بنفسج

هل تملكين عين نملة!

الخميس 15 سبتمبر

ذات يوم، استيقظتُ متأخرة، الوقت يشير إلى مرور ساعة على بدء العمل، صغيراتي لم يستيقظن بعد، أحتاج لساعة على الأقل لأرتبهن وأجهز إفطارهن، ومن ثم أصحبهن إلى المدرسة ورياض الأطفال. ابنتي حرارتها مرتفعة، تأخرت السيارة التي ستصحبنا. في الطريق نسيتُ محفظتي، اضطررت للاتصال بصديقة، رصيد الهاتف قد نفد وأنا لم أنتبه له، اضطررت إلى التوقف عند صاحب الدكّان جانب مكان عملي، استلفتُ منه كي أسدد أجرة السائق، وأخبرته أني سأعيد له ماله حين مغادرتي عملي.

وصلتُ إلى مكان العمل، شعرت بأنّ طاقتي قد استنفدت بشكل كامل، لا طاقة لي بالحديث مع أحد، فاليوم كما يقولون "ضارب من أوله"، جلستُ على كرسيّ متعبة جدًا رغم أنّ اليوم لم يبدأ بعد، لكن حالتي النفسية بعد هذه المعركة الصباحية كانت سيئة للغاية، لا شيء سار كما كنتُ أرغب، ولا كما أنا معتادة عليه من روتين يومي.

| السر في الرضا

 
 
أتعلمين يا عزيزتي، هناك سر لفهم الحياة جيدًا، ومن فهم الحياة وصل إلى الدرب سالمًا، منتصرًا في البداية والنهاية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرضا، وحده من يمنحك السلام الداخلي الذي لو اجتمعت الدنيا بأكملها ما استطاعوا أن ينزعوا شيئًا منه أو يزعزعوه ولو قليلًا. ذاك الذي يشعرك أنك خفيف جدًا، مُسّلِم لكل شيء آتٍ، راضي لما يُكتب، ومتيقن أنه خير، نعم الخير الذي لا يغيب فيه اليقين.
 
ذاك الرضا الذي معه تحتفين بكل ما تملكين وإن قلّ أو كثر، لا بما يمتلكه الآخرون، تمتنين لله على تقاديره، فتصلين إلى دجة عالية من التصالح مع نفسك، وتجدين نفسك ماضيةً مع القدر بسلاسة، ومع كل حدثٍ قد تمرين فيه.

بعد مرور الوقت، شعرت كم أني كنتُ أمتلك عين النملة في ذاك اليوم، وكثيرون منا يمتلكونها. نعم، تلك العين التي ترى الأشياء الصغيرة السيئة كبيرة جدًا، حتى تسيطر على عقولنا ونعظّمها في حياتنا، فنركز عليها كثيرًا، ونشعر معها أنها تحيط بنا من كل حدب وصوب، وكأنها تنجذب إلينا، ويا لجهلنا ووقتنا الذي يُهدر في غير موضعه الصحيح.

ما يحدث في حقيقة الأمر، أننا في ازدحامٍ من النعم التي لا تعد ولا تحصى، غارقون جدًا فيها، لكننا ألفناها إلى الحد الذي يُنسينا نعمة الامتنان عليها، ووالله لو بذلنا جهدنا في كل ثانية من عمرنا لنشكر الله عليها ما استطعنا أن نقدّرها. لنعود إلى الوراء قليلًا، لما قبل الموقف الذي حدث معي، لو فتحتُ عيني وإن كنتُ متأخرة، وسلمتُ بهذا الأمر، وتذكرتُ حينها أنني، على الأقل، قادرة على سماع المنبه.

استطعت الاستيقاظ بمفردي، نمتُ لساعاتٍ دون أن يكدّر عليّ وخز إبرة أو ألمٍ، منحني الله يومًا جديدًا لاستغلاله بما ينفع، بينما هناك من انتهى عمره في تلك اللحظة، لدى صغيرات، استطعتُ مناداتهن بكل سلاسة، أيقظتهن وهن في كامل عافيتهن، لدينا من قوتِ اليوم ما يكفينا، ولدي القدرة على السير دون الاتكاء على أحد، لدي زوج وعائلة يعينونني على تخطي أي موقفٍ يحدث معي. أملك نقودًا وعملًا وصحبة جميلة، شاهدتُ بعيني السماء وسَعْي الناس من حولي وحركة السيارات وصوت الأطفال ونور الشمس.

