بنفسج

أم البراء القاضي: استدامة عطاء الأم الفلسطينية

الأربعاء 23 اغسطس

كنتُ أنتظرُ مكالمتَها على أحرِّ من الجمر، وعندما طال الأمر قليلًا أخذتُ هاتفي أقلِّب الموسيقى واحدةً تلو أخرى، إلى أن خرجتْ أمامي ميس شلش بصوتِها وهي تغني: سكابا يا دموع العين سكابا"، سألتُ نفسي عن بلاغة الكاتب وهو يصف غزارة الدموع التي يمكن أن تُسكب وجعًا وفقدًا وشوقًا.

قطع هذا الصوت رنينُ هاتفي، وأخيرًا ضحك الحظُّ لي لأنال شرف هذه المكالمة، رفعتُ الهاتف وأنا أقول ضاحكةً: " ثقلانة كثير علينا يا خالتو أم براء!" ، بادلتني الضحكة ذاتها وهي تقول: "عندما عرفتُ أنَّ حديثَ المقابلة سيكون عن "حبايب قلبي" اخترتُ أن أُرتِّب المكان لأُرتِّب أفكاري وحديثي معكِ." لم أدرِ حقًّا أن هناك طقوسًا خاصة للحديث في حضرة الأسرى، لكن عندما تتحدث مع سيدةٍ ما تودع في كل شهر  ابنًا من أبنائها ليؤخذ عنوةً من سجنٍ إلى سجن، أدركتُ حينها قدسية هذا الحديث مع هذه السيدة.

هم أربعة أسرى، وكأنَّ بينهم عقد "سلِّم واستلم" يخرجُ أحدهم ويسلِّم في اليوم ذاته قيود السجن لأخيه، لتمرَّ الكثير من الشهور، وحكم اللقاء معًا في حضن أمهم حرامٌ مُحرَّم في قانون الاحتلال الإسرائيلي.

مسيرة الاعتقال

هي أم البراء القاضي (55 عامًا) من قرية قلنديا التابعة لقرى مدينة القدس، وُلِدتْ هناك وهي تتنفسُ ريحة البلاد الحُرة، تصحو على جنازة شهيد، وتغفو على مُطاردة بطل، إلى أن ساقها القدر وكتب لها الزواج والعيش في مدينة البيرة.
 
بدأت مسيرةُ الاعتقال بين أبنائها الشباب الثلاثة واحداً تلو الآخر، وربما واحدٌ برفقةِ الآخر أيضًا، ففي أول مرَّةٍ اعتُقل فيها ابنها البكر براء كان في سنته الدراسية الأولى في جامعة بيرزيت بكلية الإعلام، بدون أي  تهمة واضحة.

هي أم البراء القاضي (55 عامًا) من قرية قلنديا التابعة لقرى مدينة القدس، وُلِدتْ هناك وهي تتنفسُ ريحة البلاد الحُرة، تصحو على جنازة شهيد، وتغفو على مُطاردة بطل، إلى أن ساقها  القدر وكتب لها الزواج وتعيش في مدينة البيرة -إحدى المدن الفلسطينية الواقعة شمال القدس-.

لم يكن البُعد الجسدي عن مدينة القدس حاجزًا أمام أم البراء لأنْ تنجبَ أبناءً يهيمون في حبِّ القدس وهواها، ويُدركون أن انتهاك ساحات المسجد الأقصى كانتهاكِ العرض تمامًا، فالأرض والعِرض في قانون الفلسطيني خطٌّ أحمر ثأره الدماء.

بدأت مسيرةُ الاعتقال بين أبنائها الشباب الثلاثة واحداً تلو الآخر، وربما واحدٌ برفقةِ الآخر أيضًا، ففي أول مرَّةٍ اعتُقل فيها ابنها البكر براء كان في سنته الدراسية الأولى في جامعة بيرزيت بكلية الإعلام، بدون أي  تهمة واضحة إلى أن قررت إدارة السجن أنَّ " صفته كابن مسجد" هي تهمة تستحق الاعتقال ، استمرَّ اعتقال براء لفترةٍ وجيزة إلى أن استطاع المحامي الوصول إلى حل "الكفالة" ليُطلق سراحه حينها.

