بنفسج

صفاء أبو سنينة: خشونة الزنزانة أبعد من حدود الرواية

الأحد 30 ابريل

أيام معدودات وسيبدأ العد التنازلي لتنفيذ خطة الابتهاج المرتقب، والتي أعدتها صفاء كسيناريو أحكمت فيه طبيعة المشاهد بالتفاصيل، برؤية إخراجية تذوب في بهائها لحظات الانتظار، فابتدأت بنفسها وهي تزين زوايا المنزل بشعارات التفوق لـ "أفنان"، أولى مؤنسات القلب، وتنادي باسمها ابتغاء المساعدة في تنسيق طاولة الاستقبال المكسوة بالحلوى، والمعبّقة برائحة القهوة المطبوخة بنكهة الاختلاف، في صالة تدلّت فيها البالونات كعنب الخليل، بعد ليلة من الدعاء والإعداد ربتت فيها على أكتاف رهبة أفنان فطردتها، وهي تنتظر الصباح؛ لتطل عليها بالثوب الفلسطيني المطرز؛ وتجلس في حضن العائلة لمراقبة الثواني الأخيرة لإعلان الوصول، والتي ما تلبث أن تنقضي حتى ترافق الأم ابنتها في متعة التحضير لرحلة دراسية جديدة.

كل هذه الخطوات سرقها الاحتلال كما الأرض، وأبقاها رهينة الورق وأوقف الخيال عند حدوده في يوم عيد، حين اعتقل صفاء أكرم أبو سنينة البالغة من العمر (40) عامًا، على عين عائلتها المكونة من بطلين وأميرتين تكبرهم أفنان، رافقوها في الصبر على أسر الوالد، وباركوا لها الحصول على درجة الماجستير في بناء المؤسسات وتنمية الموارد البشرية من جامعة القدس أبو ديس، واحترموا عملها كمديرة لجمعية البيوت السعيدة، وشاركوها النشاط المجتمعي في العديد من القضايا.

مشاهد قاسية

اعتقل الاحتلال صفاء أكرم أبو سنينة البالغة من العمر (40) عامًا، على عين عائلتها المكونة من بطلين وأميرتين تكبرهم أفنان، رافقوها في الصبر على أسر الوالد، وباركوا لها الحصول على درجة الماجستير في بناء المؤسسات وتنمية الموارد البشرية من جامعة القدس أبو ديس.
 
"ماما لا تروحي معهم، ما تتركينا!"، جملة كان وقعها كالصخر على قلب صفاء، وهي تراقب القهر والعجز في عيون عائلتها تارة، وتلتمس الدمع والأسى في أصواتهم تارة أخرى، حين ساقها الاحتلال الصهيوني مكبّلة اليدين نحو المجهول في ثالث أيام عيد الفطر المبارك لعام 2018.

"ماما لا تروحي معهم، ما تتركينا!"، جملة كان وقعها كالصخر على قلب صفاء، وهي تراقب القهر والعجز في عيون عائلتها تارة، وتلتمس الدمع والأسى في أصواتهم تارة أخرى، حين ساقها الاحتلال الصهيوني مكبّلة اليدين نحو المجهول في ثالث أيام عيد الفطر المبارك لعام 2018، ليحكم عليها بمطرقة الافتراء بالسجن لمدة (14) شهرًا، وغرامة مالية بقيمة (9) آلاف شيكل، إضافة إلى (3) سنوات وقف التنفيذ، ما يعني ثلاثة سنوات من اعتقال إلى اعتقال!

