بنفسج

من يُهدي إسراء جعابيص مرآةً سحرية؟

الخميس 18 يونيو

الأسيرة إسراء الجعابيص
الأسيرة إسراء الجعابيص

قشعريرة باردة أشبه بالكهرباء مَسّت قلب شيرين عيساوي حين احتضنت لأول مرةٍ يديّ صديقتها الأسيرة إسراء الجعابيص، ثم اعتادت أن تفعل ذلك كلما قابلت إسراء في الزنزانة، وكأنه عهدٌ قطعته على نفسها، أن تجمع أياديهما الأربعة معًا لتدفّئ الأصابعَ المُلتصِق عظمها بلحمها بعد أن أذابتها النيران، لعلها الطريقة الوحيدة لمساندة أسيرةٍ تموت في اليوم ألف مرة من شدة الألم، فمع حزن السجن، ما باليد حيلة سوى أن تمد شيرين يدها بحنو لتمسح دموعًا تنزل بصمت من عيون المرأة التي لم يعد لوجهها ملامحًا.

حين عُرفت قصة الأسيرة إسراء الجعابيص قامت الدنيا ولم تقعد، بعد أن قالت أمام الكاميرات بصوتٍ مرتجفٍ بائس مُختصرةً قهر عامين" أنا موجوعة"، ثم ما لبثت أن خفتت الحملات المُطالبٍة بعلاجها، فالنسيان من طبع البشر، لكن الله لا ينسى.

تفاصيلٌ فيها مرارة العلقم وحلاوة السكر. حاولت مراسلة "بنفسج" أن تلملمها عن جانبٍ لم يُر في حكاية سيدةٍ فلسطينية شابة في عمر الــ 33، واحدة من الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لم تقترف ذنبًا سوى أن سيارتها تعطلت بها على بعد 500 م من حاجز عسكري، ولسوء الحظ، أنها اشتعلت بها فزعمت (إسرائيل) إقدامها على تنفيذ عملية، لتشبّ النار وتصاب بحروقٍ من الدرجة الثالثة في أنحاء متفرقة من جسدها، فيما حُكم عليها الاحتلال زورًا وبهتانًا بالسجن لمدة أحد عشر عامًا.

  عن "ملاك رحمة"

الأسيرة إسراء الجعابيص
شيرين العيساوي مقيدة وإسراء في المحكمة وأخيرًا شيرين مع معتصم ابن الأسيرة إسراء الجعابيص

سنبدأ الحكاية من النهاية، في مشهدٍ يدرك المرء حين يتخيله أن القدرة على ممارسة أصغر تفاصيل الحياة نعمة كبرى، تقول الأسيرة المحررة شيرين عيساوي التي رافقت إسراء لفترةٍ لا بأس بها: "بعد شهورٍ طويلة من الحادث، أفصحت إسراء أنها تتمنى لو تنظف أسنانها، فقلتُ لها مُداعبة: "أنت تأمرين يا حبيبتي، الآن آتي بفرشاة ومعجون أسنان لأنظفها"، لكنها أبت وأصرت أن تفعلها بنفسها، ولم أفلح في إقناعها بأن تسمح لي بمساعدتها، وحين انتهت "الفورة" أخبرتُ الخالة أم موسى - وهي أسيرة محررة الآن- فبادرت ليلتها إلى تأدية المهمة. هكذا هي إسراء في أبسط الاحتياجات اليومية، لا يَسعها القيام بها بمفردها".


اقرأ أيضًا: إسراء الجعابيص: يوميات في زنزانة


تتنهد شيرين وهي ترسم لنا مشهدًا آخر لا يقل قسوة عن السابق: "قلةٌ من تعرف هذا، حين نُقلت إسراء إلى المستشفى تعاملوا معها بطريقة عنصرية، حدّثتني كثيرًا عن ممرضة، كلما غيرّت الضماد انتزعته بدون رحمة نازعةً الجلد، تتعمد رفعه بسرعة وكأنها تريد تعذيبها، ثم تضع ضمادًا آخر على الجرح بدون استخدام أي مرهم، إلى درجة أنها لم تكن تعطيها المُسكّنات والأدوية، لقد عايشت الكثير في المستشفى الإسرائيلي، كانوا يضعون الطعام أمامها دون مساعدتها، وبصوتٍ حزين تلفت انتباههم، أنا ليس لي يدان.. ألا ترون! فلا يحرّك حالها شفقة أحدهم، ويبقى الطعام مُلقى أمامها إلى أن يتم رفعه، ولهذا السبب انخفض وزنها كثيرًا في تلك الفترة".

