بنفسج

" ممنوع تطلعي من الخليل".. هل تسجننا الكلمات أيضًا؟

الثلاثاء 14 مارس

بعض الكلمات لها وَقْع الرصاص، تنخَر في الروح كسوس في خشب، وتقرع كطبول الحرب، تنذر بالألم. قال لي ذلك الجندي، في يوم اقتحام منزلي، بعد عام من سجن زوجي الذي حُكم بالمؤبد، كلمات وأي كلمات. كلمات كان لها معي قصة وحكاية استمرت سنوات! قال لي ما قال عندما رأى مني استخفافًا به وبجنوده الخمسة عشر، أولئك الذين اقتحموا منزلي ولقّموا أسلحتهم في وجهي فور فتحي الباب، كان يخبرني أن زوجي مجرم، وأنني على درب إجرامه أسير. رددت عليه، بأن كل ما أحاول أن أقوم به بعد سجن زوجي، أن أربيّ أولادي، وأهيئ لهم ظروف معيشة سليمة، وأن أعيش أنا حياتي أيضًا.

قال لي باستخفاف واستهزاء: تعيشين حياتك!! لازم تعرفي إنك انحبستي معه من اللحظة اللي انحبس فيها. قلت: يا سلام، أستطيع أن أسافر، أن أتحرك بحرية ما دخل سجنه؟ قال: أنت من هون، من مدخل الخليل، ممنوع تطلعي! كانت كلماته كما ذكرت في البداية، كلمات لها وقع على قلبي لا يوصف، لا أنكر، صَدَّقته لسنوات، عرفت أن المنع الأمني من السفر ومن الدخول إلى القدس سيلازمني، سيكون مكتوبًا بجانب اسمي في البطاقة، بعد اسم عائلتي مباشرة.

بدأت ببيت لحم بجانب الخليل، فأنا أعرف طريقها جيدًا، لم تكن تجربة مخيفة بالنسبة لي، رغم أنني سأمر بعدة مستوطنات وطريق التفافي يكثر فيه المستوطنين، وجنود كثر على أبراج مراقبة طوال الطريق، تجرأت وبدأت آخد أبنائي في الأعياد، وفي كل مرة ترن كلمة الجندي "أنت الخليل ممنوع تطلعي منها!".

مرت سنوات ولم أتجرأ على المحاولة. ولكنني، على مضض، بدأت بخطوات صغيرة مثقلة، مثقلة من وقع كلماته، ومن شعوري بأنْ كيف لي أن أسافر من دون زوجي، لم يكن السفر يومًا لأجل السفر بالنسبة لي، بل كان الأهم من كل أمر هو الرفقة، رفقة الروح للروح ومشاركتها التفاصيل كلها، لتبقى الأحداث في ذاكرتينا معًا! بدأت ببيت لحم بجانب الخليل، فأنا أعرف طريقها جيدًا، لم تكن تجربة مخيفة بالنسبة لي، رغم أنني سأمر بعدة مستوطنات وطريق التفافي يكثر فيه المستوطنين، وجنود كثر على أبراج مراقبة طوال الطريق، تجرأت وبدأت آخد أبنائي في الأعياد، وفي كل مرة ترن كلمة الجندي "أنت الخليل ممنوع تطلعي منها!".

ذهبت إلى أريحا في مناسبة بعدها مع العائلة وتذكرت الجملة ذاتها... كنت أشعر بابتسامة نصر خفية ترسم على شفتي، وعزة وفخر يملآن صدري، ولكنني كنت أشعر أنها خطوات خجولة ليست تحديًا حقيقيًا أبدًا. ذهبت إلى رام الله مرات عديدة، ثم بدأت أذهب مع أبنائي وحدي، أجوب شوارعها وأذهب للأماكن التي كنت أزورها مع زوجي. أستذكره وأخبر الأولاد عنها، وكذلك صنعت في بيت لحم التي كان يعمل فيها أصلًا.

inbound1578128586559619407.jpg
رحلة بهية النتشة في تركيا

ثم تجرأت وزرت القدس، عندما سمحوا بالزيارة للنساء دون شروط في ليلة القدر عندما قالوا للتي أمامي ممنوع، تذكرت كلمات الجندي، أنا أيضا حتمًا سأكون من فئات الشعب التي تشكل خطرًا وسأعود، وبمعجزة من الله أشارت بيدها لي للدخول. دخلت الأقصى بعد سنوات طوال، بكيت في كل أزقته، كنت أحوال ملأ عيني منه في كل ثانية، رميت هناك كلمات الجندي نوعًا ما، رميتها فوق لمعة الشمس على القبة الذهبية!

قررت زيادة جرعة التحدي، حان وقت "السفر". جددت جوازي وذهبت إلى عمّان، احتجزوني نصف ساعة على الجسر الخاص بهم، ولكنهم لم يمنعوني، لم أزر عمّان في الحقيقة، في الواقع خرجت من الجسر الذي يسيطر عليه الاحتلال إلى الجسر الأردني، مشيت مجددًا في الشارع الذي يعيدني إلى باصات فلسطين وعدت، كانت هذه خطوة ضرورية حتى أتأكد أن بهية زوجة الأسير -التي هي أنا- التي قيدها الجندي بكلامه، يُسمح لها بالسفر، وأن ذلك الجندي كذّاب أشر!

