بنفسج

نساء من الأندلس: إسلام وحضارة تحتضن المرأة

الخميس 22 سبتمبر

حازت المرأة في المجتمع الأندلسيّ على وزن بارز، وحضور متفرّد غير مألوف في غيره من المجتمعات. وكانت تتمتع بهامش من حرية فردية واجتماعية حازت بفضلها على شخصية مستقلة، وصورة مميّزة أضفت إلى صورة الأندلس العامة بكلّ ما تحمله من ألق وإبداع وحضارة، عمودًا مهمّا يستحقّ الذكر والدراسة ضمن حالة وجدانية مترسخة في ذهن المحبّ لشمسِ الأندلس، تحترق بهدوء في القلب لتنير دهاليز عشقه، ويحترق معها كلّ عنصر وجوديّ يدين لها بالفضل. 

والحديثُ هنا يخصّ أحوال هذه المرأة، ومواطن تميّزها، وعوامل هذا البروز، ويُؤصّل لذلك من خلال نماذج نسائية راسخة كانت مرآةً للحضارة الأندلسية وانعكاسًا لها، ومثّلت كيانًا فريدًا لم يكن له وجودٌ في المجتمعات الشرقية التي ظلّت فيها المرأة -على الرغم من الرقي والتطور الذي حظيت به هذه المجتمعات- رهينةً لعادات القبيلة وتقاليدها، خاضعةً لأعراف البادية ومبادئها. 

ولعلّ أهمّ عامل من عوامل هذه الهوة بين المرأة الأندلسية والمشرقية يعود إلى التعليم، الذي كان منتشرًا بين الأندلسيات، شائعًا في أوساطهنّ على اختلاف الخلفيات والطبقات الاجتماعية، ولم يكن محصورًا على فئة الصبيان. فكانت المرأة مثل الرجل تمامًا تتلقّى منذ صغرها علوم القرآن، واللغة، والحساب، والخطّ وغيرها. وكان الطبيب الجراح الزهراويّ يعلم النساء مبادئ الخياطة والجراحة، ويعينهنّ مساعداتٍ له، وهو القائل: "العلمُ مشاعٌ وحقٌّ لكلّ إنسان، ولكلّ الأجناس وفي كل الأزمان، ومن حجب علمًا فهو في النار". 

| قناديل النور عند المرأة الأندلسية 

تقول الدكتورة دلال عباس في كتابها: المرأة الأندلسية مرآة حضارة شعّت لحظة وتشظت[1]: "الأندلسيُّ والأندلسية نتاج أعراق متباعدة؛ فرجال الجيل الأول من العرب الفاتحين تسرّوا أو تزوّجوا إسبانياتٍ أو بربريات، فوُلد جيلٌ ليس عربيًّا محضًا، ولا بربريًّا ولا إسبانيًّا، فضلًا عن أهل البلاد الذين أسلموا وانخرطوا في المجتمع الجديد، وتوالت الأجيال المختلطة الأعراق، تعيش في مجتمع لا تعشّشُ فيه أعراف البداوة وتقاليدها، التي حجبت وجه الإسلام الحضاريّ."
فتهيئة المرأة الأندلسية ونشأتها كانت إذن ضمن رقعة تشكّل ملتقى الشرق والغرب، والديانات السماوية الثلاث، ورفقاء طارق بن زياد البربر ورفقاء موسى بن نصير العرب، وسكّان البلد الأصليين، وما نتج عن تزاوج بين كلّ هؤلاء. 

لم يكن المجتمع الأندلسيّ أحادي البعد والهوية مثل المجتمع في المشرق العربيّ، بل كان على العكس من ذلك بوتقةً تنصهر فيها هوياتٌ متباعدة وأعراق مختلفة أنتجت فسيفساء ذات قطع متناثرة من هنا وهناك من العرب والإسبان، والبربر، وشكّلت بمجموعها مجتمعًا جديدًا هجينًا لم يكن لأعراف البداوة الخشنة مكانٌ فيه، وهذا هو القنديلُ الأول من قناديل النور التي ميّزت المرأة الأندلسية. 