3-1.jpg

لم يكن هذا الاعتقال الأخير لبراء، فما بينٍ فترة وأخرى يُعاد اعتقاله دون سابق إنذار، وكعادة الاحتلال "اعتقالٌ بلا تهمة" ، وأمَّا عن الابن الثاني "محمد" فكان الأكثر نصيبًا في مسيرةِ الأسر بين إخوته، للحد الذي أصبح الأصحاب والأحبة إذا ما سألوا عنه يبدأون بسؤال: كيف محمد؟ حر ولا أسير؟!

تقول أم البراء لـ "بنفسج": " في أول مرةٍ اعتُقِل فيها محمد كان حينها ابن الـ 19 عامًا، وحُكِم عليه بالسجن لمدة 22 شهرًا بتهمة رمي الحجارة، وعندما بلغني خبر الاعتقال قلتُ في نفسي "هوينة يا محمد يا راجل يا أسد" ، وبعد خروجه من السجن بـ5 شهور، أُعيد اعتقاله مرةً أخرى وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنة كاملة، كنتُ حينها أعرف أنَّ الأمر ليس سهلًا عليه، وهو الذي لم يذق طعم الحرية بعد، لكن كعادتي مع أبنائي " هوينة يمَّا" فدا الوطن."


اقرأ أيضًا: أم عبدالله السيد تروي حكايات الـ 19 عامًا من الفراق


المُختلف في هذا الاعتقال أنَّه كان آخر اعتقال معروفٌ فيه يوم حرية محمد، فبعد إطلاق سراحه بشهورٍ بسيطة، أُعيد اعتقاله مرةً أخرى، لكن في هذه المرة كان اعتقالًا إداريًا، وفي كلِّ مرةٍ كانت العائلة تبصر أملَ الحرية، يُجدَّدُ فيه ملف اعتقاله ثانيةً، إلى أن تقرر الإفراج عنه خلال شهر يناير الماضي. كانت الفرحة لا تسع أم البراء وهي تقول: وأخيرًا محمد حيكون معنا، وأخيرًا سفرة رمضان حتكون عامرة" لكن سرعان ما تبددت هذه الأمنية قبل يومٍ واحد من حرية محمد، ليتم تجديد اعتقاله ستة شهورٍ أخرى.

لا أنسى التواريخ

 

اعتُقلت تسنيم لفترةٍ وجيزة وتم إطلاق سراحها، أمَّا عن مصطفى فحُكِم عليه بالسجن لمدة سنتين، دون تفسيرٍ واضح لتهمته، وبعد جهودٍ من محاميه تم الحكم عليه بالسجن لمدة 4 شهور بتهمة دخول "إسرائيل" بدون الحصول على تصريح، ليتم إطلاق سراحه في شهر أيلول الماضي.

 

وما بينٍ اعتقالٍ وآخر، تُسطِّر أم البراء حكاياتٍ جديدة، لكن هذه المرة كانت عن اثنين من أبنائها ، ففي الليلة التي حصلت فيها ابنتها البكر تسنيم على درجة الماجستير من تركيا وحزمت أمتعتها لتعودَ إلى البلاد، تفاجأتْ بجنودِ الاحتلال الإسرائيلي يقتحمون المنزل، لاعتقال تسنيم، لكن ما التهمة هذه المرة؟ هل أصبحت دراسة الفلسطيني خارج البلاد تهمة؟! أم حصوله على درجةٍ علمية جريمة تهدد أمن دولةٍ مزعومة؟! وفي ظلِّ تساؤلات أم البراء، وجدتْ جنود الاحتلال يهجمون على ابنها الأصغر مصطفى ليضعوا القيود في يده، معلنين اعتقاله أيضًا.

4-1.jpg

اعتُقلت تسنيم لفترةٍ وجيزة وتم إطلاق سراحها، أمَّا عن مصطفى فحُكِم عليه بالسجن لمدة سنتين، دون تفسيرٍ واضح لتهمته، وبعد جهودٍ من محاميه تم الحكم عليه بالسجن لمدة 4 شهور بتهمة دخول "إسرائيل" بدون الحصول على تصريح، ليتم إطلاق سراحه في شهر أيلول الماضي.