  لــ "الفقّوسة" يدٌ سحرية

الأسيرة إسرء الجعابيص
إسراء الجعابيص ووالدها في صورة ما قبل اعتقالها

حسنًا، الآن سنبدأ الحكاية مع منى التي تتقلّب على جمر الحسرة، مُستهلّةُ الحديث عن أختها المفضلة: "كانت عائلتنا تعيش في الأردن، وشاءت الأقدار أثناء حمل أمي بــ إسراء أن تكون في زيارةٍ إلى القدس، فوضعتها في أجمل مدن الأرض، لدينا ذكريات جميلة في طفولتنا حين كنا نسكن في العقبة، حيث بيتنا مُطل على البحر، جمعتني بإسراء صداقة مختلفة لأنها أختي التي تصغرني مباشرة، وإني أضحك كلما تذكرت تقمصنا لحكاية "فلونة" التي عاشت في جزيرة مهجورة مع عائلتها".

تكمل: و"لا أنسى أبدًا هروبنا إلى يختٍ قديم كي نقوم بدور "القراصنة"، حيث أنا القائد وإسراء المساعد، ولأني أكبُرها فكل ما أطلبه منها تنفذه دون اعتراض، وتقلدني في كل شيء، كانت أختي عاشقة للسباحة والغوص، وكلما طلبتُ منها أن تعلمني، قالت لي جملة واحدة فقط: "ارمي حالك للميّ"، وها أنا بعد اعتقالها تعلمت السباحة بنفسي وعملت بنصيحتها، فنحن بنات الساحل ومن العيب ألا أجيد السباحة مثلها، أذكر عندما زرتها في السجن، عاكستها بقولي: "أصبحت أسبح أفضل منك"، فضحكت، وكانت ضحكتها تقول آلاف الأشياء".


اقرأ أيضًا: عن الألم الذي لا آخر له ولا قاع


وكأن استحضار الماضي يشبه قطف مزارع لــ ثمار شجرة الصبر، تقول منى عن سبب تسمية أختها بــ "إسراء": "فقدت أمي ابنة قبلها اسمها إسراء، لم يتجاوز عمرها تسعة أشهر، فقررت أن تطلق الاسم نفسه على المولودة الجديدة، وكانت ولادتها سهلة بفضل الله، ربما هذه الصغيرة المقدسية لها من اسمها نصيب في قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا"، كانت ملامح حبيبتي تغمرها النعومة والوداعة والهدوء والسلام، حتى أن أمي أطلقت عليها اسم "فقوسة" بسبب يديها الرقيقتين، وما كانت تدري أن يد "فقّوستها" ستلّوح يومًا بأصابع مبتورة كقطع الفحم!

إنها الحياة، فكل يدٍ لها قصة تستحق أن تُروى. في عام 1999 عادت الأسرة أدراجها إلى البلاد وعاشت في بيت العائلة الكبير، تنقلّوا من بيتٍ لآخر بعد أن عاشوا في عزٍ، "مررنا بالكثير من الصعوبات إلا أننا كنا قنوعين، ومع ذلك، يمكنني القول إنها كانت أيامًا دافئة"، حسب حديث منى.

الأسيرة إسراء الجعابيص
 إسراء الجعابيص سيدة فلسطينية شابة في عمر الــ 33، لم تقترف ذنبًا سوى أن سيارتها تعطلت بها على بعد 500 م من حاجز عسكري.
 
ولسوء الحظ، أنها اشتعلت بها فزعمت (إسرائيل) إقدامها على تنفيذ عملية، لتشبّ النار وتصاب بحروقٍ من الدرجة الثالثة في أنحاء متفرقة من جسدها، فيما حُكم عليها الاحتلال زورًا وبهتانًا بالسجن لمدة أحد عشر عامًا.
 
 الحادي عشر من أكتوبر لعام 2015 كان فاجعة في حياة هذه العائلة التي اجتمعت قبلها بأيامٍ في سهرة "العشاء الأخير.

تفتح منى "ألبوم الطفولة"، وسيأتي يومٌ ليقلّبه الصغير معتصم ويقرأ عن والدته متباهيًا بها، تتأمل خالته الصور القديمة بابتسامةٍ ذابلة، وتقول: "تحملّنا المسؤولية باكرًا، فبعد عودتنا من المدرسة، نسارع إلى مساعدة أمي في أعمال البيت. وتجلّى دور إسراء في الاهتمام بأخوتي الصغار، تشرف على إطعامهم واستحمامهم وتدريسهم، إلى أن قدر الله لي الزواج، لأترك المسؤولية على عاتقها، كانت هي أم البيت؛ فور عودتها من المدرسة تشمرّ عن ساعديها لتنهمك ما بين غسيل وتنظيف وطبخ ونفخ، وحين وُلد أخي الصغير عبد الرحمن تولّت هي كل أموره، لقد جرّبت معه الأمومة ليكون ابنها الأول، قبل أن تصبح أمًا فيما بعد لطفلها معتصم، ولم تكتفِ بهذا القدر من المهام، بل انطلقت نحو تفجير طاقاتها؛ إذ تعلمت الخياطة والتجميل وحصلت على شهادة للعناية بكبار السن".

