بنفسج

سونيا نمر: تاريخ فلسطين تختصره حكاية جدي

الثلاثاء 22 نوفمبر

سونيا نمر: من قصص تاريخ فلسطين الشفوي
سونيا نمر: من قصص تاريخ فلسطين الشفوي

كنت محظوظة بالتعامل عن قرب مع د. سونيا نمر ، حين كانت واحدة من الهيئة التي أشرفت على رسالتي الماجستير قبل ما يقارب العشر سنوات. كانت أمينة إلى أبعد حدّ، ودقيقة حدّ التفاصيل. أُعجبت برسالتي، فشجعتني وساهمت ملاحظاتها في نقل رسالتي إلى مكان آخر، مكان كله حياة.  لم تكن رسالتي التي تناولت جريدة فلسطين التي أسسها عيسى العيسى في مطلع القرن العشرين، وأوقفها مرسوم ملكي في 1967، في خضم اختصاصها، غير أنها أثّرت بمنهجيتها التي تعتمد فيها أسلوب الرواية الشفوية مصدرًا للكتابة التاريخية على دراساتي؛ حين قالت لي: "أسمعي صوت الجريدة، اسمحي للقارئ بأن يتشبع من كلماتهم حروفهم، أكثري من النصوص، أرنِ الحياة فيها."

| حكايات سونيا نمر

سونيا نمر: من قصص تاريخ فلسطين الشفوي
رواية طائر الرعد للكاتبة سونيا نمر تروي فيها تاريخ فلسطين من قبل الفتح الإسلامي

وبعد ما يقارب العشر سنوات، رجعت رفقة بنياتي نجالسها في ندوة لمناقشة روايتها طائر الرعد، فكانت على حالها، حالمة شغوفة محبة للأطفال، غير آبهة لتقدمها في العمر. فالعمر كما عهدته ذخائر حكايات وروايات حافلة لا عدّ سنين وأيام، كان لشغفها، ذلك الفضل في دفع ابنتي لتختم سلسلة طائر الرعد الثلاثية في بضعة أيام، وهو ما لم أعهده عليها من قبل.

وكان مما شدها في تلك السلسلة قرب عمرها من عمر بطلة الرواية نور صاحبة الاثني عشر ربيعًا، والتي كان على عاتقها حماية العالم من الخراب المرتقب، اختارتها فتاة فلسطينية سمراء، تنقلت فيها بين المدن الفلسطينية وأخذتها إلى الجامعة بيرزيت، حيث كان يعمل والداها أستاذين جامعيين، قبل أن يتوفيا في حادث تحطم طائرة أثناء توجههما إلى لندن لعرض بحث لهما عن طائر الرعد في مؤتمر دولي.

لم تخف سونيا في تلك الرواية مشاعر الخوف والاضطراب التي عاشتها تلك الفتاة اليتيمة، لم تظهرها بصورة البطل الذي لا يُقهر، بل كانت قريبة للواقع صادقة في تعابير النفس، تساءلت في بداية القصة لماذا أنا؟ تراجعت، جفلت، ولكنها عادت تقدمت وخاضت مغامرة شائقة رفقة سبيكة صديقتها الجنية التي كانت مرشدتها في ذلك الطريق، الذي حاولت فيه سونيا أن تروي تاريخ فلسطين من قبل الفتح الإسلامي وحتى الاحتلال الصهيوني، بطريقة مذهلة تعتمد فيه أسلوب الملاحظة والمقارنة لا السرد المباشر، كأن تسأل نور صديقتها سبيكة بعد أن عبرت بوابة الزمن أين نحن؟ فتخبرها: في مدينة القدس غير أنها تلتفت حولها متعجبة وأين القبة الذهبية؟ وما هذه الأسوار العالية؟ فتجيبها: سبيكة بأن قبة الصخرة لم تُبن بعد وأن بناءها سيكون في وقت لاحق.


اقرأ أيضًا: مذكرات عنبرة الخالدة: الذاكرة كمصدر للتأريخ الاجتماعي


وربما يكون لأسلوبها الذي يدمج بين الصفات المتضادة والمشاعر المختلطة، والذي يمثل النفس البشرية بكل حالتها  الأثر الأكبر في شعور القارئ بالصدق والعفوية، ولعل ذاك كان نتاج عملها الطويل في مجال الرواية الشفوية واعتمادها إياها مصدرًا للتأريخ لاسيما في الحالة الفلسطينية، ذلك أن الرواية فعل عفوي تختلط فيه المشاعر، وتتشابك فيه الأزمنة وتروى الأحداث من زوايا مختلفة، تتفاوت فيه المعايير والأحكام، فيصبح التاريخ نسيجًا يلملم أشتاته من أفواه شتى، فتبعث فيه الحياة من جديد ليتمثل إليك بصورة أناس لهم قصص وحياة لا مجرد تاريخ جاف لحقب مؤرشفة بأرقام معينة، تفصل بينها اتفاقيات ومعاهدات وخيانات يدفع فيها اسم فلسطين، للتتراكله أقدام الدول الاستعمارية وكأنها محض أرض بلا روح.

| حكاية الجد سعيد نمر

سونيا نمر: من قصص تاريخ فلسطين الشفوي

وكان مما وقع بين يدي مقال كتبته حول جدها سعيد نمر باللغة الإنجليزية ، هذا المقال وإن كان البعض سيصنفه على أنه يقع ضمن حقل السير والمذكرات؛ فإننا لا نستطيع أن نغفل أنه كتب بيدي مؤرخة وروائية استطاعت بكل خفة أن تروي تاريخ فلسطين في قرن، عبر قصها لحكاية جدها الذي عاش من أواخر القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن المنصرم. 

