بنفسج

جُمان أبو عرفة إذ تردّ الجميل لـ"زهرة المدائن"

الثلاثاء 24 يناير

"ليس سهلا أن يعيش المرء في بيت المقدس ثم تكون شخصيته عادية، بل لابد لهذه المدينة أن تترك أثرًا فيه، وعندما نكبر، نحن الذين نشأنا في القدس، نشعر أننا بحاجة لتقديم البرّ لمدينتنا، ونرغب برد الجميل، وجميلُ القدس لا يُرَد طبعًا، لكنني مشيت في الدرب، من خلال حقل الإعلام الذي اخترته لعشقي للكتابة والتقديم".

الحديث هنا لضيفة "بنفسج" في هذا الحوار الإعلامية "جُمان أبو عرفة"، وُلدت في القدس عام 1991، لأسرة تتكون من ستة أطفال وأبوين فعلا الكثير لربط أبنائهما بالقدس والأقصى، درست في مدارسها، ثم خرجت منها لتدرس الإعلام في جامعة بيرزيت، وهي نفس الجامعة التي حصلت منها لاحقًا على درجة الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة.

جمان أبو عرفة.. سيرة ذاتية

 

تقول أبو عرفة: "الولادة في القدس ميزة أحمد الله عليها، نشأت في بيت في حي رأس العامود، الوصول منه لباب الأسباط يستغرق ثلاث دقائق فقط بالسيارة، أو ربع ساعة سيرًا على الأقدام، وكنا في أغلب تحركاتنا، أنا وأسرتي، نمر من أمام المسجد الأقصى".

وتضيف: "اعتدت أنا وإخوتي أن نبدأ يومنا وننهيه برؤية الأقصى، كنّا نمرّ من جانب السور الشرقي للمسجد كل صباح عندما يوصلنا أبي إلى المدرسة، ثم نتوجه من مدارسنا إلى المسجد، وفي نهاية اليوم نعود للبيت".

منذ تخرجها، عملت في عدد من المؤسسات الإعلامية، وركّزت في أغلب أعمالها على القدس والأقصى، واليوم هي أم لثلاثة أطفال، تعيد معهم التجربة لتعزز انتماءهم للمدينة.

في هذا الحوار، نتعرّف أكثر على ضيفتنا، ونستمع لرأيها في بعض شؤون المدينة المقدسة وما يتعلق بأهلها.

 تفرض القدس نفسها على أبنائها، يتعلقون بها، فتصبح محور حياتهم، يتأثرون بها، وعلى يديها تتشكل شخصياتهم، ثم يفكرون فيها مع كل خطورة يتخذونها في حياتهم.

تقول أبو عرفة: "الولادة في القدس ميزة أحمد الله عليها، نشأت في بيت في حي رأس العامود، الوصول منه لباب الأسباط يستغرق ثلاث دقائق فقط بالسيارة، أو ربع ساعة سيرًا على الأقدام، وكنا في أغلب تحركاتنا، أنا وأسرتي، نمر من أمام المسجد الأقصى".

وتضيف: "اعتدت أنا وإخوتي أن نبدأ يومنا وننهيه برؤية الأقصى، كنّا نمرّ من جانب السور الشرقي للمسجد كل صباح عندما يوصلنا أبي إلى المدرسة، ثم نتوجه من مدارسنا إلى المسجد، وفي نهاية اليوم نعود للبيت".


اقرأ أيضًا: أسيل أشهب: عندما "رُفِعتْ الجلسة" وصدَح صوتُ العود


كانت والدتها منتظمة في حلقات التحفيظ بالأقصى، وطالما أخذتها معها إلى المسجد، ثم ألحقتها بدورات التحفيظ الخاصة بالأطفال، وفيه كوّنت "المجتمع" الخاص بها، وتشكّلت شخصيتها.

في الأقصى تعرّفت أبو عرفة على صديقاتها، وفيه قضت أجمل أيامها، واحتفلت بكل المناسبات، رمضان والأعياد، فكانت كل حياتها فيه تقريبًا، إلى أن خرجت من القدس لرام الله لأجل الدراسة الجامعية.

