بنفسج

"روح الأنثى"... "طبطةٌ" على النفْس في السجن [1]

الأربعاء 02 نوفمبر

الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي
الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي

كفراشةٍ تحطُّ بخفّة، تنثر الجمال، وتحيي البهجة، وتنعش الروح التي أرهقتها الظروف، هكذا هي الأنثى أينما حلّت، حتى في السجن لا يغيب نفَسُها اللطيف، تصنع لنفسها أيامًا حلوة من مرار الحياة المفروضة عليها؛ "روح الأنثى" تظهر في المكان والعلاقات والتفاصيل الصغيرة، إنها لمساتٌ بسيطة فيها "طبطبةٌ" قوية الأثر. هذه الروح، يمكن أن تستشعرها في حديث الأسيرات المحررات، تراها في لمعة عيونهن، وتسمعها في نبرة أصواتهن عندما يروين ذكرياتهن الجميلة مع صاحبات السجن، فتدرك أهميتها، وتفهم عِظَم تأثيرها عليهن؛ لذا خصصت "بنفسج" هذا التقرير للحديث عنها.

في السطور التالية نسرد لكم خلاصة حوارات أجريناها مع الأسيرات المحررات لينا الجربوني، ولمى خاطر، وعطايا أبو عيشة، وناريمان التميمي، وإسراء لافي؛ سألناهن عن أهمية "روح الأنثى"، وكيف تستحثها الأسيرات ليخرجنها من تحت تلال المعاناة؟ وكيف يسخّرنها؟ وعن تفاصيل أخرى عديدة.

| لماذا تحتاج الأسيرة "روحها الأنثوية" في سجون الاحتلال؟ 

memories-4.png
يحاولن الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال بث العزيمة في نفوسهن وتطوير أنفسهن

أيامٌ تتكرر بنفس التفاصيل، في نفس المكان القاتم، هنا سجّانٌ لا يرحم، ولا وسيلة للتواصل مع الخارج سوى زيارات الأهل المتباعدة. أليس هذا النمط من الحياة سببًا للدخول في اكتئاب؟ السؤال الأخير هو جواب السؤال البديهي: "لماذا تحتاج الأسيرة روحها الأنثوية؟". يمكن القول إن الأسيرة تحتاج "طبطبةً" تخفف الوجع، ولتلك الروح مفعول قوي في هذا الصدد، خاصة أنها تأتي من جلّ الأسيرات، يحاولن معًا للخروج من أي ضرر نفسي قد يلحقه السجن بهن.

في سجون الاحتلال، لا مفر أمام الأسرى من التحكم في حجم التضرر النفسي والخروج من قوقعته، والدور الأول في توجيه الأسير الجديد لذلك يقع على عاتق الأسرى الأقدم منه لينتشلوه بعدّة طرق من صدمة الاعتقال وما سبقه من قسوة التحقيق، ومع الوقت يدرك أهمية الحالة النفسية، ويعرف كيفية الحفاظ على سلامتها. هذا الأمر قاعدةٌ معروفة عند الأسرى والأسيرات على حد سواء، مع بعض الاختلافات، منها ما ينتج عن طبيعة الأسيرة كونها أنثى، لذا قد تجد، عزيزي القارئ، في هذا التقرير، بعض التشابهات فيما نرويه عن حياة الأسيرات مع ما تسمعه عن الأسرى الرجال.


اقرأ أيضًا: تفاصيل خاصة: الأسيرة الحائض في سجون الاحتلال [3]


يبدأ "الخروج، والإخراج، من الاكتئاب" قبل الوقوع فيه أصلًا، عندما تجد الأسيرة الجديدة استقبالًا خاصًا من باقي الأسيرات، بهدف احتوائها، والتخفيف عنها. بعد انتهاء التحقيق، تصل الأسيرة غرفتها في السجن وهي "تحدّث نفسها" بشأن الملابس، خاصة إن كانت اعتُقلت من خارج بيتها وليس معها سوى الملابس التي ترتديها، هناك تجد طلبها بين يديها دون حاجة للسؤال، فالأسيرات الأخريات يكنّ قد جهزن لها حقيبة قبل وصولها.

