نتحدث حول ما يمكن أن يؤول إليه مستقبل أبنائنا في ظل الواقع التعليمي القائم، مع بداية هذا العام الدراسي 2022- 2023 يطول حديث بعض الأصدقاء عن تكاليف المدارس، خاصة أولئك الذين لديهم أكثر من طفل واحد، فالغلاء وصل كل شيء حتى ربطة الدفاتر التي يقول صديقي أنها كانت تُباع ب5 شيكل هي اليوم بأكثر من ضعف هذا المبلغ. المشكلة ليست بالتكاليف الباهظة التي وصلت كل شيء ابتداءً من حبة القمح الأوكراني وصولًا إلى حذاء الرياضة الصيني، فنحن لا نصنع شيئًا يا صديقي، ونستثمر بتعليم أبنائنا -كما نقول- في هذا العالم الذي توحش في وجهنا فجأة.

| أزمة اتحاد المعلمين

معلم.jpg
اتحاد المعلمين ينظم وقفة احتجاجية للمطالبة بحقوق المعلمين الفلسطينيين

مع انطلاق هذا العام الدراسي تضج صفحات التواصل الاجتماعي بالبيانات شديدة اللهجة من اتحاد المعلمين الفلسطينيين الذي يهدد ويتوعد، بسبب عدم التزام الحكومة بالاتفاقيات الموقعة بعد أن صرح وزير المالية بعدم صرف أي علاوات ترتبت على اتفاقيات خاصة بين أي وزارة وموظفيها.  ضجّ الناس بهذا الحديث وما ترتب عليه من بيانات من اتحاد المعلمين وصفحات مختلفة تحمل عناوين مجهولة المصدر تهدد وتتوعد بافتتاح العام الدراسي بإضراب شامل في ظل استمرار اقتطاع 20% من رواتب المعلمين منذ حوالي السنة، وعدم ظهور أي بوادر لحل الأزمات العالقة.

وما الذي نملكه نحن في قلب هذه الحرائق غير القليل من الكلام ضمن سقف مهترئ يُقال أن حدوده السماء! الكثير من الناس حملوا أبناءهم وذهبوا إلى المدارس الخاصة في بحث عن خلاصٍ فردي لتعذر القيام بأي عمل جماعي في وجه النيران المشتعلة منذ فترة في واقعنا السياسي والاجتماعي. 

المدارس الخاصة والتي تشكل نسبة ضئيلة من مجموع المدارس في مجتمعنا، ولا تستوعب غير أعداد محدودة في ظل زيادة الإقبال، ولكنهم أيضًا مثلنا اصطدموا بواقع لم يكن موجودًا قبل سنوات كورونا الخداعات، حين لم يداوم الطلبة وبالتالي لم يدفع الناس، وحملت تلك المدارس رواتب موظفيها وديون تراكمت فوق ظهرها، وتريد اليوم أن تعوض تلك الخسائر برفع الأقساط، وتحصيل القسط كاملًا من أول يوم حتى لا تقع في الفخ من جديد.

FB_IMG_1661667295565.jpg
أسواق غزة في حالة تحضير للمدراس. تصوير: هاني الشاعر

المدارس الخاصة المتواضعة التي كانت أقساطها لا تزيد عن 3000 شيكل سنويًا للطفل اليوم تطلب 4 – 6 آلاف شيكل والدفع مقدمًا، هذا في مدينة مثل الخليل، حيث الأقساط كانت محدودة بينما في رام الله وغيرها سيتجاوز الرقم 10 آلاف شيكل، ألم أخبرك أن الناس تريد أن تستثمر في أبنائها يا صديقي، ولكن.

ولكن من يستطيع أن يدفع هذا المبلغ لاثنين وثلاثة وسبعة أطفال؟ نحن لسنا في دولة نفطية، نحن نتوزع على فئات معظمها محدود الدخل موظفون وعمال وبعض التجار وكثير من البائسين، من يستطيع أن يقتطع من راتبه أكثر من نصفه ليضع أبناءه في مدارس خاصة هذا في حال وجد له مكانًا، فالكثير من المدارس الخاصة أقفلت باب التسجيل وبعضها يفتح التسجيل يومًا واحدًا بسبب الإقبال الشديد، فالناس تريد أن تستثمر في أبنائها كما أخبرتك.


