بنفسج

"ميار وعلي" أطفال جنين غدرت بهم "إسرائيل" في غزة

الأربعاء 10 مايو

ملأت البهجة قلب الصغير علي عز الدين ذي السبعة أعوام، بعدما أبلغ أصدقاءه في الصف الثاني الابتدائي أنه ينوي أخيرًا الذهاب برفقتهم إلى رحلة المدرسة، المقرر إطلاقها في صباح يوم الثلاثاء، الخامس من شهر أيار/مايو الجاري. محاولات متكررة سعت لها المعلمة "مروة نعيم" لإقناع طالبها النجيب "علي" بالذهاب إلى الرحلة المدرسية، لكنه في كل مرة كان يرد عليها بالرفض المطلق حتى يغتنم فرصة قضاء وقت إضافي برفقة والده الذي ينوي السفر صباحًا إلى مصر.

عصفور في الجنة

 
ملأت البهجة قلب الصغير علي عز الدين ذي السبعة أعوام، بعدما أبلغ أصدقاءه في الصف الثاني الابتدائي أنه ينوي أخيرًا الذهاب برفقتهم إلى رحلة المدرسة المقرر إطلاقها الخامس من شهر أيار/مايو الجاري. محاولات متكررة سعت لها المعلمة "مروة نعيم" لإقناع طالبها  "علي" بالذهاب إلى الرحلة المدرسية، لكنه في كل مرة كان يرد عليها بالرفض المطلق، حتى يغتنم فرصة قضاء وقت إضافي برفقة والده الذي ينوي السفر صباحًا إلى مصر. 

المفاجأة أن "علي" أحضر رسوم الرحلة إلى معلمته بعد أن أبلى صديقه المقرب من قلبه محمد مشتهى بلاءً حسناً في إقناعه بقوله: "إذا ما إجيت على الرحلة كل الصف ما بده يروح وأنا كمان". ربط "علي" أحزمة السعادة بعد أن جهز حاجياته للرحلة الماتعة، وأخذه عقله في تخيل صباحه الخالي من التكاليف المدرسية نحو فسحة من اللعب المفتوح، وغط في نوم عميق إلى جانب كرة القدم التي قدمها على ألعابه المفضلة، وملابس المدرسة وحقيبة مليئة بالحلوى والسكاكر والعصير بدلاً من الكتب.

وكذلك فعلت شقيقته صاحبة الشعر الطويل "ميار"، نامت حتى يطوي الليل ساعاته مسرعًا نحو صباح تشرق فيه بشعرها المسدل على ظهرها. أسلفت ميار نومها بحكايا مبهجة بادلت أطرافها مع أخيها الأصغر "علي"، "تخيّل يا علي نطلع رحلة المرة الجاية وتكون الرحلة على جنين ونزور دار سيدو هناك وننبسط؟"، أخبرت ميار أخاها الصغير بالسر والحلم والأمل الذي يكبر في أعماقها يوماً بعد يوم.


اقرأ أيضًا: الشهيدان الزبدة: كواليس خلف الشخصية العسكرية


"ميار وعلي" طفلان ولدا في غزة بعدما أفرج الاحتلال الإسرائيلي عن والدهما الأسير المحرر طارق عز الدين مبعداً إلى القطاع خلال صفقة تبادل الأسرى "وفاء الأحرار" عام 2010، وكان لهما شقيقان ولدا قبل اعتقاله في جنين، وآخر مولوداً حديث الولادة.

مضى الليل وانتهت الساعات الأولى منه، حتى توقف الزمن بعد أن أشارت عقارب الساعة نحو الثانية فجراً، وكانت المفاجأة قد تفجرت في الطابق الأخير من البناية العالية وسط قطاع غزة، والتي يسكنها الأسير المحرر طارق عز الدين، فكانت أولى الضربات الإسرائيلية قد نالها الشقيقان "علي وميار" برفقة والدهم فقضوا شهداء.

صدمة المحبين

FB_IMG_1683704138185.jpg
الشهيدان ميار وعلي برفقة شقيقهم الصغير

"مروة نعيم" معلمة الطالب المتفوق علي عز الدين، تقول لـ"بنفسج": "الصدمة كبيرة جداً على قلوبنا، وصديقه محمد أكثرنا صدمة برحيل صديقه المقرب بهذه السرعة المذهلة، بعدما حاول بكل الطرق أن يجعل علي رفيقاً في رحلته المدرسية".

"لم يشرق الصباح بعد، فقد أظلمت الدنيا بخبر علي، وتحوّل المرح إلى سيل من البكاء وغيمة مقيمة مشبعة بالأحزان على أطفال تكررت عليهم مشاهد الوداع وألفوا الفراق جيداً، لكونهم أبناء شهداء وأسرى، أو هم ناجون وحيدون من حروب مضت"، تقول المعلمة مروة.