_______________________________-66.png

في "حقيبة الأسيرة الجديدة" ملابس وأدوات النظافة الشخصية ودفتر وأقلام، يتم تجهيزها من "قسم العام"، وهو مكان تضع فيه الأسيرات أشياء لبعضهن، مثلًا، من تخرج من السجن تترك ملابسها ذات الحالة الجيدة لتستفيد منه رفيقاتها. بعد أن تستحم الأسيرة الجديدة وتبدّل ملابسها، تجد حولها من سبقنها في السجن، يتعرفن عليها، ويواسينها، ويهوّنّ عليها، ويحملنها على كفوف الراحة، حتى تعتاد على أجواء السجن وتبدأ بالانخراط معهن رويدًا رويدًا. هكذا تبدأ العلاقة بين الأسيرات، وتستمر على نفس المنوال، منوالُ الأخوة والاحتواء والمحبة، مع لمسة أنثوية واضحة تظهر في مواضع كثيرة، منها المناسبات، العامة والخاصة.

| الأسيرات الفلسطينيات: أسرة داخل أسوار السجن 

عيد ميلاد أسيرة.png
يعيشن الأسيرات داخل الأسر بجو أسري ويحرصن على الاحتفال في المناسبات بشكل دائم

لا تمرّ مناسبة في السجن دون إحيائها، حتى لو كان ذلك بحفل صغير في نطاق الغرفة الواحدة، فالمهم هو توفير الجو الأسري وعدم الاستسلام لفكرة افتقاد الأهل في المناسبات، إذا كانت المناسبة عامة تتشارك الأسيرات في صنع هذا الجو، وإذا كانت خاصة، يتعاون بعضهن في إعداد مفاجأة لصاحبة المناسبة بطريقة تمنحها شعورًا بأنها بين أهلها.

في ذكرى ميلاد أي أسيرة، تهتم بعض الأسيرات بهذه المناسبة، يصنعن الحلوى أو يشترينها من "الكنتينة" على نفقتهن، ويزيّن المكان، ويتفقن على الأناشيد التي سيرددنها بأصواتهن، وتتولى أخريات مهمة "التكتيم" على التجهيزات، فيشغلن صاحبة عيد الميلاد بأي شيء يصرف انتباهها عن المفاجأة، ويراعين في ذلك رغبات صديقتهن، فمثلًا، إن كانت تحبّ حفلات الميلاد كثيرًا، يكون الحفل صغيرًا، مقتصرًا على رفيقاتها في الغرفة فقط. أما الهدايا؛ فهي إما مشغولات صنعنها بأناملهن بإعادة تدوير المكونات المحدودة المتاحة لهن، أو قطع ملابس يكنّ قد أوصين أهاليهن عليها منذ فترة، وفي هذه الحالة تكون الأسيرة قد تنازلت، لأجل صديقتها، عن واحدة من القطع القليلة المسموح لها بإدخالها.

أحيانا، في يوم الأم، تحتفل الأسيرات العازبات الأصغر سنًا بالأسيرات الأمهات، مثلًا في 2019 بدأت التجهيزات قبل فترة غير يسيرة، خلالها صنعت صاحبات الفكرة أساور من الخرز، مع بطاقات كتبن عليها عبارات لكل أمٍ باسمها، وأضفن للهدية قطعة شوكولاتة، وكانت المفاجأة في "الفورة الأولى" من ذلك اليوم؛ مفاجأة كهذه، تُراها كيف تُطيّب خاطر أمٍ يمرّ عليها الحادي والعشرين من آذار/مارس وهي لم تحضن أبناءها منذ شهور أو سنوات؟

تجد الأسيرة صاحباتها حولها في كل المناسبات، كأن يحتفلن معها بزواج أحد أقربائها خارج السجن، يرتدين أجمل ما لديهن من ملابس، ويتزيّن، ويقمن الحفل. ولكي لا تغيب هذه الأجواء الدافئة، فإن الأسيرات يصنعن مناسباتهن الخاصة، ينظمن فعالية شهرية أو نصف شهرية تشترك فيها كل الغرف في إعداد الطعام لتتناوله الأسيرات معًا في أوقات الفورة.

_______________________________-67.png

ليست كل المناسبات جميلة بالطبع، أحيانًا، يصل خبر وفاة قريب أسيرة، إن كان قريبًا جدًا تصنع الأسيرات القهوة، ويشترين التمر، ويقمن بيت عزاء لثلاثة أيام طوال الساعات المسموح لهن بالتنقل بين الغرف فيها، وإن كانت درجة القرابة أقل يتم توزيع القهوة والتمر في وقت الفورة. أحيانًا يتم إحياء ذكرى الوفاة أيضًا، كما فعلت الأسيرة سوزان أبو غنام في ذكرى استشهاد ابنها محمد، حين اشترت قطعًا من الشوكولاتة وألصقت بكل واحدة منا ورقة كتبت عليها عبارة عن الشهادة وفضلها، ووزعتها على الأسيرات.