اقرأ أيضًا: المدارس المستقلة: مدارس مرتبطة بالمجتمع


حتى المدارس الحكومية فهي أنواع وطبقات بعضها أقل سوءًا من بعض بعضها متميز بموقعه في منطقة متوسطة سهلة المواصلات يديرها مدير حقيقي ويحكم على الكبير والصغير فيها، ويأتيه الطلبة من محيط عائلي جيد، وبعضها على العكس من كل ما ذكرت، فإذا أردت أن تنقل ابنك من هذه المدرسة الحكومية البائسة إلى تلك الأقل بؤسًا فأنت اليوم بحاجة إلى واسطة كبيرة -ربما- تحتاج إلى لواء في جهاز أمن أو أمين سر التنظيم أو يمكنك أن تختصر على نفسك وتتبرع -بكامل إرادتك- بشيء ما أو مبلغ ما للمدرسة. فالإنسان والاستثمار فيه ليس بهذه السهولة في بلادنا كما ترى.

| الاستثمار في الأبناء!

بعد أن وضعت ابنك في المدرسة التي تريد ووافقت بكامل إرادتك أن تضع ابنك في صف فيه أكثر من أربعين طالبًا أو طالبةً أو خمسين، ويفتقد هذا الصف لكل متطلبات الصحة والراحة والتدفئة والتهوية والوسائل وعدت إلى بيتك على عجل، أنت في أمان الآن ولكن عليك أن تتابع الأمر جيدًا.
 
فقد تُبتلى بمعلم سيء الخلق وفاقد للأهلية أو بطالب من تلك النوعية التي يستحيل التعامل معها، حينها تحتاج إلى واسطة جديدة أقل ثقلًا لنقله إلى صف آخر أو تحتاج إلى دروس خصوصية، فهذا المعلم لا يغطي المادة بشكل جيد وابنك استثمارك الوحيد في هذه الحياة.

بعد أن وضعت ابنك في المدرسة التي تريد ووافقت بكامل إرادتك أن تضع ابنك في صف فيه أكثر من أربعين طالبًا أو طالبةً أو خمسين، ويفتقد هذا الصف لكل متطلبات الصحة والراحة والتدفئة والتهوية والوسائل وعدت إلى بيتك على عجل، أنت في أمان الآن ولكن عليك أن تتابع الأمر جيدًا، فقد تُبتلى بمعلم سيء الخلق وفاقد للأهلية أو بطالب من تلك النوعية التي يستحيل التعامل معها، حينها تحتاج إلى واسطة جديدة أقل ثقلًا لنقله إلى صف آخر، أو تحتاج إلى دروس خصوصية فهذا المعلم لا يغطي المادة بشكل جيد وابنك استثمارك الوحيد في هذه الحياة.

الدروس الخاصة التي كنا نسمع عنها في الأفلام المصرية ونستغربها باعتبارها جزءًا أساسيًا من الثقافة التعليمية هناك، صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليوم خاصة في المرحلة الأساسية التي احترقت بسبب عطلات كورونا وإنجازات التعليم عن بعد، ومرحلة الثانوية العامة التي تستهلك أعمارنا وأوقاتنا وصحتنا النفسية وقبل ذلك أموالنا.

 فمعلم التوجيهي محسود إذا كان في تخصصات محددة كالإنجليزية والرياضيات والفيزياء، فهو لا يبيعك موسمه ب10 آلاف شيكل شهريًا والدرس الذي كان يأخذ عليه 50 شيكل على الساعة، هو اليوم لا يقبل بأقل من 90 شيكل وساعته على الطاولة.  المعلم الذي لم ينقطع عن المطالبة بحقوقه منذ أول يوم تأسست فيه هذه السلطة، يقف اليوم وحيدًا ليدبر أمره، فمنهم من يحافظ على كرامته ويحفظ دينه ويبحث عن لقمة حلال من حلال ومنهم من باع نفسه.