وحول ردة فعل الأولاد تقول صفاء: "رغم تكرار مشاهد الاعتقال أمام أبنائي ومعايشتها مع والدهم الأسير المحرر سعيد أبو حسين لـ (5) مرات، ورغم تربيتنا لهم على نهج العطاء والمقاومة، واستحقاق الوطن فيما نقدم أمام ما يُقدم، إلا أن أسري كان الأقسى لتركه فراغ كبير من الصعب سده؛ لتزامنه مع مراحل فيصلية وانتقالية في حياة أبنائي وحاجتهم لي كأم وصديقة ومرشدة أجادت دورها ولعبت دور الأب رغم الفقد وثقل المسؤولية"، موضحة أن الالتفاف العائلي والمساندة المجتمعية هي أكثر ما خفّف عن عائلتها تبعات الغياب، وهو ما جعل قضية الأسرى محط اهتمامها الدائم وفي كل حين باعتبارها قضية المجتمع كله.

وعن تجربة الاعتقال، فقد أكدت صفاء على قساوة المشهد الذي بدأ بالتحقيق في زنازين سجن عسقلان، ولمدة (45) يومًا كانت الأصعب في حياة الأسر، تبعها الانتقال إلى معتقل الشارون لفترة لم تتجاوز ثلاثة أشهر، تخللها أساليب استجواب تحمل ألوان من العذاب، كحرمان الأهل من الزيارة، ومنع المحامي لجعل الأسير عالق بين تهم منزوعة الصحة، الأمر الذي استلزم مواجهة الظروف التي تفرضها طبيعة الاحتجاز، حيث الاضطرار لتناول طعام لا يؤكل، والتحاف بطانيات معدومة للهروب من البرد القارص، إضافة إلى إجحاف السجان بتسليط الضوء البرتقالي المشع لـ 24 ساعة متواصلة على عين الأسير، في أمتار خشنة مجردة من أي معلم مرشد لأوقات الصلاة أبسطها الشمس.


اقرأ أيضًا: نهيل ومحمد عصيدة: رفيقان جمعهما الدرب وفرقهما الاحتلال


وأضافت صفاء بأن الاحتلال تفنن في محاولاته لتغييبها كليًا عن الزمن، كي تمارس شعائرها اليومية في انقطاع كامل عن العالم الخارجي، وبصورة تتطلب الصمود أمام تغير درجات الحرارة على مدار الفصول، والعيش في بيئة غير صالحة للبشر.

وتابعت صفاء قائلة: "الحياة في الزنزانة هو عيش في مقبرة للأحياء مسكونة بالقصص والألم، فهي أبعد من حدود الرواية التي أطلعتني على صعوبة التفاصيل، لدرجة أني لم أتوقع أن أعيشها يومًا لأرى اختلاف الواقع الحياتي هناك"، مشيرة إلى أن تجربة الأسر محاطة بالحكمة والمشاعر الغريبة رغم بشاعتها.

عن البوسطة

received_563184085769156.jpeg
صفاء أو سنينة مع عائلتها

لكن الأمر لم يتوقف عند بوابات معتقل الشارون، فقد نُقلت صفاء إلى سجن الدامون الذي كانت منه حريتها عبر "البوسطة"، آلة النقل الوحشية المصممة كوسيلة للعذاب والعقاب، بدءًا من انعدام التهوية فيها، وحتى المقاعد الحديدية المثقوبة، حيث أُعيد تشكيلها لتحقيق أكبر قدر من الإهانة والذل للأسرى كافة، لتضاف إلى رحلة الأنين التي تعيشها الأسيرات بمشاعر وقدرة جسدية مختلفة عن الرجل.

ونوهت صفاء إلى تشابه الظروف بغرف السجن التي لا تتجاوز بضعة أمتار مكدّسة بالأسرى، فهي محفوفة بالرفض، والمنع، والتقليص، والتنغيص، والاقتحام، حيث أن إدارة السجون تمنع إدخال الكتب أو الملابس إلا بعد استبدالها بأخرى، كما وتضيّق حركة الأسيرات بوضع الكاميرات في ساحة الفورة المتسببة بحرمانهم من ممارسة الرياضة.

