بنفسج

اللقاء الأول في هشارون

الخميس 18 يونيو

عشتُ مع إسراء في سجن هشارون شهرًا تقريبًا في نفس الغرفة، بعد شهر من العزل والتحقيق، نُقلت من مركز تحقيق المسكوبية في القدس إلى سجن هشارون قرب يافا، فتحت السجانة باب الغرفة رقم 17 في القسم، وإذا بي وجهًا لوجه أمام 6 أسيرات، بعد شهر لم أرَ فيه سوى وجوه المحققين!

كنت ظامئة لرؤية الناس والحديث في أي أمر مهما كان بسيطًا. بدأت بالتسليم عليهن واحدة في إثر الأخرى حتى وصلت إلى إسراء!مددت يدي مُصافحةً، قالت لي شاويش الغرفة أم موسى: "هذي إسراء جعابيص"، كانت تجلس على سريرها، أمامها طاولة صغيرة تتناثر عليها حبات الخزر الملون، ومجموعة أشغال يدوية. لأول وهلة لم يخطر لي أن هذه المشغولات هي ما أنتجته إسراء بيديها مبتورة الأصابع!

ليس فقط أنه لم يخطر لي، بل استبعدت ذلك إلى حد الاستحالة. اليدان اللتان ضجت بصورهما وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، كانتا جزءًا حاضرًا يوميًا في حياتي طيلة شهر كامل، لهذا السبب تحديدًا تبدو الكتابة صعبة، حدثًا ثقيلًا وألمًا إنسانيًا تعجز عنه اللغة مهما بدت متسعة.

ث7.png

بعد نهار كامل ضج فيه الناس بالحديث عن إسراء، تجرأت أخيرًا أن أسمع كلماتها في المحكمة .شعرت أن جبروتًا طاغيًا يطبق قضبته على قلبي فيسحقه سحقًا أو لربما ذبح بنصل سكينٍ بالٍ، فلا حياة ولا موت. سريري كان فوق سرير إسراء، أمضي نهاري وأنا أدفن رأسي في الكتب هربًا من التفكير المستنزف فيما ينتظرني، ونهار إسراء يمضي وهي تعد الهدايا لأسرتها.

عرفت أسماء العائلة والأصدقاء والأحبة من المشغولات التي أعدتها لهم، مكتوب على كل منها اسم صاحبه تطريزًا. ومن يعرف لو قليلًا عن التطريز يدرك مدى اعتماده الدقيق على حركة الأصابع. كنتُ أسترق النظر لها بين الحين والآخر وأفكر: كيف تستطيع التحكم بالإبرة؟ ويدهمني خيال زرعته في رأسي كتب علم التشريح أنها قد تخدش جلدها الرقيق للغاية بسبب الحروق، فينزف.

أنظر لها لأطمئن أن هذا القلق مجرد وسواس، فأجدها منغمسة للغاية فيما تعمل بكل هدوء وحب، فأعود للقراءة.  تناديني بين الحين والآخر "أبو شرار، دخلي الخيط في الإبرة"، أتناوله منها بحركة طفولية وأنا أطل عليها من سريري الذي فوق سريرها وأنزلها بذات الحركة، وأنا لا أنتصر على الخيال الشرير الذي كان يوهمني أنها قد تخدش جلدها بالإبرة!

لكن ذلك لم يحصل طيلة شهر كامل، ولا لمرة واحدة! كنت أراقبها وهي تقوم بشك الخزر في الخيوط وخياطته إطارًا لأسماء أفراد عائلتها وأنا في غاية الدهشة من دقتها رغم أن أصابعها مبتورة، مرة فتحت لي صندوقها الذي تخبئ فيه كل ما تجهزه، فذُهلت! أيُّ قوَّةٍ يا الله، أيُّ قوة!

كان الأمل والحب في قلبها أقوى من كل شيء، وكان الألم أيضًا، ذلك الذي لا تحكيه ولا تظهره لأحد، وتحتمل دون إظهاره أن تعجز عن قضاء بعض ما تحتاجه من أمور. كانت ولا زالت تكره الشفقة، وأن ينظر إليها أنها ضعيفة أو غير قادرة. أتساءل: هل هذا ما يفعله الألم العميق الذي يصيبنا ونحن نخوض معركة الحياة؟

الحقيقة أن إسراء لم تكن تستمع للبرنامج وهي جالسة، كانت تتناول الراديو، تعلقه بضوء الغرفة "النيون" حتى يتحسن بث الإذاعة، وتبقى واقفة على قدميها حتى تستمع لعائلتها. وأنا أسمع معها، وأفكر ..يتلوى قلبي ألمًا، ولا أنطق. كانت دائمًا تتساءل عن شكل لقائها بمعتصم! 

جمعنا قرب وود رقيق، وتفاصيل يومية كثيرة يجب أن أكتبها، ذلك القرب الذي كنت أحس فيه إسراء أختًا كبرى. تتحدث عن معتصم ابنها، وصهيب شقيقها، وتنتظر كل اثنين في الحادية عشرة صباحًا برنامج الأسرى عبر "صوت فلسطين"، إحدى الإذاعات المحلية" لتستمع لعائلتها.

 كان صهيب دائمًا يتصل في تلك الفترة ويحكي لها "لو كل الدنيا تركتك يا إسراء أنا ما بتركك، أنت أختي ..أنت الغالية علينا كلنا يا أم المعتصم".أنظر إليها بصمت، تسري في جسدي قشعريرة مطلقة، وتفيض عيناي دمعًا أردّ انهماره.  تبقى تكرر ما يحكيه صهيب في المكالمة، ثم اتصال معتصم-ابنها الوحيد الذي وحتى تاريخ خروجي من السجن قبل عام تقريبا لم تلتقِ به- وشقيقاتها.

الحقيقة أن إسراء لم تكن تستمع للبرنامج وهي جالسة، كانت تتناول الراديو، تعلقه بضوء الغرفة "النيون" حتى يتحسن بث الإذاعة، وتبقى واقفة على قدميها حتى تستمع لعائلتها. وأنا أسمع معها، وأفكر ..يتلوى قلبي ألمًا، ولا أنطق. كانت دائمًا تتساءل عن شكل لقائها بمعتصم! لهذا النص اكتمال قريب، وحديث طويل، طويل. الله يرعاكِ يا أم المعتصم!