بنفسج

الأسيرة الحائض: تفاصيل تتوراى خلف الحرج [3]

الأربعاء 02 نوفمبر

الأسيرات الفلسطينيات
الأسيرات الفلسطينيات

شعَرَت أن طاقتها تنهار وأنها ستفقد وعيها، فلم تطلب أكثر من فكّ قيْد يديها، هنا رأى المحقق أنه في اللحظة الأنسب ليحصل على ما يريد، سحب كرسيًا وجلس أمامها ليقول بكل هدوء: "الآن اعترفي". وصول الأسيرة لهذه المرحلة نتج عن تراكم الضغوط التي استغل فيها المحققون مرورها بفترة الحيض- الدورة الشهرية- فقبل "اعترفي" كانت قد عانت من نزيفٍ، وأوجاعٍ شديدة، ومنعٍ من دخول دورة المياه، ناهيك عن الحرمان من متطلبات النظافة الشخصية.

تلك واحدة من حكايات الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، التي توضح  معاناتهن خلال الدورة الشهرية في سجون الاحتلال، معاناةٌ فيها الكثير من التفاصيل المؤلمة، بدءًا من استغلال هذه الفترة في الضغط على الأسيرة، وصولًا إلى أمور قد لا تتوقف عندها المرأة خارج السجن لبساطتها، لكنها تمسّ جزءًا من تكوينها الأنثوي. هذه القضية الإنسانية، بكل تفاصيلها الموجعة، قلَّما يُحكى فيها بسبب حواجز الخجل والحرج، حتى أننا في هذا التقرير حجبنا أسماء الأسيرات المحررات اللواتي تحدثن لـ"بنفسج" استجابة لرغبتهن.

|  الأسيرة الحائض: في عيادة السجن

عيادة السجن.png
الأسيرة الحائض في سجون الاحتلال لا تأخذ أي حق إنساني لها ويتم معاملتها في عيادة السجن بأسوأ معاملة 

"هاجس"، "كابوس"، "معاناةٌ فوق معاناة"، "ألمٌ لا يفارق الذكريات". هكذا وصفت بعض الأسيرات التجارب المؤلمة التي عشنها، أو كنّ شاهدات عليها. لنعرف سبب هذه التوصيفات؛ نبدأ من لحظة الاعتقال الأولى، ماذا لو اعتقلت المرأة خلال فترة حيضها؟ الإجابة في قصة أسيرة تم اعتقالها في معبر بيت حانون "إيرز". المجندة تفتّشها بينما الدم يبلّل جسدها والأرض من تحتها، إنه "التفتيش العاري"، بهذه الصدمة بدأت رحلتها مع الأَسر.

كان لهذا الحدث وقعٌ شديد الإيلام على نفسيتها، أقوى حتى من قسوة التحقيق، عندما وصلت الزنزانة، لم تكن قادرة على استيعاب ما مرّت به، تردد في حديثها للأسيرات أنها لن تنسى تلك اللحظات طوال حياتها. بين الاعتقال والزنزانة، مرحلة التحقيق، وفيها تتضاعف معاناة الأسيرة إن تزامنت مع الدورة الشهرية.

_______________________-77.png

إحدى الأسيرات تم اعتقالها من بيتها، أخذت في حقيبتها فوطًا صحية، بناءً على القصص المؤلمة التي سمعتها في هذا السياق، لكن عندما احتاجتها خلال التحقيق، أعطاها المحققون نوعا رديئًا جدًا. التحقيق معها كان يستمر لعشرين ساعة يوميًا، كانت تقضيها على كرسي ويديها مكبلتين خلف ظهرها، نتج عن ذلك نزيفٌ حاد، فعادت لتطلب النوع الذي أحضرته من بيتها، ولما أعطاها السجّان إياه شعرت أنها حصلت على "كنز".

اشتد نزفها، ولم تعد قادرة على تحمل الألم، فطلبت التوجه لعيادة السجن، والأمل يراودها بأن يوصي الطبيب بتعليق التحقيق معها. في العيادة، تُخبر المترجم بمشكلتها، وهو بدوره ينقل شكواها للطبيب، وكلاهما يستهزآن بها، ويجعلان من الحيض "نكتة" يلعبا بها على وتر الإحراج. كانت مضطرّة للتحمل في سبيل أمنيتها بأن يوصي الطبيب بتعليق التحقيق معها، لكنها لم تحصل إلا على حبة دواء مسّكن للآلام، وعادت للتحقيق فورًا، حينها ندمت على طلب عرضها على الطبيب.

| الأسيرة الحائض: في التحقيق والبوسطة

غرفة تحقيق.png
يستغل المحققون فترات الضعف الجسدي التي تمر بها الأسيرة الحائض في سجون الاحتلال للضغط عليها 

من الطبيعي أن تهتم المرأة بالنظافة وتحتاج لمستلزماتها أثناء الدورة الشهرية أكثر من أي وقت آخر، لكن كم هذا صعب في فترة التحقيق. طوال فترة التحقيق، يقبع الأسرى الفلسطينيون في زنازين مصممة بطريقة تساهم في الضغط عليهم، ومن ذلك أن الصنبور فيها يعمل لخمس ثوانٍ فقط ثم يجب إعادة تشغيله، صنبور كهذا كيف يمكن أن تستخدمه حائضٌ في الحفاظ على نظافتها؟