اقرأ أيضًا: السيدة حسنية أبو عون: خليفة الغازي على الأهل والبنون


من تاريخٍ إلى تاريخ، ومن حُكمٍ إلى حكم، كنتُ أتبادلُ الحديث مع "أم البراء" وهي تقول لي: بعرف التواريخ والأرقام كثيرة، أنا إم وما بنسى تاريخ كل ليلة ابني ما نام فيها بحضني، بس برضه هوينة".

أدركتُ بعد هذا الشعور، أنَّ القوة التي تسيطر على "أم البراء" كانت جينًا حقيقيًا ورَّثته لأبنائها قولًا وفعلًا ، ففي هذا تسرد أم البراء لـ "بنفسج" مواقف كثيرة عند اعتقال أبنائها: " أعرفُ جيدًا أن طريق الأسر ليس بالأمر البسيط، صدقًا لم يكن عاديًّا عليَّ في كلِّ مرةٍ أُقبِّلُ فيها أحدًا من أبنائي خلف زجاجٍ عازل."

الأم "الجبل"

1-3.jpg
أبناء السيدة أم البراء القاضي

عندما كانت أم البراء تشد رحالها لزيارة أحد أبنائها في السجن، كانت تتأملُ وجوه كل نساء الأسرى، فتلك أمٌّ حُكِمَ ابنها بالمؤبد، وابنها الآخر شهيد، والثالث مطارد، وفتاةٌ أخرى بعمر الزهور لم تعرف الشيب بعد، حُكِمَ على زوجها بالمؤبدين وتركها تواجه أمواج الحياة برفقة أبناءٍ صغار. "هذا هو طريق النساء الفلسطينيات" قالتها أم البراء وهي تواسي نفسها كلَّما اشتاقت لأحد أبنائها الأسرى. " تتابع قائلةً: "والأهم من هذا كله تلك الطمأنينة التي ترتسمُ في داخلي وتظهر على مبسمي."

كانت الثقة والقوة في نفوس الأبناء هي العزيمة التي تشدُّ أم البراء لهذه الطمأنينة، فلم يكن الانكسار أو الضعف خيارًا لأن يظهر على وجهِ أيٍّ من أبنائها ، بل كانت تواصل أم البراء دعمها لهم وكأنَّ شيئًا لم يكن، وهذا ما شجَّع ابنها مصطفى للحصول على شهادة الثانوية العامة خلال فترة اعتقاله.

2-4.jpg

مواقف كثيرة تسردها أم البراء، وفي كل موقف تجدها تزداد صلابةً وقوة، حتَّى في المرة التي قطعتْ فيها طريقًا طويلة لزيارة ابنها محمد، ورفضت حينها إدارة السجن هذه الزيارة بحجة أن محمَّد مُعاقب مع بقية الأسرى لمدة شهرين متتاليين ، لم تلقِ أم البراء بالًا لهذا القرار، بل انتقلتْ إلى دورِ "الأم الجبل" وهي تواسي بقية الأمهات، وعينها على تلك الأسلاك الشائكة، وهي تقول: مش مطولة عليكم يما!"


اقرأ أيضًا: ساجدة أبو الهيجا: سفيرة العائلة وأم أبيها وأمها


"هؤلاء بضعٌ منِّي، كلٌّ له قطعةٌ من قلبي، لكنَّ الوطن أيضًا غالٍ يا ابنتي!" قالتها أم البراء وهي تبوح لي بحرارة الشوق لـ "محمد"، عامان ونيف وهو بعيد عن أحضانها ونبضات قلبها،ولكنَّ اليقين بحتمية الفرج هو ما يقر عينها، ففي كلِّ مرةٍ يُطلق فيها سراح أحد أبناء أم البراء يتحول البيت إلى ساحةِ فرحٍ فيه من الأهازيج والتهاني ما يستمر لأشهر، فكلُّ بطلٍ في هذه البلاد عريس، له من الزَّفةِ ما يليق بصبره وفدائه.

انتهى هذا الحوار، وصوت ميس شلش يعودُ إليَّ ثانيةً، لكن هذه المرة فهمتُها جيدًا، وعرفتُ ما معنى أن تكون الدموع "سكابا" لكن لا يراها إلَّا من عاشر حرقة هذه الدموع شوقًا وفقدًا!!