وفي مرحلة الصبا، كانت بطلة الحكاية تنضح حيوية وتتقد طموحًا، تواصل منى الحديث بعد أن بلّت ريقها بشربة ماء: "لم تتوقف أبدًا عن التعلم، وأحبت أن يكون لحياتها هدف، لذا، استثمرت هواية تعيد بموجبها تدوير الأشياء. لم تكن مثلًا تتخلص من الزجاجات الفارغة، وحين أسألها مُوبّخةً: "لو أني أعرف بمَ تفيدكِ هذه القمامة؟"، فتبتسم بذكاء وترد: الآن أريكِ ماذا سأصنع منها، إلى أن أدهشتني بشجرة ميلاد جمعتها من القطع الذهبية لعلبة شوكولا، فبدت وكأنها تتساقط منها الأجراس، حقيقة، كل ما تضع يدها عليه تحوّله إلى تحفةٍ فريدة، فلها أسلوبها في الترتيب، حتى خزانتها في السجن كــ "المِسطرة" حسب شهادة رفيقاتها الأسيرات، إذ تُجيد تدبر أمرها في أي مكانٍ توضع فيه".

مشاعر مختلطة تستغرقها أثناء رسم صورة الإسراء في لوحةٍ عنوانها ما قبل، في السنوات الأخيرة منحت قسطًا وافرًا من وقتها للتطوع في "مشروع المهرج"، واستعانت بابنتي تيّمة في الذهاب للمشافي والمدارس ومؤسسات ذوي الاحتياجات الخاصة من أجل إدخال البسمة على قلب كل من يحتاجها، أما في شهر رمضان، فيحلو لها أن تجمع القمامة من باحات المسجد الأقصى فــ "هذا بيت الله ونحن أولى بتنظيفه"..، هكذا كان حس المسؤولية فيها يقول.

  حقيقة ما حدث: قصة الأسيرة إسراء الجعابيص

الأسيرة إسراء الجعابيص
الأسيرة إسراء الجعابيص وطفلها معتصم

تشرد منى بعيدًا، ثم تخرج الكلمات من جعبتها بالتدريج، متابعة الحديث: "لو تعلمون كم تحب الاهتمام بنفسها، فتمزج الألوان بطريقة تناسب "ستايلها" الخاص في أناقتها، وبين فترة أخرى تُجدد، تستمتع بكلِ لحظة تمر، وتأخذ معتصم لكل"شمة هوا" متاحة وتجمعنا حولها، لا يمكنني أن أنسى أول مرة ألقته في البرِكة كي يتعلم السباحة، خفتُ يومها على الصغير من الغرق لكن إسراء كانت واثقة أنه سينجح".

معتصم الذي سيرى أمه دائمًا جميلة مهما حل بها، والآن حان وقت الأمومة لطفلٍ وحيد: "يوم ولدته لم تسعها فرحة الدنيا، وبحنان بالغ مسحت وجه وليدها بالمنشفة، وأصرّت أن تغسلّه بنفسها فور خروجها من غرفة الولادة، أرادت بأقصى ما تستطيع الاعتناء به منذ أول ثانيةٍ أبصر فيها النور، كانت تخشى عليه من الهوا الطاير، لذا، في فصل الشتاء تُلبسه كل الكنزات، تبالغ في تدليله وتجلب له ما غلا ثمنه وكأن "قلب الأم" أخبرها عن غيابٍ وشيك، أحيانًا كانت تبتاع له قطعًا مقاسها كبيرًا لتخبئها له، وتقول: "بس يكبر بلبسهم"، وليس هناك أجمل من الساعات التي تقضيه بصحبته أمام دفاتر الرسم يُلونّان معًا كل قاتم، وفي آخر عيد ميلاد له أي حين أتم الثماني سنوات أقامت له حفلًا اقتصر عليهما فقط".