أسيرةٌ زادت مدة التحقيق معها عن شهر، وعانت كثيرًا من الحيض في تلك الأيام، وجدت في زنزانتها دلوًا يُستخدم في التنظيف، فملأته بالمياه لتتمكن من غسل ملابسها، تعبئة الدلو لمرةٍ استغرقت نحو ساعة كاملة. ولأنها لم تجد مكانًا مخصصًا للقمامة، اضطرت لتفريغ ملابسها على فراشها، لاستخدام كيس الملابس في جمع مخلفات الفوط الصحية.

مجرد دخول دورة المياه عملية معقدة، فثمة مجندة ترافق الأسيرة في ذهابها وعودتها، وتقف عند الباب مهددةً إياها بأنها إن لم تخرج خلال خمس دقائق فستفتح الباب، وأحيانًا يستخدم المحقق حاجة الأسيرة الفلسطينية للذهاب لدورة المياه في الضغط عليها، ويهددها بمنعها إن لم تعترف بما يسأل عنه.


اقرأ أيضًا: عن حرب الاستنزاف...شهادات حيّة


إحدى الأسيرات طلبت من المحقق "فوطًا صحية"، فرفض، أخذت تلح عليه حتى استفزته، خرج من الغرفة لوقتٍ يسير، وسرعان ما عاد ليخبرها أنه لم يجد طلبها، واستمر التحقيق بهذا الشكل، حتى حان موعد محاكمتها، فكررت الطلب. أحضرت لها مجنّدة النوع منخفض الجودة المتوفر في السجن، أرادت أن تأخذ معها عدة قطع، لكن هذا ممنوع، فاضطرت لاستخدام العبوة كاملة لتوفر لنفسها أطول حماية ممكنة.

_______________________-76.png

فعلت ذلك لمعرفتها بما ستواجهه في "البوسطة"، فالذهاب للمحكمة والعودة منها لمركز التحقيق رحلةٌ شديدة الصعوبة، و"البوسطة" هي سيارات نقل الأسرى من مكان لآخر، وتُوصف عادة بأنها "قبور متحركة"، لا يدخلها الهواء إلا من فتحات صغيرة جدًا، أما ضوء الشمس فيكاد لا يجد طريقًا للداخل، المقاعد فيها حديدية ومرهقة، "نارٌ" في الصيف، و"ثلجٌ" في الشتاء.

في الطريق للمحكمة، تفتيشٌ عارٍ لمرة واحدة على الأقل، ولا دورات مياه، ومدة الرحلة تبدأ من عدّة ساعات، وقد تصل لأكثر من يوم، فيبيت الأسرى ليلةً بظروف صعبة جدًا في مكان مخصص لذلك. المرأة التي تتأذى خلال فترة حيضها ولو كانت في أفضل الظروف، تُراها كيف تعيش معاناة "البوسطة"؟ وماذا تفعل بها تنقلات المحاكم هذه؟

_______________________-78.png

فوق كل معاناة هذه الرحلة، يسيطر القلق على الأسيرة الحائض، فلا حلول بيديها، وقد تصل قاعة المحكمة بملابس ملطخة ببقع الدم، وأكثر من يعانين من ذلك الأسيرات القاصرات اللواتي لا تسعفهن سنوات أعمارهن القليلة بالتفكير في طرق تحميهن، كاستخدام عدةّ فوط دفعة واحدة، ولأنهن يخجلن أحيانًا من طلب الفوط الصحية من السجانين.

ومن الجدير بالذكر، أن كل ما عاشته الأسيرة الفلسطينية في الطريق للمحكمة، تمرّ به في طريق العودة لمركز التحقيق. بعض الأسيرات اللواتي يتألمن كثيرًا خلال دورتهن، يطلبن عدم حضور جلسات المحكمة، لكن إدارة السجن ترفض الطلب، في هذه الحالة تشتد أوجاع الأسيرة، والأصعب أنها تتحامل على نفسها لتبدو قوية وبصحة جيدة في قاعة المحكمة كي لا يراها أهلها بحالٍ سيئة، حرصا منها على معنوياتهم.

| الأسيرة الحائض: في غرف السجن وأقسامه

حمام الاسيرة.png
تغيب الخصوصية في حمام السجن والظروف للأسيرة الحائض في سجون الاحتلال أليمة خلال فترة الدورة الشهرية بالتحديد

بعد انتهاء التحقيق ونقل الأسيرة الفلسطينية للسجن، تتغير أوجه معاناتها في أيام الدورة الشهرية. أول ما تواجهه الأسيرة هو غياب الخصوصية، وهذا أمرٌ يتفاوت تأثر الأسيرات به حسب شخصياتهن وآلامهن، فمنهن من لا تحب أن يعرف أحد بمرورها بفترة الدورة، لكن هذا مستحيل في السجن. وكذلك يصيب الحرج الأسيرات اللواتي يتعبن كثيرًا في تلك الأيام، فظروف السجن تزيد آلام الدورة، والمسكنات ليست متوفرة دائمًا، تجد أن بعضهن تلازمن الفراش عدّة أيام، فلا تتمكنّ من المشاركة في تدبير أمور الزنزانة كالطهي والتنظيف، وتتفهم باقي الأسيرات ذلك ولا يطالبنهن بفعل شيء، ومع ذلك يشعرن بالحرج الشديد.