| واقع المدارس الحقيقي

thumbgen.jpg
عليك كولي أمر أن تنتبه لابنك جيدًا وتتابعه في المدرسة وإلا استثمارك فيه سيذهب هباءا

ألم أخبرك أنه استثمار، حين تضع لابنك 10 آلاف شيكل في مدرسة خاصة فأنت تستثمر، وحين تضع ضعف هذا المبلغ ثمن دروس خصوصية لطالب التوجيهي فأنت تستثمر. الحقيقة أنك تقنع نفسك أنه استثمار في أغلى ما تملك وأثمن ما تؤمل فيه لمستقبلك ومستقبل أسرتك، هذه حقيقة ولكنها حقيقة مرة نهرب من واقعها ونهرب من مستقبلها المجهول كمستقبلنا، لنحاول أن نظل على قيد الحياة.

 نحلم أن نرى أبناءنا في واقع أفضل مما عشناه نحن ونحلم لهم بمستقبل أفضل مما اضطررنا للقبول له، وقيل لنا أن من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، فهل هذه المدارس بواقعها الذي لا نجهله ستنفع أبناءنا دنيا أو آخرة؟ مضطرون للهروب من الإجابة فالهرب من الجوابات أسهل بكثير من الغرق في بحث الحلول المستحيلة، والإيغال في توصيف المشكلات أو الحوْم حولها أسهل وأقل ألمًا من الإغراق في سؤال الجدوى.

بكل الأحوال أنا مؤمن بأن طريق العلم والذي ليست المدرسة طريقه الوحيدة بطبيعة الحال، هو طريق إجباري يجب أن نمر منه في هذه المرحلة من تاريخنا بكل أسف، ومؤمن بأنه لا يمكن حل مشكلة التعليم اليوم من خارجها، وكلما قرأت في الخيارات المطروحة كالتعليم المنزلي والتعليم المرن وما إلى ذلك.

وصلت إلى قناعة أن المسألة أعقد من ذلك بكثير وأن يدنا التي تحاول أن تستثمر وتبني في أبنائنا، ستجد ألف يد تحمل معاول الهدم لكسر أخلاقهم وقيمهم ودينهم ومستقبلهم، ابتداءً من رجل السياسة الذي ضيع البلد وصولًا إلى ضابط المخابرات صاحب الأجندة الواضحة الساعية إلى محونا وهدمنا، وليس انتهاءً بالتاجر صاحب البدلة الأنيقة الذي يرى فينا كيس نقود يفكر كيف يستثمره.

وكما كان يُقال في المثل الأجنبي أنت تحتاج إلى جهد قرية كاملة لتربية طفل، فكيف حال جهود قريتنا التي تربي معنا اليوم، كيف حال مساجدنا وخطبائنا، وكيف حال عاداتنا وتقاليدنا وأفراحنا، كيف حال المغنيين والمطربين والنماذج والقدوات، كيف حال المجتمع الأقارب الأعمام والأخوال النساء والرجال، كيف حال المعلمين والمربين؟ هؤلاء الذين نريد منهم جميعًا أن يضعوا أيديهم في أيدينا لنربي نحن ولدًا أو بنتًا صالحين معتزًا بدينة وحاملًا لقيم صالحة، نافعًا لنفسه وأمته.

| إرهاق "مادي" للأهل

كثيرون من أبناء هذا الجيل الذي نعيش معه يريدون من أبنائهم الكثير ويتأملون بأن يكون كل واحد منهم قصة نجاح حقيقية في حفظ القرآن والعمل به، وفي التفوق في صفه الدراسي وفي التميز في أدائه الرياضي وفي التوجيهي والجامعة والحياة.  ولكن الواقع بكل مكوناته على صعيد منفرد وجماعي يسحب منا كل تلك الأحلام؛ بسبب ضيق العيش أولًا كسبب مركزي مرتبط بكثير من تفاصيل حياتنا اليوم وفساد الأخلاق وانحطاط القيم الذي استطاع أن يقتحم بيوتنا من خلال الجوالات، والفساد السياسي أسُّ الفساد وركنه الحصين الذي نخر عظم مكونات المجتمع كلِّها.
في الواقع فإن أصدق ما يمكن أن نعزي به أنفسنا اليوم أننا نعيش في زمان صعب، صعب على وجه الحقيقة لا كما نفترض في فضول كلماتنا، صعب لأننا لم نعد نملك ما يكفي لنضع أبناءنا في مدارس خاصة، ولم نعد نملك ما يكفي لنحضر لهم أفضل المعلمين، ولم نعد قادرين أن نشتري لهم أفضل الطعام الصحي من بين أكوام النفايات والسموم المنتشرة في المولات.