تقول الدكتورة دلال عباس في كتابها: المرأة الأندلسية مرآة حضارة شعّت لحظة وتشظت[1]: "الأندلسيُّ والأندلسية نتاج أعراق متباعدة؛ فرجال الجيل الأول من العرب الفاتحين تسرّوا أو تزوّجوا إسبانياتٍ أو بربريات، فوُلد جيلٌ ليس عربيًّا محضًا، ولا بربريًّا ولا إسبانيًّا، فضلًا عن أهل البلاد الذين أسلموا وانخرطوا في المجتمع الجديد، وتوالت الأجيال المختلطة الأعراق، تعيش في مجتمع لا تعشّشُ فيه أعراف البداوة وتقاليدها، التي حجبت وجه الإسلام الحضاريّ." فتهيئة المرأة الأندلسية ونشأتها كانت إذن ضمن رقعة تشكّل ملتقى الشرق والغرب، والديانات السماوية الثلاث، ورفقاء طارق بن زياد البربر ورفقاء موسى بن نصير العرب، وسكّان البلد الأصليين، وما نتج عن تزاوج بين كلّ هؤلاء. 


اقرأ أيضًا: في سير وتراجم النساء: بعض ما أوردته حضارتنا "1"


وكان التعليم قنديلًا آخر من قناديل النور، ارتقى بالمرأة الأندلسية إلى مصافّ الفقه والطبّ، والحكم وأنتج حافظاتٍ لكتاب الله، ومعلماتٍ للقراءة والكتابة، وممرّضاتٍ يداوين أمراض المسلمين، ونساء يتنافسن على اقتناء المكتبات ونفع طلاب العلم بها، وأخريات يؤسّسن مدارس خاصة بهنّ، وفي قرطبة وحدها، كانت هناك أكثر من ستين ألف حافظة، تعلّق كل واحدة منهنّ قنديلًا فوق باب بيتها ليدلّ عليها، ويكسب شرفًا لأهلها.  وبلغ من تقدير المرأة في الأندلس أنّ الرجال كانوا أحيانًا يكنّون بأمهاتهم، وهو ما لم يكن معروفًا في المجتمع الشرقيّ، ونجد من أمثلة ذلك عبد الله بن عائشة، وعبد الله بن صارة وابن القرشية، والمرابط محمد بن عائشة[2]. 

ولعلّ مرد هذه الظاهرة يعود إلى تعايش الطبقات الأندلسية مع الأمازيغ الذين كانوا - ولايزالون- يقدّرون المرأة بشكل مهيب وينسجون حولها الأساطير والقصص قبل مقدم الإسلام؛ فكان مجتمعهم قائمًا على نظام أسريّ أموميّ، ممّا يقودنا إلى ملاحظة مهمّة ذكرها المؤرخون عن سكان المغرب العربيّ الذين كانت نساؤهم تشاركن في المناقشات الأسرية، ونقلوا هذه العادة إلى بيوتهم في الأندلس. ولولا أنّ مشاركة النساء في نقاشات العائلة أمر غير طبيعيّ وغير مألوف لما ذكر على وجه الخصوص والتحديد من قبل المؤرخين؛ فذلك دليلٌ آخر على حضور المرأة في الأندلس وفرضها لشخصيتها بشكلٍ غير متعارف عليه. 

| نماذج نسائية أندلسية

وها هو ابن حزمٍ الأندلسيّ يعترف بفضل النساء على تربيته وتعليمه في إحدى رسائله فيقول: "ولقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهنّ ما لا يكاد يعلمه غيري، لأنّي ربيت في جحورهنّ ونشأت في أيديهنّ… وهنّ علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الأشعار ودرّبنني في الخط". ولم يقتصر دورها على المستوى الأندلسيّ المحليّ، بل تجاوزه إلى بلدان أوروبا، نحو جنوب فرنسا، وإيطاليا والنمسا، حتى أصبح الرجالُ، بعد تاريخ طويل من اعتبار المرأة كائنًا هامشيًّا لا حق له في اتخاذ القرار أو قراءة الإنجيل كما حثت تعاليم الكنيسة، يقدّسون المرأة ويتوسلون إليها. 
 