إضافة إلى تعمّد الاحتلال الدائم في تقليص ساعات الفورة، بحيث تستمر لأربع ساعات فقط، مما يعني أن الأسيرات ستعيش (20) ساعة داخل الغرف، ويتاح لها ما تبقى من السويعات في الخارج للطبخ ورؤية الأسيرات والاستحمام، وهي مدة غير كافية أبدًا لا سيما في أوقات الصيف، التي تحتاج فيها الأسيرات للساحة بشدة، وفي المقابل يستقصد الاحتلال إغلاق كافة الأقسام عند الساعة الخامسة.

وفي حضرة الغياب تمسي المشاركة في المناسبات العائلية التي تمرّ في السجن أمنية تنسجها الأسيرة في خيالها وقلبها يتصدّع من الحنين لمعايشتها؛ كإقامة شعائر رمضان بدءًا من إعداد سفرة الإفطار وحتى إحياء ليلة العيد بالتكبيرات، وفي ذلك تقول صفاء: "خلال فترة اعتقالي توفي عمي وكان وقع الخبر حزينًا على قلبي، وفي المقابل عبرت الكثير من الأفراح التي حاولت الحضور فيها بروحي".

وفي حضرة الغياب تمسي المشاركة في المناسبات العائلية التي تمرّ في السجن أمنية تنسجها الأسيرة في خيالها وقلبها يتصدّع من الحنين لمعايشتها؛ كإقامة شعائر رمضان بدءًا من إعداد سفرة الإفطار وحتى إحياء ليلة العيد بالتكبيرات، وفي ذلك تقول صفاء: "خلال فترة اعتقالي توفي عمي وكان وقع الخبر حزينًا على قلبي، وفي المقابل عبرت الكثير من الأفراح التي حاولت الحضور فيها بروحي".

وعن المرض في السجن؛ فهو الضربة الأشد التي يتلقّاها الأسير حيث يتمكّن العجز والخوف من المرء، ويواجه ويلات المماطلة، كما ويقتصر الاحتلال الرحلة العلاجية لكافة الأسرى المرضى على المسكنات دون فحص دقيق لطبيعة إعيائهم.

received_1903419413350416.jpeg
صورة تجمع صفاء أبو سنينة بعائلتها

وفي ذات الإطار أكدت صفاء على أن عملية توزيع المسكنات وأدوية المعدة على الغرف تتم بلا مسؤولية، فجميع العلاجات متشابهة، وتزود الغرف فيها كما الطعام، وهو ما عايشته عيانًا في رحلتها مع آلام المعدة المستمرة، وفي ذلك تقول صفاء: "لم أكن أستطيع الأكل لأيام بسبب أوجاع معدتي، نزل وزني، ألمّ بي الإرهاق، وأصبت بالتشنج في بعض الأحيان، ورغم ذلك كان الإهمال هو أسلوب إدارة السجن في التعامل مع حالتي، ثم وبعد (7) أشهر من المعاناة، نقلت إلى المستشفى لإجراء عملية المنظار، والتي تمت وأنا مقيدة الأيدي والأرجل رغم تخديري الكامل".


اقرأ أيضًا: الشيخ حامد البيتاوي: رفيقة النضال ونصفه الآخر [1]


ولعل ما عمّق الأثر النفسي لشناعة الاعتقال لدى صفاء هو أسر ابنها حمزة عن عمر يناهز (19) عامًا، وهو لا يزال صغيرًا على وحشية التحقيق والتجربة، وحاولت تقويته بالتركيز على أجر الرباط. أما عن التهمة التي استدعت كل هذا العذاب، فقد أوضحت صفاء أنها دارت حول النشاط الاجتماعي والديني في المسجد ومساندتها لأهالي الشهداء وذوي الأسرى، وفي ذلك تقول: "لقد أصبحت المساندة وواجب العزاء تهمة، والانتماء للوطن تهمة، حتى إحياء ليالي رمضان.. تهمة!".

