كم كان القرآن يرعى القلوب إذ أوشكت على الهوان، يُنتشل به المرء من درك معاناته، من حلك ظلام أيامه..في أيَّامٍ كانت صفوة الحفاظ في غزَّة صحوةً لشباب الأمَّة، هذه المدينة التي تعيش حصارًا وإبادةً وهدمًا للعمران والأرواح، يلفظ أبناؤها أنفاسهم الأخيرة وهم يسردون القرآن الكريم ويحفظونه نصًّا وعملًا..
السرد القرآني الأول في سجن الدامون للأسيرات. في فلسطين، الشواهد كثيرة والعبرةُ فوزٌ لمن أدركها. الأسيرة المحررة وطالبة أصول الدين فرعي لغة عربية في جامعة النجاح الوطنية علا جودة من بلدة قبلان شرق مدينة نابلس، تروي لِبنفسج قصَّتها باعتبارها أوَّلِ أسيرةٍ تسرد القرآن الكريم على جلسةٍ واحدة في سجن الدامون.
علا التي بدأت مسيرتها مع القرآن بعمرٍ صغير، فقد حفظته وثبتته عندما كان عمرها 17 عامًا، ومن ثم التحقت بملتقى القرآن في جامعة النجاح، وأتمت ختمها الثاني للقرآن في عام 2022، وكانت تخطط وتعد لسرده كاملًا في سرد صفوة الحفاظ الذي كان سيعقد في شهر 7 من عام 2024، لكن الاحتلال قرر انتزاعها من رحلتها باعتقالٍ وحشي بتاريخ 11/6/2024 أي قبل أقل من شهر على موعد السرد.
محطات من اعتقال عُلا
عند محاورتي لها، كان جليًا أن أثر لحظات الاعتقال ما زال حاضرًا، فقد اقتحموا بيتها مشاةً الساعة الثانية فجرًا، فوجئت علا بوجودهم في بيتها، واستيقظت حسب وصفها "فزعة وخائفة". تقول عن هذه اللحظة: "لم يخطر لي أبدًا أنهم جاؤوا لاعتقالي، ولم أضع هذا الاحتمال منذ بداية الحرب حتى. كل ما كنت أخاف منه أنهم عادوا لاعتقال والدي، علمًا بأنه كان قد أفرج عنه قبل ١٨ يومًا من اعتقالي بعد أن قضى ٧ أشهر ونصف في سجون الاحتلال".
أُصيبت علا وعائلتها بالصدمة عندما أخبروهم أن علا ستقاد للاعتقال، وبعد الكثير من الأسئلة عن سبب الاعتقال دون جدوى، أخبرهم الضابط أنها ستُحال للتحقيق لمدة ساعتين وستعود لبيتها. ارتدت ملابسها سريعًا ولم تستطع توديع أهلها حتى، عصبوا عينيها وكبلوا يديها منذ لحظة الاعتقال، دون أن تعرف وجهةً.
اقرأ أيضًا: الأسيرة تسنيم عودة: اعتقال بسبب صورة والدها
بحسب الوقت تقدِّر علا أنهم وضعوها في معسكر حوَّارة حتى الساعة السابعة صباحًا، ومن ثم نقلوها إلى مركز تحقيق سالم لمدة 3 ساعات، وآخر المحطات قبل الدامون كانت في سجن الشارون سيء السمعة، حيث قضت علا فيه مدة 5 أيَّامٍ وحيدةً لا تعرف مصيرها ولا تعلم ما ينتظرها.
وصفت علا أيامها سجن هاشرون قائلة: "أكاد أجزم أنها من أصعب وأمرّ أيام الاعتقال كله، مكثت معي سيدة في أول يوم لي هناك وقضيت الأربعة أيام لوحدي. مصير مجهول ولا أعرف ما هو المكان الذي أنا فيه، أكل رديء الطعم والراحة والشكل، كنت أتناول بعض اللقيمات أسد جوعي بها فقط، وأذكر أنني خسرت 2 كيلو جرام من وزني في هذه الأيام القليلة".