في شهر رمضان، تشتري بعض الأسيرات أشياء من "الكنتينة" وتوزّعها على الأسيرات صدقةً عن أرواح ذويهن الراحلين، وإذا احتاجت إحداهن شيئا لا تملك ثمنه، غالبا ستجده على سريرها، فتدرك أن إحدى أخواتها شعرت بها واشترته في صمت لتفادي الإحراج. على ذكر رمضان، فإن الاحتفال به وبعيدي الفطر والأضحى يأخذ وجوهًا عديدة، على سبيل المثال، ذات رمضان، تبرعت أسيرات "غرفة 10" بتكلفة "رزنامة رمضانية"، وتم تحديد مضمونها بعد أخذ الأفكار والاقتراحات من كل الأسيرات، ثم تولت الموهوبات في الخط والرسم تنفيذ الفكرة بتصميمات جميلة، وصنعن منها نسخًا بعدد غرف القسم الإحدى عشرة.


اقرأ أيضًا: نور بدر: حكايا الأسيرات أجبرتني التجرد من موضوعية البحث العلمي


"الرزنامة" عبارة عن دفتر مكون من 30 ورقة، في كل ورقة منها آية قرآنية، وأفكار للتعبد في الشهر الفضيل، ونصيحةٌ قابلةٌ للتنفيذ في السجن، مثل: "تفقدي أخواتك ووفري النقص لإحداهن"، و"أرسلي طبقًا من الطعام للغرفة المجاورة"، و"تحدثي بموعظة قصيرة لبنات غرفتك وادعِ غرفة أخرى". الفكرة على بساطتها، لاقت تفاعلًا كبيرًا من الأسيرات، كنّ ينتظرن صباح كل يوم لقلب الورقة وتطبيق كل ما كُتب فيها.

وللعيد حكاياته، منها أنه في ليلة أحد أعياد الفطر صنعت الأسيرات المعمول، طبعًا، هذه الوجبة احتاجت تخطيطًا مسبقًا من بداية رمضان، حيث كن يحتفظن بالتمر الذي يتم توزيعه عليهن مع وجبات الإفطار، من حسن حظّهن أنهن حصلن على الدقيق أيضًا، وهذا أمر لا يحصل دومًا. في تلك الليلة، من الخامسة بعد العصر، وحتى العاشرة والنصف ليلًا، استعادت الأسيرات الاثنتين والثلاثين أجواء صنع المعمول مع عائلاتهن، تجمعن حول المكونات ليشاركن في خطوات الإعداد، وبسبب محدودية أدوات المطبخ وصغر حجم الموقد كانت النتيجة أربعة قطع فقط لكل منهن.

| أناقة غرف الأسيرات: كيف يُصنع الجمال من العدم؟ 

prison_roomdd.png
غرف الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال  منسقة بأشياء بسيطة يجملن بها المكان 

من أهم الاستعدادات للشهر الفضيل والعيدين، الزينة، في أحد الأعوام مرّ مدير السجن بالغرف فأبدى اندهاشه مما رأى، سأل الأسيرات كيف صنعن الزينة؟ وبأي أدوات؟ حينها كانت الغرف مليئة بالأهلّة والنجوم الملونة، كلها مصنوعة من أغلفة الأطعمة. تلك الزينة ليست إلا جزءًا بسيطًا من الاهتمام البالغ بأناقة الغرف على مدار العام، في الغرف كل شيء مثبت في الجدران، فلا مجال لتجديد الديكور عبر تحريك القطع وتغيير أماكنها، لذا تلجأ الأسيرات لتنسيق الألوان، والزينة المصنوعة يدويًا، والتنظيف المستمر.

وفي كل غرفة أبراش من طبقتين وخزانات صغيرة بعدد الأسيرات فيها، والبرش هو السرير بلغة السجن. توحيد ألوان أغطية الأبراش صار مع الوقت يشبه العُرف، تتفق الأسيرات في كل غرفة على لون محدد ونمط متشابه للأغطية ويخبرن ذويهن بالأمر، ليراعوا بدورهم المواصفات عند شراء الطلبات وإرسالها.

