بنفسج

سراب المثالية: لماذا نسعى إلى الكمال؟

الثلاثاء 16 مايو

جميعنا وبلا استثناء، نبحث دومًا عن المثالية والكمال بكل تفاصيل حياتنا؛ الأزواج يريدون أن يعيشوا حياة زوجية صحية ولا تشوبها الخلافات والأخطاء، والأم تريد أن يحظى أطفالها بعناية فائقة وتتنافس مع زميلاتها في الأمومة بكم اهتمامها ودقتها في تربية صغارها، المدير يريد أن يحبه الموظفون ويحبون العمل معه دون تقصير بالعمل، والموظف يريد أن يرضي مديره ويحصل على صلاحيات ومميزات في عمله لا يسبقه أحد عليها، وهلمّ جرّا. وننسى في زحام الحياة وسرعتها التي لا تنتظر أحدًا أن الكمال لله وحده جل وعلا. فنتسابق مع قطار لن ينتظر أحدًا منا ولن يسبقه أحد منا، وقد قضي كثيرون إلى نحبهم وهم في ذات السباق حتى الرمق الأخير.

لماذا نسعى للكمال، ولماذا لا نتقبل فكرة النقص، وأن الله قد أخذ شيئا ليعوض عنه بآخر، ولم يكن أحد قد نجح بأن يأخذ أي شيء حتى أصغر الأشياء بقوته أو بفطنته، بل كان كل شيء بتوفيق من الله، وبكتاب قد كُتب فيه كل ما سيراه في حياته من خير وشر.

وبذات الأسلوب نساير أنفسنا؛ فتظن الزوجة بأن زوجها الذي يغرقها بكلمات الحب والمديح ليلًا نهارًا هو زوج مثالي، وأن حياتها التي لا تشوبها شائبة هي حياة مثالية قد نجحت في عيشها وفهمها، وتنسى أن الخلافات هي ملح الحياة، وأن من يحب حقًا هو من يعاتب ويدقق ويهتم، لا من يساير ويتغاضى ويتماشى مع ما تريده دومًا.

قد تعود رغبتنا الملحة بالكمال، إلى ذاك الطفل الصغير الذي يعيش بداخل كل منا، ذات الطفل الذي كان يبكي كثيرًا دون ملل أو كلل ليحصل على كل ما يريد ووقتما أراد، ذات الطفل الذي نستطيع أن نخدعه بأن نعطيه شيئًا بديلًا أو مشابهًا لما أراد، لكنه ليس ما أراد حقيقة، فنرضي بتلك الخدعة الصغيرة "الإيجو الطفولي" له.

وبذات الأسلوب نساير أنفسنا؛ فتظن الزوجة بأن زوجها الذي يغرقها بكلمات الحب والمديح ليلًا نهارًا هو زوج مثالي، وأن حياتها التي لا تشوبها شائبة هي حياة مثالية قد نجحت في عيشها وفهمها، وتنسى أن الخلافات هي ملح الحياة، وأن من يحب حقًا هو من يعاتب ويدقق ويهتم، لا من يساير ويتغاضى ويتماشى مع ما تريده دومًا.


اقرأ أيضًا: بوح لا يشفي الغليل


ويظن الزوج أن زوجته التي لا تقول له إلا "حاضر" و"كما تريد"، هي الزوجة التي طالما قد حلم بها، وهي التي قرت عينه بها وبحسن عشرتها، وينسى أنها بذلك لم تحقق المعنى الحقيقي من "المشاركة" التي يقوم عليها الزواج الناجح، فقد قضى حياته يبحث عن زوجته التي كان من المفترض أن تكمله ويكملها ليتجاوزوا معًا مراحل الحياة المختلفة يدًا بيد، إلا أنه في نهاية المطاف قد أفضى به الحال إلى "روبوت" لا يناقش ولا يبت بشيء ولا يبدي رأيه، وحتى لو قال لها أن اللبن أسود، لقالت له نعم هو كذلك!

وفي نفس السياق نرى الأم الدؤوب التي تواصل ليلها مع نهارها، وهي تبحث وتقرأ كيف عليها أن تهتم بطفلها لتنشئه نشأة تجعل منه ذا شأن كبير وكيان تتباهى به يومًا ما، قد فرحت بأن ابنها قد تملّك منه الهدوء وأحاطته العقلانية في التصرف، وكان راكزًا ناضجًا يسخر من كل ما يحيط به، ويستصغره ولا يهتم لما يهتم له أقرانه، فتخدع نفسها بأنها قد أحسنت تربيته، وأنه يسبق سنه وتتملك منها الأسارير، وكأنها قد ملكت الدنيا بما فيها.