يكاد الفرح يقفز من صوتها وهي تتذكر جمال طفولتها في الأقصى، كيف كانت تذهب بصحبة بنات عمها إلى صلاة التراويح فيه كل ليلة في رمضان، وكيف كانت ترتدي ملابس العيد وتهرول نحوه، حيث صلاة العيد فيه "أمر مقدس"، والكثير من الهدايا بانتظار الأطفال هناك.

حلقات التحفيظ، ومخيمات الأطفال الصيفية، وغيرها من الفعاليات والنشاطات التي ساهمت في تعلّق أبو عرفة بالمسجد، حظرها الاحتلال في السنوات الأخيرة، ولذا ترى أنها حظيت بحظٍ حسن لا يناله الأطفال حاليًا ، ومما تدرجه تحت بند "حسن الحظ" أيضًا، اهتمامات والديها وطرقهما في التربية، فقد علّقا قلوب جمان وإخوتها بالأقصى بطرقٍ عدة، منها اصطحابهم له يوميًا، وتسجيلهم في جلّ الأنشطة المعقودة فيه، والمتابعة الحثيثة للأخبار، خاصة أن انتفاضة الأقصى اشتعلت في طفولتها.

2-36.jpg

وتلفت جمان إلى أن التربية بهذا الشكل لم تتوقف عند توطيد العلاقة بالمدينة المقدسة، بل شملت التوعية والثقافة، والاهتمام بالجانب الديني، فقد أتمت حفظ القرآن في المرحلة الثانوية، وكذلك الاهتمام بالمواهب، إذ أهداها أبواها جهاز تسجيل "ووكمان" كان تستخدمه في الاستماع لأشرطة السيرة النبوية وقصص الأنبياء حتى حفظتهم عن ظهر قلب، وبه أيضًا كانت تتسلى مع شقيقها، فكانا يسجلان "برامج إذاعية"، وكل هذا ساعدها ثقافيًا ولغويًا عندما قررت أن تسلك طريق الإعلام.

تقول أبو عرفة: "ممتنة لأهلي على الفرص التي قدموها لي، الفرص التي صنعتني"، مضيفة: "فيما يتعلق بحب القدس والأقصى تحديدًا، فعلا ذلك بكل الطرق، فتحبيب الطفل بالمكان لا يكون بالاعتماد على شرح الأهمية الدينية فقط، لذا أنا أكرر ما فعلاه معي مع أبنائي".

في ميدان العمل الصحافي

received_846996886358394.jpeg
الصحافية جمان أبو عرفة في تدريب للأطفال خاص بالصحافة

هكذا بدأ عشقها للمسجد الأقصى، إلى أن أنهت الثانوية العامة وتوجهت إلى رام الله لدراسة الإعلام في جامعة بيرزيت، هناك اكتملت أركان شخصيتها، والتقت بزملاء من مختلف محافظات الوطن، وخاضت تجربة العمل الطلابي ، وتعرفت على زوجها الصحفي أمير أبو عرام، وبذلك كانت المرحلة الجامعية من أجمل فترات حياتها، بعدها عادت إلى القدس لتبني أسس أسرتها الجديدة.

نشأتها أخذتها باتجاه العمل الصحفي، وحبها للأقصى جعلها تركز عليه في أعمالها، وكما تقول : "أن يكون المرء صحفيًا في القدس، فهذه ميزة، فالشغف في المدينة لا ينتهي".

عملت أبو عرفة في العديد من وسائل الإعلام، المرئية والمكتوبة والرقمية، ولأنها اطلعت على أدق تفاصيل الأقصى في طفولتها، كانت قادرة على الإتيان بموضوعات مميزة وجديدة، مثل "آل الفتياني"، ومهد عيسى ومغارة الأرواح وبركة البطرك.

3-21.jpg

تقول: "في بداية عملي، كنت كمن يبحث عن كل صغيرة وكبيرة في المسجد والمدينة، لأعد عنها تقريرًا، لم يكن لي مكتب، كان الأقصى مكتبي، أقضي فيه ساعات العمل، من الثامنة حتى الرابعة يوميًا، قضيت أوقاتًا طويلة مع المرابطين والمرابطات، عايشت حياتهم بكل التفاصيل الحلوة والمرة، ومعهم ضربني جنود الاحتلال، وأُبعدت عن الأقصى، واعتُقلت أيضًا أثناء ممارسة عملي بتهمة التكبير لأني كنت في محيط المرابطين، الاعتقال كان لساعات فقط، لكنه يدل على أن الاحتلال لا يفرق بين الصحفي وغيره".