تأثّرًا بعادات الأندلس والعائلات المغاربية، كما ترى زيغيرد هونكة في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: "وقد غزا ذلك الأسلوب الغزليّ كلّ فرنسا وإيطاليا وصقلية والنمسا. 

والأندلس لم تخل من نماذج نسائية اكتسبت مكانة رفيعة في المجتمع، وكانت منارةً في مجالاتٍ متنوعة، تخرّج على أيديها علماء وأمراء وشعراء وقضاة. وها هو ابن حزمٍ الأندلسيّ يعترف بفضل النساء على تربيته وتعليمه في إحدى رسائله فيقول: "ولقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهنّ ما لا يكاد يعلمه غيري، لأنّي ربيت في جحورهنّ ونشأت في أيديهنّ… وهنّ علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الأشعار ودرّبنني في الخط".

ولم يقتصر دورها على المستوى الأندلسيّ المحليّ، بل تجاوزه إلى بلدان أوروبا، نحو جنوب فرنسا، وإيطاليا والنمسا، حتى أصبح الرجالُ، بعد تاريخ طويل من اعتبار المرأة كائنًا هامشيًّا لا حق له في اتخاذ القرار أو قراءة الإنجيل كما حثت تعاليم الكنيسة، يقدّسون المرأة ويتوسلون إليها، تأثّرًا بعادات الأندلس والعائلات المغاربية، كما ترى زيغيرد هونكة في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: "وقد غزا ذلك الأسلوب الغزليّ كلّ فرنسا وإيطالية وصقلية والنمسا. وقد تعرَّف بورداخ مصدر شعر الغزل الأوروبي الذي يحاول الكثيرون جاهدين إرجاعه لغير العرب على الرغم من أن كل الدلائل تشير بوضوح إلى قدومه من الأندلس". ومن الأسماء الأندلسية النسائية التي برزت وحجزت مكانًا لها في صفحات التاريخ: 

| الولادة بنت المستكفي:

received_1247786212709655.webp
الولادة بنت المستكفي كانت تفتح قصرها كصالون أدبي وكملتقى لشعراء الأندلس "صورة تعبيرية"

لا تعرّف الولادةُ إلّا بكلماتها وشعرها، وهذا في حدّ ذاته انتصار للمرأة وشرفٌ لها أن تقرن بموهبتها دون تعقيداتٍ سخيفة أو أحكام جفّة. لقّبت بشاعرة قرطبة والأندلس، وبعلية المغرب، نسبةً إلى علية أخت هارون الرشيد التي برزت في المشرق. وكانت الولادة ابنة الخليفة محمد بن عبد الرحمن الظاهريّ المعروف بالمستكفي، تقول شعرًا عذبًا، جزلًا، رقيقًا:  يا أخا البدر سناء وسنى    حفظ الله زمانًا أطلعك.. إن يطل بعدك ليلي فلكم بتّ أشكو قصر الليل معك 

وعرفت بأنها امرأة تفتح قصرها -بعد وفاة والدها- كصالون أدبيّ بتعبيرنا المعاصر، وتكرّسه للسجالات الشعرية والنقاشات الأدبية، والقصص والطرائف وأحداث التاريخ، ليصبح ملتقى شعراء الأندلس وكتّابها من كل مكان، من الرجال والنساء، فسبقت بصنيعها هذا وفتحها للمجلس الأدبيّ نبيلات فرنسا بقرون. يصفها ابن بشكوال فيقول: "أديبةٌ، شاعرةٌ، جزلة القول، مطبوعة الشعر، تخالط الشعراء وتجالس الأدباء، وتفوق البرعاء". 