روتين يومي ألفته كثيرًا، حتى إن شابه شيء من التغيير، شعرتُ بالضيق، يا الله كم أنا محاطة بكل هذا الحب منك، بكل هذا الاهتمام، بكل هذه التفاصيل التي هي في كل واحدةٍ منها لربما أعظم مراد لغيري، وقد يبذل عمره يركض سعيًا لتحقيقه وقد لا يُكتب له تحقيقها حتى يفنى.


اقرأ أيضًا: دفء النعم: ماذا يعني أن تكون ممتنًا؟


أتعلمين يا عزيزتي، هناك سر لفهم الحياة جيدًا، ومن فهم الحياة وصل إلى الدرب سالمًا، منتصرًا في البداية والنهاية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرضا، وحده من يمنحك السلام الداخلي الذي لو اجتمعت الدنيا بأكملها ما استطاعوا أن ينزعوا شيئًا منه أو يزعزعوه ولو قليلًا، ذاك الذي يشعرك أنك خفيف جدًا، مُسّلِم لكل شيء آتٍ، راضي لما يُكتب، ومتيقن أنه خير، نعم الخير الذي لا يغيب فيه اليقين "أن اختيار الله لك هو الأفضل، ولو اطلعت على الغيب، لاخترته وتمسكت به جيدًا".

ذاك الرضا الذي معه تحتفين بكل ما تملكين وإن قلّ أو كثر، لا بما يمتلكه الآخرون، تمتنين لله على تقاديره، فتصلين إلى دجة عالية من التصالح مع نفسك، وتجدين نفسك ماضيةً مع القدر بسلاسة، ومع كل حدثٍ قد تمرين فيه.

| تمرين النفس على الصبر

 

لربما تتساءلين ما السبيل الذي يُوصلك لتبلغي سر السعادة في هذه الحياة؟ عليكِ أن تيقني أنك قد جئتِ للحياة بهبةٍ من الله، لم يُخيرك في بعض الأمور كالموطن الذي تعيشين فيه، والداكِ، لون بشرتك، وترك لك الكثير من الأمور هي من اختيارك، قد يمنحك الكثير من العطايا ويمنع عنك البعض لخيرٍ هو يعلمه، وضعك في الدنيا التي هي "ممرٌ ومعبرٌ للاختبار والابتلاء"، فعجبي لمن يبحث فيها في الراحة الأبدية ويركض خلف سرابٍ، لأنه لم يفهم المراد من وجوده!

من فهم هذه المعادلة، لن يضيّع عمره في التفكير، سيتعلم الرضا لما يكتبه الله له، سيمتلك القناعة التامة أن غيره ليس بأحسن حالٍ منه، فالعطايا والمنع مقسمة كما هي مقدّرة من الله، كما الغنى والفقر، هكذا ستتفاوت الأرزاق وتختلف الابتلاءات، من لزم هذا الأمر فقد أعان نفسه على السير في هذه الحياة مهما ألمّ به من هموم وشدائد.

لربما تتساءلين ما السبيل الذي يُوصلك لتبلغي سر السعادة في هذه الحياة؟ عليكِ أن تيقني أنك قد جئتِ للحياة بهبةٍ من الله، لم يُخيرك في بعض الأمور كالموطن الذي تعيشين فيه، والداكِ، لون بشرتك، وترك لك الكثير من الأمور هي من اختيارك، قد يمنحك الكثير من العطايا ويمنع عنك البعض لخيرٍ هو يعلمه، وضعك في الدنيا التي هي "ممرٌ ومعبرٌ للاختبار والابتلاء"، فعجبي لمن يبحث فيها في الراحة الأبدية ويركض خلف سرابٍ، لأنه لم يفهم المراد من وجوده!