 ولا نستطيع أن ندفع لهم في النوادي الرياضية ولا حتى في دورات الشطرنج والذكاء العقلي والروبوت، نحن اليوم نعمل ليل نهار، وكثيرٌ منا يكبر أبناؤه بعيدين عن نظره لأنه يخرج من بيته للعمل قبل أن يستيقظوا ويعود بعد نومهم. كثيرون منا يخرجون الآباء والأمهات لنحاول أن نرضي أنفسنا بتقديم شيء ما لأبنائنا، فشل آبائنا في تقديمه لنا، ولكن الضريبة فيما يظهر كانت أكبر من أن ندفعها!


اقرأ أيضًا: شهادات بلا علامات.. طرق بديلة لتقويم حقيقي لأطفالنا


كثيرون من أبناء هذا الجيل الذي نعيش معه يريدون من أبنائهم الكثير ويتأملون بأن يكون كل واحد منهم قصة نجاح حقيقية في حفظ القرآن والعمل به، وفي التفوق في صفه الدراسي وفي التميز في أدائه الرياضي وفي التوجيهي والجامعة والحياة، ولكن الواقع بكل مكوناته على صعيد منفرد وجماعي يسحب منا كل تلك الأحلام؛ بسبب ضيق العيش أولًا كسبب مركزي مرتبط بكثير من تفاصيل حياتنا اليوم وفساد الأخلاق وانحطاط القيم الذي استطاع أن يقتحم بيوتنا من خلال الجوالات، والفساد السياسي أسُّ الفساد وركنه الحصين الذي نخر عظم مكونات المجتمع كلِّها وأفسد فينا، وعلينا كل شيء مدارسنا ومساجدنا وأرواحنا.

sWwmY.jpeg
نحن في واقع  صعب يفرض علينا  أن نتجه للدورس الخصوصية في مرحلة الثانوية وهذا أثقل كاهل الأسرة الفلسطينية

ومع ذلك، ومع كل تلك الهموم التي تحوم حولها كل الظنون السيئة يظل لدينا أمل بالله، أولًا أن يصلح أعمالنا ويصلح أخلاقنا ويرزقنا بحسن نوايانا وقلة حيلتنا ما يرضينا به في أبنائنا ويرضى به عنا. ولا أمل بغير الله في هذا الزمان الصعب. هذا أولًا وأخيرًا وبين هذا الأمل، وإن شئت التسليم بقضاء الله بذل لجهد مضاعف واستعادة للوعي بعد كل خمول وذبول وعي بكل ما يحيط بنا من مغريات وماديات تسعى للنيل من مستقبلنا.

 ووعي برجل السياسة الذي أمّن نفسه وأبناءه ومستقبلهم وليحترق بعده العالم، ووعي بالاحتلال وسعيه الدائم الدائب إلى تهجيرنا وتجهيلنا، ووعي بالتاجر الجاهل المنحرف الذي يتاجر بعلمه أو دينه أو خلقه ليحقق الربح ولو على حساب مستقبلنا جميعًا، نحن وليس غيرنا نحن الفئة القليلة التي تقرأ وتكتب وتفكر وتبحث عن الحلول من يجب أن نضاعف جهدنا في كل طريق، وفي كل اتجاه لحماية ما نستطيع من قيمنا وأخلاقنا ومبادئنا التي يحاول غيرنا إبادتها. وليس لدي ذرة شك أننا قادرون أن نفعل شيئًا لتظل بذرة الخير مدفونة في صدور جيل طيب حتى يشاء الله تعالى له أن ينبت بأمره بكل خير.