"كانت إسراء تميل إلى تكوين الصداقات، إلى درجة أن لها صديقات من المدرسة استمرت علاقتها بهن حتى الآن، بينما أنا كنت بخلافها أميل إلى الانطواء، وأعترف أني في الماضي كانت ثقتي بنفسي مهزوزة، لكنها وقفت إلى جانبي ومنحتني دعمًا وقوة، إسراء هي الصديقة الوحيدة التي كنت أخبرها بأسراري، وها هي الحياة تمضي بلا طعمٍ دونها".

تتمتع إسراء بشخصية اجتماعية ودودة، تساعد الصغير قبل الكبير، وتقول أختها في ذلك: "كانت إسراء تميل إلى تكوين الصداقات، إلى درجة أن لها صديقات من المدرسة استمرت علاقتها بهن حتى الآن، بينما أنا كنت بخلافها أميل إلى الانطواء، وأعترف أني في الماضي كانت ثقتي بنفسي مهزوزة، لكنها وقفت إلى جانبي ومنحتني دعمًا وقوة، إسراء هي الصديقة الوحيدة التي كنت أخبرها بأسراري، وها هي الحياة تمضي بلا طعمٍ دونها".

الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر لعام 2015 كان فاجعة في حياة هذه العائلة التي اجتمعت قبلها بأيامٍ في سهرة "العشاء الأخير"، تسامرت الأخوات وثرثرن كثيرًا، ولم تتوقع أيًا منهن أن يحلّ البلاء العظيم على رأس الشخص الأكثر اختلافًا، عن ذلك النهار تتحدث عن حقيقة ما جرى بدقةٍ ووضوح: "كان يوم أحد، وفي اليوم الذي يليه كان من المقرر أن تقدم امتحان في اختصاصها الذي التحقت به حينها في كلية التربية الخاصة، في ذلك الوقت انشغلت بأكثر من أمر، ما بين بحث يجب أن تنهيه بأسرع وقت ممكن، وما بين استعدادها لنقل بقية أثاثها من أريحا إلى بيتها الجديد في القدس، وكان من بين ما حملته معها أنبوبة غاز فارغة".

اقرأ أيضًا: إسراء الجعابيص: يوميات في زنزانة


وتؤكد منى التالي: "ما حدث لم يكن انفجارًا كما أنه لم تتطلق نار، ذلك أن بعض وسائل الإعلام تزعم أنه تم إطلاق نار، وهذا عارٍ عن الصحة، فما حدث هو تماس كهربائي مما أدى إلى اشتغال البالون الموجود في "الإستيريوم"، والذي يشتمل بطبيعة الحال على مواد كيميائية مشتعلة، والسؤال الذي يطرح نفسه: "لو أن ما حدث كان تفجيرًا، فكيف بقي زجاج السيارة سليمًا، وكيف للشرطي الإسرائيلي أن يدعي احتراق وجهه، وزجاج السيارة بقي مغلقًا".

وبمزيدٍ من التفاصيل تروى الحدث: "بينما كانت إسراء تهمّ بسيارتها متجهةً نحو القدس، تعطّلت مركبتها، فحاولت تشغيلها، وكان هناك شهودٌ عيان من الجيران، إذ حاول أحد الشباب مساعدتها ونجح في تشغيلها وفي الطريق تعطلت مرة أخرى، وهذه المرة قدم لها رجل تحذيرًا بألا تكمل المسير لأن السيارة بها عطلٌ لا تحمد عقباه، لكنها عاندت وواصلت الطريق، وقبل 1500م توقفت السيارة عند ما يعرف بــ"خط الباص العمومي"، فسألها الشرطي عن سبب توقفها".

تضيف: "حاولت إفهامه أن السيارة تعطلت، فهي لا تتحدث العبرية فيما هو ادعى عدم معرفته بالعربية، واشتكت له أن هناك رذاذًا ينبعث، وأنه يتعين عليها مغادرة السيارة بسبب الرائحة الكريهة المتصاعدة، أما هو فأمرها بأن تلزم سيارتها ودفعها بشكلٍ أغلق فيه الباب على يدها، وبعد بضع دقائق نشب الحريق، وإن سألتم، لماذا لم تفتح الباب وتخرج من السيارة، فقد تبين بعد الفحص أن هذا النوع من السيارات إذا تم إغلاق أبوابها من الخارج لا يستطيع من بالداخل فتحها".

وفي نهاية حديثها، تبدو منى كمن راوده اليأس، حين قالت: "ليت كلامنا هذا يحرك الضمائر لتضغط باتجاه حريتها، وليت الاحتلال لديه شيءٌ من الإنسانية كي يجري لها ما تحتاجه الأسيرة إسراء الجعابيص من عمليات جراحية قد تتجاوز الثمانية لكن عبثًا.. لقد تعبنا، وإلى الله المشتكى".