هذا التنسيق يعطي الغرفة منظرًا جميلًا، ولتحسين وضعها أكثر تعيد الأسيرات تدوير الأغطية لتأخذ شكلًا جديدًا، ويستخدمن في هذه العملية خيوط النايلون التي يأخذنها من أكياس البطاطا. بالخبرة، أدركت الأسيرات أن زيادة المساحات الفارغة في الغرفة، تجعلها أكثر راحة للنفس، لذا فهن لا يتركن شيئًا من ملابسهن خارج الخزانات، ولا يكدسن الأكياس تحت الأبراش، والأطعمة لا تبقى إلا في المكان المخصص لها.

_______________________________-68.png

وبالتوازي مع هذا الترتيب، تأتي النظافة، تعطيها الأسيرات أولوية كبيرة، ويبالغن بها أحيانا، ويتفقن على جدول مهام يومي، مع العلم أنهن يشترين المنظفات على نفقتهن الخاصة، لأن ما يوفره السجن لا يكفي. ولأنهن يعشن معًا كأخوات في أسرةٍ واحدة، فإن هذا الجدول لا يكون سببًا للخلاف، إذا قصّرت إحداهن، وبالعكس أحيانًا، فقد تبالغ بعضهن في التنظيف بشكل مزعج، ومهما حصل في نهاية اليوم تعود العلاقات لطبيعتها كأن شيئًا لم يكن.

بعد تنظيف الغرفة وتنسيق ألوان مكوناتها، هناك إضافة مهمة في صنع الجمال داخل الجدران الأربعة، وهي الفنون والأشغال اليدوية، فالأسيرة تطلق العنان لمواهبها ومهاراتها، حتى أنها تجد وقتًا لأشياء لم تفكر بها قبل الاعتقال. يتم تزيين الجدران بلوحات فيها رسومات، أو عبارات، أو أدعية مكتوبة بخط جميل، بالإضافة إلى شهادات إتمام الدورات التي يتم عقدها في السجن، وبراويز تهنئة يقدمنها لبعضهن في المناسبات، بالإضافة إلى ورقة مواقيت الصلاة التي تكتبها إحدى الأسيرات، وأحيانا يرسل الأهالي دفاتر تلوين، فتلونها الأسيرة وتلصق أوراقها على الجدران.

_______________________________-69.png

كل أسيرة تضع بجوار "البرش" الخاص بها صورًا لأهلها، وقد تخطّ أبياتًا من الشعر وتضعها على خزانتها. كما أن التطريز والخرز يدخلان في أشياء كثيرة، مثل أغطية المخدات، ومعلقات للجدران. بعض الأسيرات يحيين الطفلة النائمة في دواخلهن، فيصنعن دمى من القماش ويزيّنّ بها أبراشهن.
في كل الغرف رف للأشغال اليدوية، وآخر للكتب، وفي بعضها لوحة يتغير مضمونها أسبوعيًا، ففي كل أسبوع تختار إحدى أسيرات الغرفة عبارة من إنشائها، تحاكي واقعها في السجن، وتكتبها على اللوحة واحدة من ذوات الخط الحسن، ومن أمثلة هذه العبارات: "لن يكون السجن قابلًا للاحتمال، إلا إذا تفوقت مساحة الضياء فيه على مساحة الظلام وانتصر معنى المحنة وتوضح مغزاها".


اقرأ ايضًا: عن حرب الاستنزاف...شهادات حيّة


كل ما سبق من فنون وأشغال يعتمد غالبًا على إعادة التدوير، فالأسيرة لا تفرّط بكل ما يمكن تحويله لشيء جديد، مثل أغلفة الأطعمة، وأقمشة الملابس القديمة وما عليها من خرز، خيوط النايلون من أكياس الخضروات، وأحيانا تُدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر للأسيرات بعض الأدوات مثل الألوان.

ما سبق، جزء من المواضِع التي تظهر فيها روح الأنثى، مكان ظهورها، ودرجته أيضًا، يختلفان من أسيرة لأخرى، حسب شخصيتها، واهتماماتها، ونفسيتها، فأسيرة تضع لمساتها على علاقتها بالأخريات، تحاول أن تسعدهن بهدية ولو كانت شديدة البساطة، وأخرى تناقش صديقاتها في وصفات الطعام، وقد "تخترع" لهن وصفة جديدة من المكونات المتاحة، وغيرها تشغل نفسها بتغيير ديكور الغرفة بين حين وآخر، فتهدي بنات غرفتها تجديدًا مستمرًا في المكان الضيق الذي يقضين فيه أيامهن المتتالية. مهما تغيّر مستوى تلك الروح والشكل الذي تأخذه، يبقى ثابتًا أن الأسيرة بحاجة ماسّة لها، وأنها تعود على نفسيتها بنتائج مذهلة.