انتزاع الحياة

كيف تحاول الأسيرة الهروب من مرارة الواقع ؟ وماذا عن آليات المطالبة بالحقوق في السجن؟ حول هذا الاستفسار أجابت صفاء بالتأكيد على محاولة الأسيرات صناعة الحياة داخل الأقسام، وذلك باستثمار الأوقات في تحقيق الفائدة، وتوسيع دائرة العلاقات مع الأسيرات من حولها، وتعزيزها بالمشاركة في إنجاز أعمال جماعية كالطبخ، وإقامة الحفلات وإحياءها بالنشيد الجماعي، إضافة إلى عقد عدد من الأنشطة التي من شأنها التخفيف من صعوبة الحياة بالسجن، وتحرص الأسيرات على تنفيذها رغم منع إدارة السجون لها، في سبيل مواجهة المضايقات التي تشمل أدق التفاصيل".

ولكن كيف تحاول الأسيرة الهروب من مرارة الواقع ؟ وماذا عن آليات المطالبة بالحقوق في السجن؟ حول هذا الاستفسار أجابت صفاء بالتأكيد على محاولة الأسيرات صناعة الحياة داخل الأقسام، وذلك باستثمار الأوقات في تحقيق الفائدة، وتوسيع دائرة العلاقات مع الأسيرات من حولها، وتعزيزها بالمشاركة في إنجاز أعمال جماعية كالطبخ، وإقامة الحفلات وإحياءها بالنشيد الجماعي، إضافة إلى عقد عدد من الأنشطة التي من شأنها التخفيف من صعوبة الحياة بالسجن، وتحرص الأسيرات على تنفيذها رغم منع إدارة السجون لها، في سبيل مواجهة المضايقات التي تشمل أدق التفاصيل".

 واستطردت صفاء بقولها: "واحدة من أبرز المواقف التي أتذكرها لأثرها هي تقديم الأسيرات الصغيرات الهدايا للأمهات في القسم بمناسبة يوم الأم، مصحوبة بعبارات أبكتنا جميعًا، حيث حمل الموقف شيء من التعويض المزدوج لغياب أمهاتهم عنهم، وغياب بناتنا عنا".

وعن الشق الآخر من السؤال، فقد أوضحت صفاء بأن مطالب الأسيرات البسيطة، لم تكن لتتحقق إلا بعد خطوات احتجاجية يتضمنها إعادة وجبات الطعام، والاعتصام في الساحة، والامتناع عن الدخول للغرف بالرفض؛ على أمل انتزاع شيء من المطالب القليلة ضمن واجب السجان في حق الأسير، مشيرة إلى أن تبييض السجون أمنية الأسير العالقة حتى بعد حريته.


اقرأ أيضًا: ساجدة أبو الهيجا: سفيرة العائلة وأم أبيها وأمها


وترى صفاء أن ملف الأسرى يفتقد لوجود مؤسسات حيادية تعتني بقصصهم دون إغلاقها عند حدود الخبر، وتتابع ذويهم في ظل شح وسائل التواصل، وتقدم لهم الرعاية النفسية بلا استثناء لا سيما بعد الحرية التي يعاني فيها الأسير من صدمة الحرية كما الأسر؛ فالعودة للحياة بعد توقف الزمن عند حدود المجهول، حالة ليست سهلة تأخذ مجراها من الوقت والجهد لتعافي المرء من تأثيرات الغياب والانفصال عن قيود السجن؛ ابتغاء الاستقرار والتخلص من شعور النقص المتزامن مع الحرية لبقائه عالق بين قيود السجن وأمنية الأسرى.

وفي وصية ختامية وُلدت من علقم التجربة دعت صفاء إلى مساندة الأسرى وذويهم بالدعم المعنوي والنفسي، إلى جانب ضرورة المساندة المادية في بعض الأحيان، لا سيما في ظل سياسة قطع الرواتب، مشيرة إلى أن أبسط المبادرات تثلج صدر الأسير وأهله، وهو ما يوجب على الجميع دعمهم ولفت الانتباه لقضيتهم؛ لأن الاعتقال لم يكن لأنفسهم بقدر ما كان لأجل الجميع.