بنفسج

أم أمجد العزمي: حين تلتقي الأرواح رغمًا عن الجثامين المحتجزة

الخميس 28 سبتمبر

بالأمس، فجر الأربعاء، 27 أيلول/ سبتمبر 2023، رحلت الأم المناضلة، منال منصور، من مدينة جنين، وكان الحد الذي يفصلها للقاء ابنها ثلاثة أعوام، إذ استشهد البطل المشتبك أمجد العزمي، في معارك مخيم جنين برفقة ثلاثة من أصدقائة يوم 16 آب/ أغسطس 2021. كرست الأم حياتها لاسترجاع جسد ابنها المسروق، لاحتضانه وتدفئته، وربما أكثر من ذلك.

أم أمجد رافقت ابنها في حياته وذكرياته، ومقاومته، إذ كانت تخبئ المقاتلين، وتساعدهم أنا استطاعت. وبقيت كذلك في معارك إعادة الجثمانين، تقف صامدة مع صورة ابنها مرتديه علم فلسطين، رابطة الجأش، متحدثة، قوية، صامدة.

وإن المعارك الفلسطينية ثلاث: معركتك في الميدان، ومعركتك إذا أسرت، ومعركة جسدك إذا استُشهدت. ولا تقتصر هذه المعارك على الفاعلين فيها: مقاوم، أسير، شهيد. بل لأهله وذويه، وأهل بلدته، ويلتحم الجسد الفلسطيني واحدًا في كل تفاصيل العيش والمقاومة والبقاء، وهكذا تصبح المقاومة يومية كذلك.

وإن المعارك الفلسطينية ثلاث: معركتك في الميدان، ومعركتك إذا أسرت، ومعركة جسدك إذا استُشهدت. ولا تقتصر هذه المعارك على الفاعلين فيها: مقاوم، أسير، شهيد. بل لأهله وذويه، وأهل بلدته، ويلتحم الجسد الفلسطيني واحدًا في كل تفاصيل العيش والمقاومة والبقاء، وهكذا تصبح المقاومة يومية كذلك. فما دمت تعيش في فلسطين، وتطوع شكل الحياة للصمود فيها فأنت تقاوم.

وهذا ما طوعت منال منصور (51 عامًا) حياتها لأجله قبل وبعد ممات ابنها. ينطبق ذلك غالبًا على أمهات الشهداء وزوجاتهم، فهن فاعلات بقدر ما يفعل المقاومين في المعركة، ليس ذلك في بعد عاطفي فحسب، وإنما يقدن دفة لا يمكن أن يسير المركب من دونها. أم أمجد العزمي من نساء رابطة أمهات الشهداء في مناطق الشمال، وتحديدًا في جنين، أسست هذه الرابطة بمبادرة فردية من هؤلاء النسوة، يستقبلن، ويودعن، ويعزين، ويواسين، ويخرجن للتحدث إلى وسائل الإعلام.


اقرأ أيضًا: رابطة أمهات شهداء فلسطين: من جرحك تصنع أغنية


بل إن أم أمجد، الحاصلة على بكالوريس اللغة الإنجليزية من جامعة القدس المفتوحة، والتي تعمل مدرسة، كانت معركتها أكبر من ذلك، إذ لم يكن عليها الحزن فقط، أو الشعور بالفخر كما تفعل أمهات الشهداء، بل كان عليها استرجاع جسد ابنها، لتودعه، وتدفنه. وأم أمجد لم تجعل هذا مطلبًا فرديًا، بل قضية الجثامين المحتجتزة قضيتها، تنافح من أجلها، وتتظاهر وتعتصم وتتوجه للمؤسسات الحقوقية والإنسانية.

ظهرت فيها أم أمجد في عدد من المقابلات، في مناسبات متعددة، أهمها: استقبال وفود أهالي الشهداء في مخيم جنين، والاعتصامات المختلفة للطالبة باسترجاع الجثامين المسروقة، أو مقابلات خاصة تتحدث فيها عن أموتها، وتفاصيل حياتها مع أمجد، كم كان حنونًا دافئًا محبًا. في إحدى مقابلاتها ظهرت أم أمجد وهي تحتضن قميص أمجد طوال المقابلة وتشتمه.

 لقد بقي استشهاده ناقصًا، ينقص هذا البطل إكليل أمه، وزغردوتها، وحضنها ولو لمرة أخيرة. كنت أعتقد أنها ستصمد حتى هذه الللحظة، أو أن جهادها هذا لاسترجاع جسد ابنها هو دافع للحياة، البقاء شامخة حتى موعد اللقاء. ولكنني تذكرت يومًا عندما سألت أم شهيد عن الحزن، عن حقيقة هذا الحزن من بعد رحيل ابنها، قالت لي ما لم أستطع احتماله، أو الإحساس به بالفعل، قالت: أنا جثة تتنفس، لا حياة، ولا روح، إلى حين موعد اللقاء!


اقرأ أيضًا: يسرى العكلوك: عن رسائل الحُبِّ التي خبأها أسامة الزبدة


لا حزن يحمله المرء فوق ذلك، لا ألم يستنفد الروح فوق ذلك، وهي تدعو الله: اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. وأي طاقة يا أم أمجد، وأي طاقة أيتها الأمهات! والصبر طاقة أيضًا، تذهب مع الشوق، مع الحزن، مع الذكريات، ووحده من يعلم أوجاعنا وكم نستطيع احتمالها، فيختار ما ليس لنا به علم.

اختار رب الحزن، ورب الصبر، ورب الجسد، لأم أمجد أن ترحل إلى جانب ابنها، تحتضنه هناك أنا شاءت، حيث لا نصب أو تعب. ولا معارك هناك يا أم أمجد، بل نعيم مقيم، فهنيئًا لك!