وتتابع: "كانت مصاطب العلم في أوجها، فكتبت عنها وعن المشاريع المختلفة، عايشت الاقتحامات، والابعادات على الأبواب، ودأبت على اختيار أفكار مميزة لتقاريري، هذا العمل الميداني أضاف لي الكثير، صقلني من جديد، كأني تربيت مرة أخرى، وعشقت الأقصى مرة أخرى".

كيف يتعلق طفلك بالقدس؟

6-7.jpg
الصحافية جمان أبو عرفة مع أطفالها
في عملها، تشعر أبو عرفة بمسؤولية كبيرة تجاه المدينة المقدسة، تكتب عنها "كمن يغطي أخبار فرد من أسرته"، على حد وصفها، مبينة: "المسؤولية تنبع من داخلي لأني مقدسية وفلسطينية، ويزيدني دافعية على الاستمرار ما أراه من اعجاب الناس وثنائهم على ما أقدمه".

أبو عرفة التي تحب التاريخ، تميل في عملها الإعلامي لتسليط الضوء على تاريخ القدس، وإبرازها بأبهى شكل للعالم، وإخبار الناس بكل التفاصيل حتى الصغيرة منها، لقناعتها بأن لكل زقاق في القدس قصة، وأن التفاصيل فيها لا تنتهي، وكذلك تكثر من القصص الإنسانية وتفضّل أنسنة كل شيء في المدينة.

وفي بعض كتاباتها تطرقت للحديث عن المرأة والطفل في القدس، جمان لا تعدّ نفسها متخصصة في المجال لكنها تحبّ هذا الجانب، وفي فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد 19 كانت تخرج في بث مباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لرواية القصص للأطفال.

received_494728286018262.jpeg
الصحافية جمان أبو عرفة مع زوجها

في تربيتها لأبنائها، يبدو أن ضيفتنا استفادت من طفولتها، واستخدمت الكثير من الطرق التربوية التي طبقها والديها معها ومع إخوتها و تبيّن أبو عرفة أن الطفل لا يُربى بالكلام بل بالقدوة، يقلد والديه في تصرفاتهما واهتماماتهما، لا في أقوالهما وتوجيهاتهما.

وترى أن أنجع الوسائل، التربية الميدانية، أي اصطحاب الأطفال للمكان المُراد ربطهم به، وصناعة ذكريات جميلة فيه، مما يجعله يطلب زيارة المكان مجددًا، لذا فهي تصطحب أبناءها إلى لأقصى بشكل مستمر، وتحرص على جعل أوقاتهم فيه جميلة خالية من أي منغصات، وتسجلهم في الأنشطة المناسبة لأعمارهم فيه.


اقرأ أيضًا: من قصص زوجات الأسرى: فصل جديد لعبير زهران


"ماما ما أخذتينا على الأقصى اليوم"، هذا ما يردده أطفالها إذا مرّ يوم دون زيارة المسجد، هكذا حققت "التربية الميدانية" مرادها. ولمن هم خارج القدس، داخل فلسطين أو خارجها، ويرغبون بتعريف أبنائهم على مدينة القدس وتعزيز مكانتها في قلوبهم، تنصحهم أبو عرفة بإعطاء القدس مساحة في البيت، سواء بمتابعة أخبارها والحديث عنها، أو حتى بشكل مادي، كتعليق صور للمدينة والمسجد الأقصى،و دفع الأطفال لرسم معالمها.

مرابطات القدس

 
تتحدث أبو عرفة عن بنات جنسها في القدس، تختصر الحديث بوصفهن بـ"المميزات"، ثم تفسّر: "المرأة هنا جُبلت على الصبر والتحدي والشجاعة، النساء في القدس شجاعات جدًا، وهذا يتجلى عند الأبواب والساحات وفي حالات مثل اعتقال الزوج أو استشهاد الابن".
 
وتؤكد: "مكانة المرأة هنا محفوظة بمكانة المكان الذي تعيش فيه، مميزة ببركته، ومما يساعد في منحها مكانتها الإعلام الذي له الدور الكبير في تسليط الضوء عليها وعلى صمودها، لذا فإني ممتنة أنني إعلامية ولي منبرٌ لتمكين المرأة".