من فهم هذه المعادلة، لن يضيّع عمره في التفكير، سيتعلم الرضا لما يكتبه الله له، سيمتلك القناعة التامة أن غيره ليس بأحسن حالٍ منه، فالعطايا والمنع مقسمة كما هي مقدّرة من الله، كما الغنى والفقر، والإنجاب والعقم، وهكذا ستتفاوت الأرزاق وتختلف الابتلاءات. من لزم هذا الأمر فقد أعان نفسه على السير في هذه الحياة مهما ألمّ به من هموم وشدائد، لن يدخل في دوامة المقارنة مع أحد، سيعلم أن ما يمتلكه هو خيرٌ كثير، وأنه سيُحاسب على ما يملكه لا ما يملكه الآخرون، فلمَ نترك أعمارنا تتسرب من أيدينا ونحن نلهث خلف الوصول لأشياء قد لا تكون مكتوبة لنا؟

الرضا 5.png
الرضا بما قسم الله لك هو السر لحياة هادئة

أعلم يقينًا أن الوصول لهذا الأمر ليس سهلًا البتة، كما يحتاج الجسد إلى تمرين كي يبقى بصحةٍ جيدة، نحتاج إلى تمرين أنفسنا على الصبر، إلى خوض مرحلة من مجاهدة النفس والفهم والاستزادة من حديث الصالحين الذي يمهد لنا الطريق ويعيننا على السير فيه. ذات مرة، سئل الحسن البصري عن عدم القناعة، من أين تأتي؟ فأجاب: "من قلة الرضا عن الله"، قيل له: ومن أين أتت قلة الرضا عن الله، قال: "من قلة المعرفة بالله". فمن عرف ورضي عن الله، حظي بأعظم نعمة كما أخبرنا بها الحبيب "وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس"، ليس غنى المال، بل الرضا عن الله والاستغناء به والتفويض الكامل له في كل حالاتك.

لم تتزوجي، لم تنجبي، لم تحصلي على الوظيفة التي ترغبين، فقدت حبيبًا، تعانين من مرض ما، ابنك مريض، تتعسر عليك الحياة، والكثير من الأمور التي تتمنين تغييرها. نعم، هنا في هذه الابتلاءات يجب أن تتحلين  بالصبر، حين تعلمين أن هذه الأمور بيد الله وحده، ولا يملك تغييرها إلا هو، فيستوي الأمران لديك، فلا تريدين إلا ما يريده الله، وإن تقطع ألم في  داخلك، فالرضا لا يعني أنك لن تتألم، بل قد يهترئ  قلبك حزنًا لكنك قبلتِ الأمر الذي نزل بك، فتنساقين باستسلام تام للذي قسّم ذلك، فيغمرك السلام ويطبطب الله على قلبك، ويحيطك بمعيته التي إن حلّت تجاوزت بها كل أمر صعب أو جلل.

| نصائح للسير في درب الرضا

تذكري أن هذه دنيا، فلا تبحثي فيها عن الكمال في كل شيء في حياتك، فهذا محال، وينافي وجودنا على هذه الأرض التي هي محطة مؤقتة للاختبار، وليست دار المكوث الأبدي، فعيشي النعم ولا تنشغلي بما تفتقدينه، وطّني نفسك على حمد الله والتذكير بأن هذه النعم لربما تفقدينها يومًا ما، سيرحل والداك، زوجك، مالك، عملك، أبناؤك، وكل شيء في هذه الحياة هو فانٍ مهما طال، فمن لزم هذا الفهم هان عليه الأمر ورضي. واجعلي شعارك في الحياة ومعيارك في كل خطوة تخطينها في الحياة هي رضا الله، فحين يرضى عنك سيُرضيك وستندهشين لمعيته التي سترافقك في كل تفاصيل حياتك.

ولأن السير في درب الرضا يحتاج إلى معينات للحصول عليه، فإليك بعض النصائح التي قد تأخذ بيدك حين يجتاحك الشعور بالسخط والتذمر.

| أولًا: تذكري أن هذه دنيا، فلا تبحثي فيها عن الكمال في كل شيء في حياتك، فهذا محال، وينافي وجودنا على هذه الأرض التي هي محطة مؤقتة للاختبار، وليست دار المكوث الأبدي، فعيشي النعم ولا تنشغلي بما تفتقدينه، وطّني نفسك على حمد الله والتذكير بأن هذه النعم لربما تفقدينها يومًا ما، سيرحل والداك، زوجك، مالك، عملك، أبناؤك، وكل شيء في هذه الحياة هو فانٍ مهما طال، فمن لزم هذا الفهم هان عليه الأمر ورضي.