ترى الدكتورة دلال عباس بأنّ هجاء ابن زيدون لامرأة نابغة كولادة لا ينمّ إلا عن ضحية لثقافة التسرّي بالجواري، مهما كان شأنهنّ ومهما كانت مكانتهنّ، إن كنّ عالمات أو طبيبات أو فقيهات. "فهل يبقي كلّ ذلك مكانا لحبّ امرأة كولّادة"، تقول الدكتورة دلال. اتهمت ولّادة في شرفها، وحيكت عنها أقاويل كثيرة، لكنّ الضبي وابن بشكوال وابن بسّام أنصفوها بما علموا عنها.

وقد عرفت عنها ثقافتها وشخصيتها القوية المستقلة، وعدم خضوعها لأعراف المجتمع، ورفضها لارتداء نقاب الوجه كبقية نساء الأندلس. واشتهرت بقصتها مع الشاعر ابن زيدون الذي كان يحبها، ويكتب فيها شعرًا غزليًّا وكانت هي تبادله ذلك. لكنّ مكائد الوشاة عصفت بقصتهما؛ فهجاها ابن زيدون وعرّض بها في قصائده، ممّا تسبّب في كرهها له وسخطها عليه، لكنّه ما لبث أن ندم وحنّ إلى أيامهما معًا، وأبدع في وصف لوعته نحوها فكتب إليها النونية. 

ترى الدكتورة دلال عباس بأنّ هجاء ابن زيدون لامرأة نابغة كولادة لا ينمّ إلا عن ضحية لثقافة التسرّي بالجواري، مهما كان شأنهنّ ومهما كانت مكانتهنّ، إن كنّ عالمات أو طبيبات أو فقيهات. "فهل يبقي كلّ ذلك مكانا لحبّ امرأة كولّادة"، تقول الدكتورة دلال. اتهمت ولّادة في شرفها، وحيكت عنها أقاويل كثيرة، لكنّ الضبي وابن بشكوال وابن بسّام أنصفوها بما علموا عنها، ووصفوها بأنها طاهرة الأثواب، وعزّوا سبب الأقاويل إلى قلة مبالاتها وشعرها الماجن في بعض الأحيان، وشخصيتها التي تتّسم بالتحدّي والمواجهة.  

| أم الحسن بنت أبي جعفر الطنجاليّ:

كان تكوين أمّ الحسن العلمي نتاجًا لعائلة عريقة نبغ منها علماء، وحفظت فيها كتبٌ وعقدت من خلالها مجالسُ علمٍ وأدب؛ فوالدها هو القاضي الكبير أبو جعفر الطنجاليّ الذي هاجر من المغرب وتولّى القضاء، وكان الشيخ الأول للسان الدّين بن الخطيب صاحب الإحاطة بأخبار غرناطة. 

كما أنّ الجو المجتمعي العام الذي لم يخلُ من نساء مارسن مهنة الطب، وتدرّبن عند الطبيب الجراح الزهراويّ ساعد في نبوغ أمّ الحسن، وبراعتها.  يصفها لسان الدين بالنبيلة الحسيبة، ويثني على علمها وإجادتها للطبّ والشعر على حدّ سواء. ويقول عنها في الإحاطة: "ثالثة حمدة وولادة وفاضلة الأدب والمجاهدة، ولّدت أبكار الأفكار قبل سنّ الولادة". ومن الأبيات الشعرية في غرض المدح قولها: إن قيل من الناس رب فضيلة      حاز العلا والمجد منه أصيل .. فأقول رضوان وحيد زمانه  ..    إن الزمان بمثله لبخيلُ. 

| صبح البشكنجية: 

كانت صبح البشكنجية نموذجًا للمرأة القائدة التي تشارك في أمور الدولة، وتساهم في تدبير شؤون الخلافة، وتؤدّي دورًا سياسيًّا بارزًا، ممّا لم يكن مألوفًا بين النساء في ذلك العصر وما سبقه من العصور. كانت جارية للخليفة الحكم المستنصر، ثمّ ما لبث أن أعجب بذكائها وفطنتها وجزالة لفظها، فآثرها على غيرها، ورزق منها بولدين هما عبد الرحمن وهشام. 

