بنفسج

"صغير ما بنترك بدون إمه"

الأربعاء 17 مايو

يزاود البعض على أمومة الأنثى ويصر على ذلك، بل ويشعرها بالذنب الشديد إن هي هرولت قليلًا لمساحة خاصة تكاد تكون من أدنى حقوقها، لا تلوموا الأمهات لأن حياتهن مليئة بالضغط الجسدي والإنهاك النفسي والأحلام المؤجلة والقصص التي لا يبوح بها سوى هالات السهر حول عينيها، أو دموع تنساب بسرية على خديها في تلافيف السهر الطويل مع طفلها، كل ذلك لأن قلب الأم يجتمع فيه الصدق مع الحب المطلق لروح كانت يوما علقة متشبثة في رحمها فكيف تخونها؟

كوني الخالة الأصغر سنًا بين أخواتي، فإن ذلك جعلني أعايش تفاصيل معاناة يومية متكررة تمر بها الأم، قد نستخف بها أو نزهد، لكنها والله جهاد تستحق أن تقلد الأم معه وسام النصر في كل يوم مثخن بالجراح، النفسية والتعب الجسدي المفرط في محطات الأمومة الأولى.

من ذلك أنني رافقت أختي يومًا في مشوار لها إلى السوق، وإن لذهاب الأم إلى السوق مع طفل صغير لهو معركة وعناء مجهد، ظل ابن أختي مرافقًا لها لا يخرج من حضنها، وإن أردت أن أحمله انفجر بالبكاء، ذهبنا لنأخذ استراحة في المسجد حتى أخذته سنة من النوم، فوضعته في حضني لأريحها قليلًا وتذهب هي لقضاء حاجة لها.

جلست أتأمل المكان الذي كنا نتحلق فيه في المسجد وقت دروس العلم، وخلو المسجد من المصلين والجالسين والمارين فيه في ظل أزمة كورونا، حتى اختطفتني ململته من سطوة ما أنا فيه من ألم خلو المكان والمسجد برمته، فتح عينيه فجأة، فأدركت أن معركة من البكاء الشديد ستبدأ، وبدأت بالفعل، رحت أسعى به يمينًا ويسارًا في نواحي المسجد، وتارة أقف به على النافذة، وتارة أحاول التحدث إليه، لكن للأسف كل المحاولات باءت بالفشل، فهو متعلق بأختي بشدة، ومجرد ابتعادها عنه أمتارًا يشعره بالفزع، فما بالك بمكان جديد يستيقظ فجأة ولا يجدها!

عادت أختي واحتضنته مباشرة فجفت دموعه وسكنت جوارحه، ثم بدأت تلوم بنفسها أن لم تركته وحيدًا معي، وبدأت تؤكد تلك الجملة مرارًا "هذه أول مرة أتركه فيه مع أحد "، مع أن الوقت كان قصيرًا، فأخبرتها أنه من حقها أن تحظى بزيارة خاطفة لدقائق وحدها. لكنني أدركت ونحن خارجات من المسجد أن جرعة من اللوم تعرضت لها أختي من إحدى نساء المسجد وهي صاعدة إليه، أن لم تركت طفلها معي وذهبت، قائلة لها: " طفلك صغير بنتركش بدون إمه".

يزاود البعض على أمومة الأنثى ويصر على ذلك، بل ويشعرها بالذنب الشديد إن هي هرولت قليلًا لمساحة خاصة تكاد تكون من أدنى حقوقها، لا تلوموا الأمهات لأن حياتهن مليئة بالضغط الجسدي والإنهاك النفسي والأحلام المؤجلة والقصص التي لا يبوح بها سوى هالات السهر حول عينيها، أو دموع تنساب بسرية على خديها في تلافيف السهر الطويل مع طفلها، كل ذلك لأن قلب الأم يجتمع فيه الصدق مع الحب المطلق لروح كانت يوما علقة متشبثة في رحمها فكيف تخونها؟

لذلك إما أن تقولوا للأمهات خيرًا أو تصمتوا، ولا تشعروهن أنهن بعن عهد الأمومة أو وضعنها في موضع مساومة عليها بسبب سوء تعقل وضيق صدر، كان على الجميع أن يعلم أن الأم كتلة مختلطة من المشاعر وليس قطعًا من آلات مركبة لا تعطب ولا تتعب، أي أنها بكل الأحوال ليست روبوتًا يتحرك ولا يشعر، ويجهد ولا يتألم، قد تقصر فتدارك، تغضب وتصرخ وسرعان ما تحتضن وتحن وتؤوب أوبة الحنون، لا مثالية في عالم الأمومة.