يمكن لذلك المقال الذي هو أشبه برواية سينمائية حيّة أن يأخذك إلى ذلك الزمن، حيث كانت فلسطين بألويتها ومتصرفياتها لاتزال جزءًا من بلاد الشام تخضع للدولة العثمانية.

وكان مما وقع بين يدي مقال كتبته حول جدها سعيد نمر باللغة الإنجليزية ، هذا المقال وإن كان البعض سيصنفه على أنه يقع ضمن حقل السير والمذكرات؛ فإننا لا نستطيع أن نغفل أنه كتب بيدي مؤرخة وروائية استطاعت بكل خفة أن تروي تاريخ فلسطين في قرن، عبر قصها لحكاية جدها الذي عاش من أواخر القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن المنصرم. ماذا تريد أن تعرف عن تاريخ فلسطين في تلك الحقبة؟ أو ما الذي تعرفه عنه؟

يمكن لذلك المقال الذي هو أشبه برواية سينمائية حيّة أن يأخذك إلى ذلك الزمن، حيث كانت فلسطين بألويتها ومتصرفياتها لاتزال جزءًا من بلاد الشام تخضع للدولة العثمانية، حيث كان بإمكانك أن تكون كما جدها من طوباس قرية بين نابلس وجنين، وتولد في الزقازيق في مصر، حيث كان يعمل والده، وتتعلم في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتخدم في الجيش العثماني في درعا، وتتزوج من امرأة تركية. هكذا بكل بساطة لأنك تعيش ضمن الإمبراطورية العثمانية، حيث الأقطار العربية وحدة واحدة إلى حد بعيد. ومع ذلك فقد كانت الولايات العربية تعاني أوضاعًا اقتصادية متردية، تنتشر فيها الطبقية والإقطاعية.

"أعلن السلطان العثماني عبد الحميد أن ابن واحدًا من كل قبيلة بإمكانه الحضور للدراسة في إسطنبول على نفقة الحكومة الكاملة. كانت هذه المبادرة جزءًا من برنامج الإصلاح والمركزية العثماني، والذي كان أحد أهدافه تعزيز العلاقة بين القبائل والحكومة المركزية في إسطنبول. وقد رأى سعيد في ذلك فرصة عظيمة، وذهب إلى إسطنبول عام 1907 للدراسة".

فكان التعليم لتلك العائلات الفلاحية البسيطة يعدّ متنفسًا وفرصة ينشل فيه الابن المتعلم عائلته من قاع السلم الطبقي، ليعزز نوعًا ما من مكانتها الاجتماعية، وكانت فرصة السفر والتعلم في إسطنبول حلمًا يراود جل العائلات، لا للتباهي والمكانة الاجتماعية فحسب، بل لأن ذلك كان يعني أيضًا حصول ذلك الشخص بعد عودته على وظيفة حكومية، الأمر الذي كان له أهميته في ذلك الوقت.

"أعلن السلطان العثماني عبد الحميد أن ابن واحدًا من كل قبيلة بإمكانه الحضور للدراسة في إسطنبول على نفقة الحكومة الكاملة. كانت هذه المبادرة جزءًا من برنامج الإصلاح والمركزية العثماني، والذي كان أحد أهدافه تعزيز العلاقة بين القبائل والحكومة المركزية في إسطنبول. وقد رأى سعيد في ذلك فرصة عظيمة، وذهب إلى إسطنبول عام 1907 للدراسة".

وقد حالفه الحظ بأن يتناول العشاء مع السلطان عبد الحميد في ليلة أسطورية وعشاء من حكايات ألف ليلة وليلة، غير أن ذلك الحلم لم يستمر طويلًا، فسرعان ما اكتشف أنه ليس ابن زعيم قبلي، فرُمي في السجن لفترة، ثم طُرد خارج إسطنبول، فذهب ليدرس الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد ذلك تأخذك قصة الجدّ سعيد إلى زمن الحرب العالمية الأولى، حيث عمل فيها مع الدرك العثماني طبيبًا يداوي الجرحى، فروى أنها كانت حربًا قبيحة ورهيبة مع آلاف الجنود الجرحى، الأمر الذي جعله طبيبًا متمرسًا في وقت قياسي.