وقد حازت بالموازاة مع ذلك على دور محوريّ جعل لها كلمة ثقيلة في تعيين الوزراء والقادة، بحكم استماع المستنصر لها وطلبه لرأيها. وكان قد عيّن ابنه هشام وليًّا للعهد وهو لم يتجاوز الحادية عشر، وبعد وفاته، صارت صبح الوصية الفعلية لابنها قبل بلوغه سن الرشد، وكانت بمعية محمد بن أبي عامر المنصور تسيّر أمور البلاد بطريقة مباشرة.

كانت صبح نموذجًا للمرأة القائدة التي تشارك في أمور الدولة، وتساهم في تدبير شؤون الخلافة، وتؤدّي دورًا سياسيًّا بارزًا، ممّا لم يكن مألوفًا بين النساء في ذلك العصر وما سبقه من العصور. كانت جارية للخليفة الحكم المستنصر، ثمّ ما لبث أن أعجب بذكائها وفطنتها وجزالة لفظها، فآثرها على غيرها، ورزق منها بولدين هما عبد الرحمن وهشام. 

وقد حازت بالموازاة مع ذلك على دور محوريّ جعل لها كلمة ثقيلة في تعيين الوزراء والقادة، بحكم استماع المستنصر لها وطلبه لرأيها. وكان قد عيّن ابنه هشام وليًّا للعهد وهو لم يتجاوز الحادية عشر، وبعد وفاته، صارت صبح الوصية الفعلية لابنها قبل بلوغه سن الرشد، وكانت بمعية محمد بن أبي عامر المنصور تسيّر أمور البلاد بطريقة مباشرة، وساعد قربها من الرعية وتخفيضها للضرائب على حبّ الناس لها. 

غير أن حبها لأبي عامر المنصور أعماها عن الكثير من الجوانب المتعلقة بالحكم، واستغلّ هو هذه العاطفة ليدير دفّة الحكم لصالحه، ويستأثر به.  وحينما اكتشفت ما يرمي إليه، نجحت في أن تنقل مبلغًا كبيرًا من المال من القصر، ونقل على ظهور الخدم الصقالبة خارجه، وأخفي تحت علب المربّى حتى لا يفطن له أحد. لكنّها ومع ذلك، لم تنجح في أن تستردّ زمام الحكم لولدها، فآثرت العزلة واختفت عن الأنظار. وقد رثاها الشاعر القسطليّ بعد موتها في قصيدة جميلة وحزينة جاء فيها: أنجمًا هوى في سماء المعالي    لتبكِ عليكِ نجوم السماء.. فيا أسف الملك من ذات عزّ   تعوض منها بعز العزاء. 

| لبنى بنت عبد المولى الأندلسية:

received_394086932891927.webp
صورة للأندلس

تعرف بلبنى القرطبية، وكانت كاتبة الخليفة الحكم الثاني في زمن لم تشتغل النساء فيه ككاتبات، واقتصرت المهنة على الرجال. نسخت لهذا الرجل المثقف الموسوعيّ الكثير من الكتب، وساعد اتصافها بالذكاء والثقافة على عتقها بعد أن كانت أمةً مملوكة؛ فأشرفت على مكتبته التي تضمّ أكثر من أربع مئة ألف مجلد، تنسخها بخطها الرفيع، وتضيف عليها استدراكاتٍ علمية. ثمّ ما لبثت أن استأمنها الخليفة على كتابة الوثائق الإدارية والسياسية التي تهمّ شؤون الدولة، وأسرارها.