عيد الأضحى في بوسطة نقل الأسرى
في صباح عيد الأضحى وضعت علا في البوسطة، لتنقل إلى سجن الدامون، كانت هذه المرحلة تحمل مشاعر عدَّة، أنها ستذهب عند بقية الأسيرات في سجن الدامون وتغادر زنزانة الشارون المؤذية الموحشة، وفي نفس الوقت تستحضر أهلها وحالهم في أوَّل أيام العيد. وصلت إلى سجن الدامون الساعة الثالثة عصرًا، واستقبلها الأسيرات بحفاوةٍ وحنان، ومجرد أن رأتهن انهمرت علا بالبكاء وأخذنها بالأحضان.
مع صعوبة فكرة اعتقال النساء والفتيات، وتعمد الاحتلال استغلال هذه الصعوبة. إلَّا أن تجارب الأسيرات التي ننقلها في بنفسج، تشير أنَّ رحلة اعتقالهن تهون لما يملكنه من عطفٍ وحنانٍ على بعضهن. عبَّرت علا عن ذلك فقالت: "الدامون بكل ما فيه من سوء وبشهادة باقي الأسيرات، هو مكان نهون فيه على بعضنا البعض بعد أن نكون قد قضينا ساعات طويلة من الوحدة والبكاء". بعد التحقيق مع عُلا عن منشوراتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي، عرضت على المحكمة ورفع بحقها لائحة اتهامٍ تفيد بالتحريض ودعم منظمة إرهابية، لم يتم توجيه أي حكم بحقها وكان قرار آخر محكمة لها تأجيل الجلسة.
اقرأ أيضًا: أم الشهداء.. "حنين جابر" تجابة السجن والسرطان
لم يكن السجن عائقًا أمام عُلا في مسيرتها القرآنية، فهي تؤمن أن قراءته وحفظه وتثبيته لا يرتبطان بمكان أو زمان، بل إن إيمانها يدعوها للتمسك به أكثر خلال محنتها وأسرها، ومن أول أيام اعتقالها عكفت علا على مصحفها تلاوةً ومراجعةً له وقالت: "والله لم يكن لي أنيسًا بين تلك الجدران الباردة غيره وكنت أرى أثر مصاحبتي له في كل وقت وحين".
في شهر تشرين الثاني من عام 2024، كانت علا في "الفورة" والتي كانت مدتها ساعة واحدة فقط للاستحمام وغسل الملابس واللقاء ببقية الأسيرات عبر شبك الباب، وعندما كانت تتجول وتطمئن على الأسيرات، تذكرت سرد الصفوة الذي كان مقررًا أن يكون في شهر تموز/ يوليو الماضي، فسألت أسيرة أخرى من نابلس عن هذا السرد، كانت قد اعتقلت بعد موعده المقرر، فأخبرتها أنه تمَّ وكان رائعًا يزدحم بالمشاركين وملأت أخباره وآثاره الصحف والمواقع بنشرهم عنه.
قرار سرد القرآن
قالت عُلا: "بعدما علمت أن السرد تم، عدت إلى غرفتي وقلبي يعتصر ألمًا، وجلست أستذكر شوقي لذلك اليوم وإعدادي له، تذكرت حلمي بأن أسرد القرآن على جلسة واحدة منذ أن رأيت أجواء صفوة الحفاظ في غزة!" غزَّة التي مهدت لبداياتٍ كثيرة، لصحواتٍ عدَّة! حتى أن الأسير في زنزانته يحلم بإنجازات أهلها، ويُلهم بعظيم صنيعهم..
أكملت علا: "استجمعت نفسي وأخبرتها بأن الله أذن بخطة أخرى غير التي رسمتها وأقدار الله دائمًا خير، فالله قد قال في محكم كتابه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، حمدت الله وشكرته ورضيت أشد الرضا عن كل ما حل بي وقررت أن أتحدّى كل الظروف والمعيقات وأن أن أبدأ بالتجهيز لسرد القرآن على جلسة واحدة في زنازين الدّامون!".