| نضال العشيرة

سونيا نمر: من قصص تاريخ فلسطين الشفوي
الكاتبة سونيا نمر من توقيع إحدى روايتها

ومن العمل مع الدرك العثماني إلى الانشقاق والانضمام إلى صفوف الثورة العربية عام 1916 كاد يخسر رأسه مرتين، الأولى على يد ضابط عثماني ثمل، والثانية على يد مجموعة من الثّوار العرب في درعا عندما جاءهم منشقًا عن العثمانيين، وكان لا يزال يرتدي الزيّ الرسميّ، فظنوه جنديًا عثمانيًا، غير أن أجله لم يحن بعد، فلا زال في العمر بقية، ليرافق الأمير فيصل ويصبح طبيبه الشخصي ويعيش، ولو لفترة وجيزة، حلم تأسيس دولة عربية موحدة.

 غير أن الحلم سرعان ما تهدّم على أعتاب معركة ميسلون، ليقرر بعدها عدم مرافقة الأمير فيصل إلى العراق والعودة إلى فلسطين، حيث سيقرر التنحي عن السياسة والانغماس في عمله الطبي، فيفتح عيادتين له، واحدة في بيسان والأخرى في جنين. غير أن رجلًا بهذا الحجم لن يكون هامشيًا في أحداث مفصلية عايشتها فلسطين في عهد الانتداب، فكان هو الطبيب الذي عاين عز الدين القسام، وأعلن وفاته وهو يبكي في 1935.


اقرأ أيضًا: أسمى طوبى.. قافية الناصرة وصوت القدس


وعندما انطلقت الثورة الفلسطينية في السنة اللاحقة، كان ممن ساعدوا الثوار رغم أنه لم يلتحق بهم مباشرة، ومن القصص التي يرويها أبو سونيا (فتحي) عن والده: "في عام 1937، أنقذ أبي البنك العربي من نهاية مدمرة. بعد أن استولى بعض من رجال الدرة (زعيم الثوار في منطقة جنين) على موظف البنك العربي في طريقه من القدس إلى حيفا وسرقوا منه 3000 ليرة فلسطينية، مخصصة لافتتاح فرع جديد للبنك العربي في حيفا. حينها اتصل عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي بأبي، وطلب مساعدته في استعادة المال، أرسل أبي إلى أبو درة وطلب منه إعادة المال. وافق أخيرًا وأعاد المال".

تقول سونيا في كل مرة يروي والدي هذه القصة يضيف مازحًا: "لو أن البنك العربي يمنحنا فائدة ذلك المال فقط، سنكون أغنياء".  بعد الفترة الانتدابية وخسارة معظم فلسطين في حرب 1948، خسر سعيد أيضًا عيادته في بيسان، واكتفى بالعمل في صمت، وبعيدًا عن السياسة، في عيادته في جنين في عهد الحكم الأردني للضفة الغربية.

وكان أن أشعلت في سونيا شرارة الإيمان بالتاريخ الشفوي، بعد أن اختصرت كذبة التاريخ الرسمي، معلقة على ما كانت تقرأه سونيا الطفلة من كتابها المدرسي، بمقولتها العفوية وهي تغسل الأطباق "يحرق عظامه"، فعلمتها أن هناك بونًا واسعًا بين ما تقرأ في كتب التاريخ وبين ما جرى حقيقة على أرض الواقع.

 وكان مما تذكره عن جدها:" في اليوم الأول من حرب 1967.هربت هي وعائلتها من البيت ليحتموا بمخبأ كان معدًا لمبيت الماشية، غير أنه كان عميقًا، وبعيدًا  عن صوت وقنابل المدافع، وبعد فترة من الزمن صرخ والدها، أين جدكم؟ نظروا فلم يجدوه بين حشود الناس المختبئة، فقرروا العودة والبحث عنه في المنزل فلم يجدوه أيضًا، وعندما ساروا في الشارع، وجدوه جالسًا في عيادته والباب مفتوح، وحين طلبوا منه المغادرة قال بإصرار، أنا طبيب وسأبقى هنا وأساعد الجرحى."

 تختم سونيا المقال بقولها إن أيًا من أبناء جدها العشرة، أو أحفاده لم بعمل بالسياسة، ولم يهتموا بها باستثنائها هي وأخيها نمر اللذين اعتقلا غير مرة، ويرجع ذلك إلى أمهما التي حفظتهما منذ طولتهما أغاني وطنية عن القضية الفلسطينية، وكان ذلك ممنوعًا في العهد الأردني. وكانت أن أشعلت في سونيا شرارة الإيمان بالتاريخ الشفوي، بعد أن اختصرت كذبة التاريخ الرسمي، معلقة على ما كانت تقرأه سونيا الطفلة من كتابها المدرسي، بمقولتها العفوية وهي تغسل الأطباق "يحرق عظامه"، فعلمتها أن هناك بونًا واسعًا بين ما تقرأ في كتب التاريخ وبين ما جرى حقيقة على أرض الواقع.