وكان لشغف الخليفة بالعلم والعلماء، وتزويده بلاط القصر بالمجلدات وعقده للندوات العلمية دورٌ في تنمية مواهبها واتساع ثقافتها، بحكم أنّها استغلّت كل ما بين يديها من الموارد الثقافية لتبني نفسها. يقول عنها ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس ومحدثيهم: "لبنى كاتبة الخليفة الحكم بن عبد الرحمن، كانت حاذقةً بالكتابة، نحوية، شاعرة، بصيرة بالحساب، وعلمها في الرياضيات واسعٌ وعظيم، مشاركة في العلم، وكانت عروضية رائعة الخط، لم يكن في القصر أنبل منها"4. فكان تعدّد مواهبها وإجادتها للعديد من العلوم هو ما جعلها تفرض نفسها وتصل إلى مقام لم تصله من سبقنها، واستطاعت بذلك أن تخالف قريناتها وتخرج من بوتقة التسرّي، والجواري إلى رحابة العلم والثقافة. 

فاطمة وحبيبة وخديجة: نساءٌ برزن في العلوم الشرعية

received_2831248303837994.webp
شهدت الأندلس حركة في تعليم النساء للعلوم الشرعية "صورة تعبيرية"

شهدت الأندلس حركة واسعةً في تعليم النساء للعلوم الشرعية، وتخصصهنّ في الفقه المالكيّ، والحديث وعلوم القرآن. وعرفت الكثير من الأسماء التي أخذت علمها عن علماء بارزين أمثال ابن عبد البرّ كطوية بنت عبد العزيز التي لقّبت بحبيبة الأندلسية، وعرفت بعلمها ودينها؛ حتى إنها كانت تقرئ زوجها أبا القاسم قراءة شيخها، بالإضافة إلى خديجة بنت أبي محمد الشنتجيالي التي قال عنها ابن بشكوال: "سمعت مع أبيها من الشيخ أبي ذر عبد بن أحمد الهروي صحيح البخاري وغيره، وشاركت لأبيها هنالك في السماع من شيوخه بمكة حرسها الله، ورأيت سماعها في أصول أبيها بخطه، وقدمت معه الأندلس وماتت بها رحمها الله".[5] 

وكانت فاطمة بنت يحيى المغامي من فقيهات الأندلس وعالماتهنّ. أثر عنها ورعها، وحبها للعلم والفقه والأدب، ووصفت بالعالمة والفاضلة والفقيهة. ووصف ابن بشكوال جنازتها قائلًا: "لم يرَ على نعش امرأة قطّ ما رؤي على نعشها". قاصدًا بذلك الجمع الغفير الذي شيّع جنازتها، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على حب الناس لها وتقديرهم لعلمها. 

وكانت ريحانة الأندلسية إحدى أشهر الشيخات القارئات. تعلمت على يد المقرئ عثمان بن سعيد القراءات السبع الشهيرة بمدينة ألمرية، فحصلت على إجازة بسنده، وأصبحت إحدى أهم الشيخات المقرئات في الأندلس. وهذه النماذج النسائية في الأندلس التي لم يذكر إلا النزر القليلُ منها تمثل، بشكلٍ أو بآخر، ثورة المجتمع الأندلسيّ على الحال الضعيفة للنساء، وخروجهنّ من دائرة الحريم وجواري البلاط إلى دائرة العلم والأدب. ورغم ذلك، فإنّ وضع النساء الآن لا يقلّ فداحةً عن وضعهنّ السابق في سجن الحرملك، فلا "يظنّن أحد بأنّ عصر الجواري قد انقضى". 


| مراجع 

[1] المرأة الأندلسية مرآة حضارة شعت لحظة وتشظّت، أ.د دلال عباس، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2019. ص 13

[2] كتاب الحلل السندسية، ج3، شكيب أرسلان، مكتبة الحياة، بيروت، 1965. ص57

[3] شمس العرب تسطع على الغرب، زيغيرد هونكة، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر. ص524

[4] الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، ابن بشكوال. ص693

[5] المصدر نفسه، ص 657