تخبرنا المعلمة "نعيم" بأن عدد أبناء صفها يبلغ 22 طالباً، وباستشهاد علي سيبقى الرقمُ ثابتاً على سبورة الصف اليومية، فـ علي مثل أبنائها الطلاب لا زال حياً لم يمت. وأما عن واحدة من أكثر محاسن "علي" لفتاً للانتباه، فقد كرّس جل اهتمامه بزميل له في الصف يعاني من "التوحد"، بعدما تعاقد مع صديقه محمد على مساعدته في كل صغيرة وكبيرة يحتاجها جل أوقات الدوام.

يقتني "علي" ساعة يد تقيّد معصمه الصغير، يتفقد الوقت بين حصة وأخرى وكأنه في انتظار موعد ما، ولا يتوقف عن مطالبة الجميع بمناداته بـ"المهندس"، متخذاً والده قدوة أولى في حياته، يبادر في الإجابة على الأسئلة الصعبة ولا يكترث لتلك التي تعد سهلة.

معلمته "مروة" ذرفت الدموع ولم تتوقف عن ذلك لحظة واحدة وهي تعود بذاكرتها إلى إجابات "علي" العبقرية وتفكيره المختلف ورجولته المعلنة ولكنته التي تنتمي لمدينة جنين الممتلئة بـ"الكاف"، حتى أنها التفتت إلى هدوئه على غير العادة في الأيام الأخيرة وكأنه يتجهز للرحيل.

تميّز "علي" بالذكاء الذي يفوق عمره بكثير، فقد كان يفضل صناعة المجسمات الصغيرة من بقايا الأشياء ليُخرج إنجازاً تتعجب منه معلمته، وكذا يليق بأحد مواده العلمية، مضيفة بأنها كانت تلحظ اختفاءه خلف مباني المدرسة منشغلاً بطي أوراق ملونة وأخرى استعارها من مقصف المدرسة.
 

الصغيرة ميار

تصف المعلمة طالبتها النجيبة "ميار" بأنها مختلفة بكل المقاييس، لها وجه وردي وشعر ذهبي طويل ولسان دمث يخطف قلوب المعلمات وزميلاتها في المدرسة، تظهر كل صباح كفراشة مفعمة بالحب في كل استعراض تعده معلمتها كواحدة من أبهى البنات من بين زميلاتها.
 
لم تتمالك المعلمة الأساسية لصف "ميار" دموعها وهي تقول، "عرفت حبيبتي ميار أني أمارس شغفي بالتصوير والنشر على منصتي الخاصة بالانستجرام، ما جعلها تقفز أمامي كفراشة جميلة أمام عدسة هاتفي لأوثق تسريحة شعرها الجديدة.

وأما عن معلمة الشهيدة "ميار" سماح جعفر، كشفت لـنا عن مفاجأة تراها غريبة في توقيتها، فقد تم تصوير ميار فيديو يوثق أعمالها اليومية في البيت، وتظهر فيه وهي تتوضأ لتقيم صلاتها، ومن ثم تنتقل إلى أمها لتصفف لها شعرها، ومن ثم تختم الفيديو وهي تلوّح بيدها موعدة أمها وهي خارجة من البيت نحو المدرسة في مشهد تمثيلي توثيقي طلبته المدرسة كنشاط.

تقول معلمة اللغة العربية ومربية الصف سماح جعفر بأن الفيديو تخلله بعض التعديل حتى غاب في أدراج المدرسة منسياً دون نشره على الصفحة، ولكنه كان مناسباً جداً لينشر في وقت أعلن فيه عن استشهاد الطالبة المؤدبة "ميار".

تصف المعلمة طالبتها النجيبة "ميار" بأنها مختلفة بكل المقاييس، لها وجه وردي وشعر ذهبي طويل ولسان دمث يخطف قلوب المعلمات وزميلاتها في المدرسة، تظهر كل صباح كفراشة مفعمة بالحب في كل استعراض تعده معلمتها كواحدة من أبهى البنات من بين زميلاتها.

لم تتمالك المعلمة الأساسية لصف "ميار" دموعها وهي تقول، "عرفت حبيبتي ميار أني أمارس شغفي بالتصوير والنشر على منصتي الخاصة بالانستجرام، ما جعلها تقفز أمامي كفراشة جميلة أمام عدسة هاتفي لأوثق تسريحة شعرها الجديدة، لتخبرها معلمتها في كل مرة "خبي هالشعرات الحلوين، والله أنا بخاف عليهم"، مضيفة أنها لن تنصفها مهما تحدثت عن محاسنها.


اقرأ أيضًا: وحش بقدم واحدة: حديث في الحرب والحياة


تجمُع المعلمتان على أن رحيل الأخوان من مدرسة أوائل وقادة الأساسية لهي فاجعة أصابت طلاب المدرسة بالصدمة والمعلمات كذلك، فكل واحدة أخبرتنا على حدا أنها ستكون ضعيفة أمام مقعد "ميار" الخالي منها، وأمام زملاء "علي" الذين أحبوه وارتبطوا بحضوره دون غياب.

قضى الطفلان شهدين بعدما باغت الاحتلال شقتهما السكنية منتصف ليل التاسع من شهر أيار/مايو، عدا عن ارتقاء أربعة عشر شهيداً دفعة واحدة معظمهم من الأطفال والنساء وآبائهم.