لم تخبر عُلا أي من صديقاتها بالقرار إلا قبل السرد بأيام قليلة، فقد كانت تخاف الكسل والبطئ في الإنجاز، وبدأت بمراجعته وتثبيته استعدادًا لسرده، ولم يأخذ منها وقتًا طويلاً لأنها لم تترك مراجعته وتثبيته يومًا منذ بداية اعتقالها، لذا كان سهلًا وميسرًا بفضل الله. بعد ذلك وقبل أيام قليلة من موعد السرد، أخبرت الأسيرات أنها عزمت على السرد وطلبت منهن أن يوزعن الأجزاء بينهن حتى تسرده عليهن، كان وقع القرار على الأسيرات عظيمًا ومحفزًا لهن! وتسابقن على توزيع الأجزاء بينهن..
رغم كل الأسى استطعت أن أدخل السرور والبهجة على قلوبهن وأن أذكرهن بأننا نستطيع أن نصنع إنجازاتنا رغم القيد والعتمة. وفوجئت "بالكيكة" التي صنعتها الأسيرات لي من كمية المربى واللبن والخبز الشحيحة التي تأتيتنا في كل صباح، وهذا كان يعتبر بحد ذاته تضحية في أيامِ الجوع!
“يوم الأربعاء بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، صليت الفجر ودعوت الله أن ييسر أمري ويشرح صدري وابتدأتُ بالسرد بعد الصلاة مباشرة، تناوب الأسيرات على التسميع، استغرق السرد مني أكثر مما توقعت بسبب قمعة حدثت للأسيرات في ذلك اليوم، ولم توقفني هذه القمعة عن المواصلة، رغم الظروف السيئة والقهر الذي مررت به في ذلك اليوم إلا أنني أصررت على إكمال السرد.
وفي آخر جزء جلست الأسيرات في غرفتي على الأبراش وفتحن المصاحف واشتركن كلهن في تسميعه لي، كانت لحظات الانتهاء من السرد مهيبة جدًا ولم أكن أتخيل ذلك أبدًا، أنهيت بسورة الناس ونهضن الأسيرات واحتضنني كلهن ودموع الفرحة تغمرني وتغمرهن. رغم كل الأسى استطعت أن أدخل السرور والبهجة على قلوبهن وأن أذكرهن بأننا نستطيع أن نصنع إنجازاتنا رغم القيد والعتمة. وفوجئت "بالكيكة" التي صنعتها الأسيرات لي من كمية المربى واللبن والخبز الشحيحة التي تأتيتنا في كل صباح، وهذا كان يعتبر بحد ذاته تضحية في أيامِ الجوع! لكنها الأخوة بمعانيها تصنع المستحيلات في السجن".
"يوم الحرية"
عُلا المميزة التي صنعت بمعية الله يومًا مميزًا باعتبارها أول ساردة للقرآن كاملًا في جلسة واحدة، كانت تتوق للقاء أهلها ومشاركتهم الإنجاز، لكنها صبرت وكانت تعلم أن هناك من يعمل لأجل حريتها.
وبفضل الله أُفرج عنها برفقة أكثر من 70 أسيرة في دفعة من دفع صفقة طوفان الأحرار، وصفت علا لحظاتها الأولى من الحرية بأنها مميزة، لا شيء في ذلك اليوم كان يعادل فرحتها، فقد تذوقت طعم الحرية وعرفت معنى أن تحرم من أهلك شهورًا وأيامًا وأنت تعيش في مقابر لا تعرف سير الحياة خارجها، لا تعرف حالًا لأهلك وأحبائك.
ختمت عُلا: "نسينا طعم المرارة ونسينا الألم وليالي البكاء الطويلة وفرحنا بعوض الله وكرمه، احتضنت أهلي وبكيت كما لم أبك من قبل، عرفت من بكاء أهلي كم عانوا في غيابي وكم كان شاقّ عليهم غياب ابنتهم عنهم لأشهر عند الاحتلال، وعرفت أكثر عن صبرهم وتحملهم لهذا الغياب، نحمد الله ونشكره على ما منه علينا من الحرية، أسأل الله كما أكرمنا أن يكرم من هم خلفنا في زنازين الظلم". نسأل الله فرجًا عاجلًا لكل الأسرى، وأن يسدد السواعد المتوضئة، التي أنجزت لأمّتنا الكثير من صحوةٍ وحرية.