| ثانيًا: اجعلي شعارك في الحياة ومعيارك في كل خطوة تخطينها في الحياة هي رضا الله، فحين يرضى عنك سيُرضيك وستندهشين لمعيته التي سترافقك في كل تفاصيل حياتك. اجعلي الله فوق كل أمر، وتذكري أن كل هذا العالم من حولك لا يملك لك نفعًا أو ضرًا، وكل شيء مسيّر بإرادة الله الذي لا يعجزه أي أمر، وإن أراد أمرًا يقل له كن فيكون، وتذكري أنه الملاذ الأول في هذه الحياة، فتقرّبي إليه، وأحبيه أكثر من شيء.

| ثالثًا: لا تصبّي كل تفكيرك وتركيزك على نعمة واحدة في حياتك، حتى إن حُرمتِ منها شعرت بثقل الحياة في صدرك، فإن حُرمتي من إحداها، تمعني بكثرة النعم التي منحها الله لكِ، واعلمي أنك والله لو جلستِ تعدينها ما أحصيتها، ذكري نفسك بها كل صباح ومساء وعظّميها في عقلك وقلبك، وتذكري كم من محرومين منها.

الرضا 3.jpeg
حين يغلبك شعور عد الرضا انظري لمن هم أقل منك

| رابعًا: عودي نفسك حين يغلبك الشعور بعدم الرضا، انظري لكل من هو أقل منك، اذهبي إلى المستشفى، لغرف الحروق والعناية المركزة، ومراكز الإعاقات، مستشفى أنابيب الأطفال، للبيوت المهترئة التي بالكاد تستر أصحابها، لدار الأيتام والعجزة، حينها ستعلمين أنك في كدرٍ لا يساوي كدر ثانية من حياتهم وأنك غارقة في نعيم الله الذي لا يحصى.

| خامسًا: ابتعدي ولو مؤقتًا عن مواقع التواصل الاجتماعي، فهي أكثر الأسباب التي تبعث في النفس عدم الرضا، لأنها تدخلك في دوامة المقارنة بالآخرين، وتجعلك تلهثين لتحقيق ما حققه غيرك، دون التركيز وعيش النعم التي تملكينها أنتِ.

تذكري يا عزيزتي إن وصلتِ إلى شعور الرضا، ستملكين أقوى سلاح تواجهين بها كل أهوال قد تعصف بك في حياتك، لا شيء سيهزك، لن تلتفتين لحظوظك من الدنيا، تعلمين أن كل آتٍ هو راحل، لأن القلب ثابتٌ ومعلق بما هو أعظم من كل شيء.

| سادسًا: إن كنتِ من الذين يسود على تفكيرهم النظرة السلبية للحياة، حاولي أن تغيري ذلك يومًا بعد الآخر، وأكبر معين لك على الوصول لهذا الأمر هو مصاحبة الناس الإيجابيين، المتفائلين الراضين، قليلي الشكوى والتذمر، الذين يكثرون الحمد في حديثهم، وينظرون لما يملكون ويحمدون الله عليه، ويعلمون أن بشكر الله تزيد النعم.

| سابعًا: أسعدي الناس من حولك حتى وأنت تعيشين أسوأ حالاتك، انفعيهم بما تملكين، أثني على هذا، وقدمي الحب لذاك، فكلما كنتِ أكثر عونًا وعطاءً سيلتف عليك شعور عظيم بالرضا من حيث لا تحتسبين، وستتحسنين كثيرًا.

تذكري يا عزيزتي إن وصلتِ إلى شعور الرضا، ستملكين أقوى سلاح تواجهين به كل أهوال قد تعصف بك في حياتك، لا شيء سيهزك، لن تلتفتين لحظوظك من الدنيا، ستتعلمين أن كل آتٍ هو راحل، لأن القلب ثابتٌ ومعلق بما هو أعظم من كل شيء، ستعيشين في جنة الله على الأرض، التي يُقاتل عليها الملوك، لأنك في أسمى مرتبة عند الله، ومن كمثل الله حين يرضى.