اقرأ أيضًا: عندك سفرية: رحلة الأسيرة على جمر البوسطة


التفهّم ليس موجودًا في قاموس السجّان، فمهما اشتدت آلام الأسيرة، عليها أن تخرج من الزنزانة في التفتيش الذي يتكرر ثلاث مراتٍ في اليوم. من المعلوم أن الحالة المزاجية للمرأة تتغير في هذه الفترة، فكيف لو كانت في ظروف ترهق النفسية أصلًا؟ تشتد حدة المشكلة حسب شخصية الأسيرة وصفاتها، لكن الثابت أن الأسيرات يحتوين بعضهن البعض في هذه المواقف، وخاصة الأكبر سنًا من بينهن واللواتي قضين فترة أطول في السجن، هؤلاء قدرتهن على احتواء الأخريات كبيرة. كذلك تزيد الدورة من شهية المرأة غالبًا، وتشتهي أنواعًا معينة من الطعام، كالسكريات مثًلا، لكن في السجن لا يتوفر ما تطلبه، وأحيانًا يكون الموجود في الكنتينة غاليًا بالنسبة لها.

_______________________-75.png

وكما أن الاهتمام بالنظافة صعب في التحقيق، فهو كذلك في الزنزانة، الفوط الصحية المجانية رديئة، والتي تُباع في "الكنتينة" غالية الثمن، لذا لا تتمكن من شرائها الأسيرة التي لا تصلها أموال من أسرتها، فتأخذ من "الرف العام". توفر قيمتها لا يعني انتهاء المشكلة، فشراؤها يكون مرة كل أسبوعين فقط من خلال مسؤولة القسم، وأحيانا تنقطع، وقد يتزامن ذلك مع قطع المجاني الرديء منها أيضًا.

ذات مرّة، صارت الأسيرات يتجولن بين الزنازين بحثًا عن الفوط، من كنّ خبأن شيئًا منها أعطينه لمن يحتجن، حتى انتهت واضطرت بعضهن لاستخدام قطع من ملابسهن. الاستحمام مشكلة متعددة الزوايا بالنسبة للأسيرة الحائض، أماكن الاستحمام منفصلة عن الزنازين، تُغطى بالستائر لا بالأبواب، وتخرج المياه منها في مصارف مكشوفة، ولا يمكن دخولها إلا في أوقات "الفورة"، والتي يبلغ مجموع فتراتها الثلاث خمس ساعات في اليوم.

_______________________-74.png

مياهٌ ملونةٌ بلون الدم تنساب من تحت الستارة وتجري في مصارف المياه المكشوفة، الأسيرة الحائض مضطرةٌ لعيش هذا الحرج كل يوم، خاصة في أيام الصيف التي لا يسمح الحرّ فيها بالاستغناء عن الاستحمام. أما استحمام الطهارة في نهاية الدورة الشهرية، تقف أمامه مشكلة الوقت، فالأسيرة التي ينتهي حيضها بعد انتهاء فترات الفورة، مجبرة على تأجيل العملية لصباح اليوم التالي، ومن ثمّ قضاء الصلوات التي فاتتها، لذا طلبت بعض الأسيرات الفتوى من خارج السجن، فكان مفادها أن عليهن التيمم للصلاة، إلى أن تتمكنّ من الاستحمام.


اقرأ أيضًا: "روح الأنثى"... "طبطةٌ" على النفْس في السجن [1]


الحصول على هذه الفتوى احتاج للتواصل مع الرجال، ما كان محرجا لمن سألن، والإحراج موجود في كثير من المواقف الأخرى، وكان من أبرز ما أجمعت على صعوبته الأسيرات اللواتي تحدثن في هذا التقرير، خاصة أنه يتكرر في عدة مواضع، منها إخبار المحقق بالأمر، وطلب مستلزمات النظافة الشخصية، وبقع الدم التي قد تظهر على الملابس.

بسبب ضغوطات السجن وظروفه غير الصحية، تضطرب الدورة الشهرية للأسيرة، ومنهن من انقطعت عنها لمدة تجاوزت السنة، لكن هذا التأخر على خطورته، تنظر له بعض الأسيرات بعين الرضا، ظنًّا منهن أنه سيكون سببًا في زيادة فرص الإنجاب بعد الحرية. ما سبق، ليس إلا شيئًا يسيرًا من ذكريات بعض الأسيرات المحررات، الأمر مؤذٍ جدًا بالنسبة لهن، حتى في تفاصيله البسيطة، لدرجة أن أغلبهن ما يزلن تتألمن عند الحديث عن الموضوع، ومنهن من تُبكيها تلك الذكريات.