تتحدث أبو عرفة عن بنات جنسها في القدس، تختصر الحديث بوصفهن بـ"المميزات"، ثم تفسّر: "المرأة هنا جُبلت على الصبر والتحدي والشجاعة، النساء في القدس شجاعات جدًا، وهذا يتجلى عند الأبواب والساحات وفي حالات مثل اعتقال الزوج أو استشهاد الابن". وتؤكد: "مكانة المرأة هنا محفوظة بمكانة المكان الذي تعيش فيه، مميزة ببركته، ومما يساعد في منحها مكانتها الإعلام الذي  له الدور الكبير في تسليط الضوء عليها وعلى صمودها، لذا فإني ممتنة أنني إعلامية ولي منبر لتمكين المرأة".

وعن المرابطات تحديدًا، تقول: "المرابطة إنسان غير عادي، امرأة لديها بيت وأسرة ومسؤوليات، ومع ذلك تُحمّل نفسها مسؤولية اضافية، فتجعل للأقصى نصيبًا من حياتها كما لو كان أحد أفراد أسرتها".

وتضيف: "تجد الواحدة منهن تنظم أمور بيتها وتجهّز الطعام، ثم تخرج من الصباح الباكر لتعمر المسجد وتملأ الساحات، تعرض نفسها للخطر، لا حبًا في الشهرة ولا تهورًا، فلا أحد يحب الاعتقال، وخاصة المرأة".

وتتابع: "تُرابط وهي تعرف أن للرباط ضريبة صعبة، وأنها ستدفع ثمن رباطها بالتحقيق والتفتيش العاري والبعد عن أطفالها والابعاد عن الأقصى وقطع التأمين الصحي، وغير ذلك الكثير من العقوبات والتضييقات".

ربما المرابطات هنّ الواجهة الأبرز للمقدسية، فماذا عن بقية النساء في القدس، ما الأدوار المهمة التي يقمن بها دون أن ترصدهن العدسات؟ نسأل أبو عرفة، فتوضح أنهن تصنعن الكثير خلف الكاميرا، ويليق بهن لقب "جنديات مجهولات".


اقرأ أيضًا: المرابطة رائدة سعيد ونفَسٌ لا يملّ جوار الأقصى


وتبين: "كثيرات هن اللواتي لا يظهرن، لكنهن كنّ قادرات على تقديم شيء للقدس، تأثيرهن يشمل البيت وخارجه، فالواحدة منهن في داخل أسرتها تربّي أبناءً على قدر المسؤولية تجاه المدينة، وهذه مهمة صعبة، وخارج البيت تضع بصمتها من خلال عملها، لذا يمكن القول إن المرأة المقدسية مرابطة سواء ظهرت أو لا".

ابنة القدس التي تعمل في الإعلام، ماذا تقول عن حاجة مدينتها لذلك المجال ذو التأثير اللامحدود؟ تجيب: "تحتاج القدس اهتمامًا كاملًا، وتوعية شاملة بكل ما يتعلق بالمدينة، أرضها، وتاريخها، وآثارها، وكل التفاصيل الأخرى".

4-16.jpg

وتقول: "القصص الإنسانية على أهميتها، وبقدر ما تجذب المتابع وتجعله يعيش أجواء القدس، إلا أنها غير كافية، فعلى الإعلام أن يشرح للمتلقي ما هو أكثر من ذلك، لا بد من المعلومات والإحصائيات والرصد اليومي والتحليلات، هذا من شأنه أن يعزز صمود المقدسيين".

وتضيف: "ما سبق له جمهوره، لكن لا ننسى أننا في عصر السرعة والإعلام الرقمي، لذا علينا أن نقدم للمتابع مواد جذابة وقصيرة، بحيث نكون قادرين على توصيل الفكرة في دقائق أو ثواني". وتتابع: "ثمة ما هو أكبر من الإعلام، فتعزيز صمود المقدسي في مدينته يحتاج لكل أشكال الدعم المعنوي والمادي ومحاربة التطبيع، ومما لا شك فيه أن لا راحة للقدس إلا بتحريرها".