وتنسى أن ليس هذا ما كانت تطمح إليه؛ فطفلها لم يعش طفولته كغيره من الأطفال، ولم يكبر بتوازن، بل كبّرته بحجم المسؤولية التي ألقتها على كاهله الصغير، لم يخطئ ليتعلم وستسرقه الحياة يومًا ما فيصحو على أنه لم يعيشها كما كان يجب، ولن يتذوق طعم إصلاح خطأه، فإنه لم يحظ بفرصة أن يخطئ من الأساس.

وتنسى أن ليس هذا ما كانت تطمح إليه؛ فطفلها لم يعش طفولته كغيره من الأطفال، ولم يكبر بتوازن، بل كبّرته بحجم المسؤولية التي ألقتها على كاهله الصغير، لم يخطئ ليتعلم وستسرقه الحياة يومًا ما فيصحو على أنه لم يعيشها كما كان يجب، ولن يتذوق طعم إصلاح خطأه، فإنه لم يحظ بفرصة أن يخطئ من الأساس.

أما المدير المثالي فإنه يرى بنفسه مديرًا لن يتكرر، فها هم موظفوه يعملون بجد واجتهاد ويتسابقون لإرضائه، ولإتمام العمل على أكمل وجه، من المؤكد بنظره أن ما يدفعهم لذلك هو نجاحه ومثاليته في التعامل معهم كمدير، ولولا حزمه معهم وحسن إدارته للأمور، لما نجح في منصبه.


اقرأ أيضًا: عطاء أم تضحية...فرض أم هبة؟


ولكنها لعبة أخرى مشابهة لتلك التي كان يريد الحصول عليها؛ فالموظفون يعملون بجد واجتهاد لأنهم لا يملكون خيارًا آخرَ، كي لا يفقدون وظيفتهم، كما أنهم يجاملونه وكيف لهم أن يحبوه وهو الذي لا يسمح بالإجازات ليحافظ على سيرورة العمل ناسيا صيرورته، ولا يمنح المكافآت كي لا يسبب خللا في الموازنة، ولا يمازحهم أو يلاطفهم كي لا يكسر شوكته وهيبته أمامهم!

وعلى الجهة المقابلة، نرى الموظف يخدع نفسه دومًا عندما يتلقى المديح من مديره على عمله واجتهاده، أو عندما يسرّ له ببعض الأمور في العمل دون باقي زملائه، أو يطلب منه عملًا فوق عمله مدّعيًا أنه لا يثق بغيره في أن يقوم به، فهو يرى فيه الموظف المثالي الذي يستطيع الاعتماد عليه بكل شيء ووقتما وكيفما أراد. وينسى أن من حقوقه كموظف أن لا يتقلد أعباء فوق أعبائه، وأن يحظى براحة وإجازة ليستطيع أن يتفانى في عمله، وأن الكلمات والمديح لا تغني عن المكافآت التي استحقها بجدارته وإخلاصه.

وهكذا لا ننفك في أن نخدع أنفسنا بالحياة المثالية التي نتهافت عليها وتخدعنا أضواؤها التي في الحقيقة هي سراب محقق، لن نصل في النهاية لشيء بل قد نفقد الكثير في الطريق، وما يخيف هو أننا قد نفقد أنفسنا ولا نلاحظ ذلك، فقد أعمت خدعة المثالية عيوننا عن كل ما هو سواها. وكمفارقة؛ إني أرى بأن المثالية الحقيقية هي أن نتقبل فكرة "اللامثالية"، وأن نعترف بأننا بشر، نخطئ ونسقط مرارًا وتكرارًا، نقاوم رغباتنا ونجاهد أنفسنا لكننا لا ننجح دومًا.

كما أننا ننسى بأن المثالية هي أمر نسبي، نختلف فيه كلّ حسب منظوره الشخصي، فما أراه مثالي قد تراه صديقتي المقربة سيء وناقص، وما أراه جميل قد تراه أختي قبيحا وغير متناسق. هي دائرة لا تنتهي، ندور بها ونندفع إليها منذ أن نتنفس أنفاسنا الأولى على عتبات الحياة، نندفع بكلّنا، فنرهق أرواحنا ونتعب أنفاسنا، وقد نعادي أحبتنا بسببها.


اقرأ أيضًا: كيف يجعلنا اللطف أكثر سعادة؟


والحقيقة المطلقة هنا أننا نقارع الحياة بطفولة بريئة، ندق الأبواب بطريقتنا التي قد تكون في كثير من الأحيان منقوصة، وغير مجدية، فلا تفتح الأبواب ونبكي على أطلالها يائسين بائسين وننسى أن رب الأبواب قد جعل لنا منها الكثير، وأن الوقت الذي نمضيه خلف أحدها ونحن ننتظر بلا فائدة، كان من الأجدر بنا أن نمضيه في البحث عن باب آخر قد يكون خلفه الخير الكثير حتى ولو لم يكن كما أردناه، حتى لو لم يكن مثاليًا كالصورة التي قد رسمناها في مخيّلاتنا، فقد تكون الصورة نفسها تنتقص للكثير، وقد تكون في غالب الأحيان غير مثالية.