تخيلوا كم عاشت معي جملته سنوات طوال، ظلمت نفسي والله، ولكن هذا حال ضعف البشر. بعدها بأشهر، بهية  قررت السفر إلى تركيا، خطوة جريئة مؤجلة منذ سنوات، شددت الرحال، وكالعادة أوقفوني على الجسر وصادروا جوازي هذه المرة لساعتين ونصف حتى كادت الطائرة أن تفوتني، تلك الطائرة التي في الجانب الأردني الذي لازال يبعد عني كثيرًا، نادوا اسمي وأخذوني جانبًا للتحقيق، سألوني كثيرًا، أسئلة منطقية وغير منطقية، أجبت ببرود أو ثقة  أو لا مبالاة، لم أتمكن من تشخيص مشاعري وقتها، فأمثالنا في مرحلة ما يصلون إلى مرحلة عدم الاكتراث من القادم، فقد رأينا كثيرًا، وخاصة من هذا المحتل، ولم يعد الخوف يطرق بابنا لأننا لا نملك ما نخسره، بعد سجن الحبيب وهدم البيت وكل العقوبات التي أنزلوها علينا.


اقرأ أيضًا: أبناء الأسرى: ما بين الانكسار والأمل


ولكنني كما ذكرت سابقًا بشر، ويحكمنا ضعف البشر، مهما بلغنا من القوة، وظننا أننا لا نكترث، نجد أنفسنا نعود للاكتراث، وهذا ما حصل. سمحوا لي بالمغادرة، ما إن صعدت بالباص الأردني، حتى كدت أن أنزل منه وأعود إلى بيتي، ذلك الجندي محق، أنا سجنت مع زوجي، إذا كان هذا فعلهم بي قبل أن أسافر، فماذا سيصنعون بي وبحقائبي عند عودتي، ترددت. بدأت أشد أزر نفسي، ووكلت أمري لربي ومضيت. كنت أتسائل كيف سأستطيع الفرح في تركيا، وأنا ينتظرني تحقيق عند العودة، وربما تفتيش مشدد وعبث بالحقائب، أو سجن حتى لمجرد الشك، فهذا ديدنهم لا نتوقع منهم إلى الأسوء.

في اليوم الأول من وصولي تركيا رأيت الأجانب الذين يجدون في السفر خروجًا عن الروتين، وأنه لهم متعة كاملة مطلقة، وكيف هو للفلسطيني، وخاصة من هم مثلي، مصحوبًا بتعب وتفتيش يزيد عن تفتيش أي مواطن من دول أخرى الضعف، فلا يوجد للفلسطيني مطار يغادر منه إلى منزله مباشرة، نحن نعود للأردن ومنها ننطلق لتفتيش في عدة محطات وطوابير مرهقة!

كيف فرحت في تركيا إذن؟ كان ذلك بأن ذكَّرت نفسي بأن أمثالنا لهم أجر الرباط، وها نحن نعيش من الدنيا مثل أي أحد وإن كان منقوصًا قليلًا، وأننا لسنا أهل دنيا في النهاية، لنقارن بيننا وبين أي مواطن أجنبي يتمتع بالرفاهية المطلقة، أما أمر التفتيش والحجز وغيره، فمنعت عقلي أن يفكر فيهم، يكفيني أني انتصرت على كلمات الجندي ذاك ولو جزئيًا، وها أنا أخرج خارج الخليل بكثير. استمتعت في تركيا حقًا...حقًا!

في اليوم الذي سبق العودة، أخبرت رفيقتي أنها إذا شعرت أنني هائمة مع نفسي، أن لا تتعجب، فإنني حتمًا سأبدأ بالقلق من العودة، وأنا من أولئك الأشخاص مفرطي التفكير وبشدة! ولكنني تفاجئت من نفسي أنني يومها لم أكن أبالي، مع أنني كنت في الأيام السابقة، كلما اشتريت هدية، إذا ما جئت لأضعها في حقيبتي أخاطبها فأقول: لا أدري ماذا يصنع بك الجنود يا مسكينة؟! صدقًا في ذلك اليوم لم أكترث، وعلى عكس المتوقع، كان التعطيل في المطار والجسر، لإجراءات تتعلق برفيقتي التي كانت نفسها تخشى أن تتعطل بسببي.

الله أكبر، نعم هو أكبر، أكبر من كل قوانين الكون، وأكبر من كلمات ذلك الجندي التافه الذي أراد زعزعتي منذ سنوات، وأكبر من المحققين المتلاعبين بنفسيتي يوم سفري، أتعلمون أنه لم يوقفني أحد في عودتي، ولم تفتش حقيبتي فوق الطبيعي، وأنني بقيت لأيام بحالة عجب، كيف عدت لبيتي هكذا من دون أن يكلمني أحد؟ ولا يحجزني، أو يفتشني، وبت أقول لكل من سألني عن عودتي، كأن يد الله حملتني ووضعتني في الخليل، لأ أعرف كيف حصل ذلك، وكأن مرحلة عودتي للخليل كانت سحرًا، أو كرامة كلمح بصر!

اليوم أتحدث مع نفسي مخاطبة ذلك الجندي: "ما رأيك أن أذهب لدبي في الشتاء، فجوها لطيف وأولادي سيحبون أن يخرجوا من الخليل أيضًا ويزورون أعمامهم هناك، لأن السجن لم يغلق على زوجي أصلًا حتى يغلق علينا، وهو الذي أكمل الماجستير في سجنه، وهو الذي يسافر كل يوم عند السحر خارج سجنه بدعواته التي يطلقها للسماء! أما أنت يا من ترى فلسطين كسجن كبير، يُحبس فيه شعبها، فإن الله بيده مفاتيح الحواجز والتفتيش وهو أكبر منها!   فأعدل عن فكرك هذا واستيقظ!