بنفسج

مهرج في السجن: كيف يلتقيان؟

السبت 18 يوليو

إسراء مرَّةً ثالثة، رغم أن أمرًا كهذا الألم وهذه الذكريات لا يُقسم، ولا يُقاس حتى، كم يبدو القلب فيما يحوي عميقًا ومعقدًا يا الله؟ حين يصاب مرَّةً بألم المعذبين، فإنه لا يُشفى! واللهِ لا يُشفى، السماء شفاؤه الوحيد، كتابة الألم تشبه محاولة تشريح جبل صخري صلب!

قبيل رمضان، كانت الأسيرات ينسقن لجلسة ترفيهية، وكانت الفقرات موزعة بين مسابقات، وحديثٍ خفيف عن رمضان واستقباله وفعالياتنا خلال الشهر الكريم، وكان هناك مهرِّجٌ أيضًا في جدول فقرات تلك الجلسةسيكون السؤال البديهي الآن، مهرج؟ وفي سجن؟! كيف يلتقيان؟ الشابة التي كانت تقف كلَّ ليلةٍ على نافذة الباب، تشتاق ابنها وتبكي ألمها بصمت وحدها، هي ذاتها المهرج في السجن!

إسراء كانت قبل اعتقالها تعمل مهرجةً للأطفال، واستمرت في السجن تحاول ما استطاعت خلق البهجة في النفوس، في المشهد المرئي لحوالي 50 أسيرة، كانت إسراء تجيد تغيير صوتها بطريقة مضحكة، وفي غاية اللطف، ترتدي ملابس مهرج، وتحكي القصص وتضحك مع الأسيرات و"بتنكش راس" على كل واحدة منهن، تحكي لهن قصة "سموك" و"سموكة" اللذان ضاعا في البحر ونسيا طريق العودة للبيت، وتمرر أفكارًا تُضحك القلب وتقوي الصبر.

ق33.png

أما المشهد المخفي، فكان لثلاثة، إسراء رابعهن، أم موسى (عالية العباسي)، ونيفين علقم وأنا، في غرفتنا-رقم 17- بدأت إسراء تجهز نفسها لتلك الجلسة قبل موعدها بأيام، إحدى الأسيرات الزهرات- وهو مسمىً تطلقه الحركة الأسيرة على الأسيرات اللواتي دون 18 عامًا- أملت عليها إسراء النص، وقامت الفتاة بكتابته، فيما أمضت إسراء بعد ذلك عدة أيام تذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، ولعدة ساعات تحاول حفظ النص غيبًا، كثيرًا ما كانت تتوقف وتحكي بألم بالغ لأم موسى: "مش قادرة أركز يا خالتي، مش قادرة أحفظ!"، تقول لها أم موسى: "طيب خالتي معلش، احكي النص عن الورق، مش ضروري عن غيب"، فلا تقبل، وتعاود المحاولة مرَّةً في إثر مرَّة، وفي كل المرات، كانت تفقد تركيزها وتنسى ما حفظته، كنت أراقب المشهد بصمت، وأحترق في سؤالٍ قاتل: "يا الله النص بسيط، كيف لهدرجة مش قادرة تركز!" وأتألم، دونما أن أقدر على النطق ولو بكلمة!

استطاعت أن تحفظ أفكار النص الأساسية، بدأت خلال العرض تؤدي بشكل جيَّد وأنا في داخلي خوفٌ أن تفقد تركيزها وتنسى، وهذا ما حصل فعلًا، نسيت إسراء النص، وبدا لنا أنها تحاول تذكره، لم تستطع، لكنها تداركت نفسها، وحورَّت كل القصة بحيث أشركتنا في أحداث القصة، استفادت من خيالنا وتفاعلنا مع ما بدأت ترويه، فكأن سؤالها عند الأحداث التي تنساها: "شو رأيكم؟ إيش رح يصير بعد هيك؟".

أكملت عرضها وجلست بيننا، وبين الحين والآخر خلال باقي الفقرات تتفاعل معنا بصوت المهرج، والله كان جميلًا وعذبًا ومضحكًا من القلبأحببت إسراء أكثر في ذلك اليوم، بدا حبها للناس في لمة عينيها رغم كل ما فيهما من حزن، صوتها يتردد في رأسي الآن وهي تقول "مرحبا مرحبا يا حلوين، كيفكم اليوم؟ بدي أحكيلكم قصة، جاهزين؟"

يطغى على صوت الموسيقى التي أسمع، كان يفيض فرحًا، حتى لا تكاد تصدق أن صوت الحزن في صمت الليالي هو ذاته هذا الصوت! كم يبدو قاسيًا أن تتخيل أن إنسانًا مبهجًا لهذا الحد، يخفي في قلبه كونًا كاملًا من الحزن، ويداري تحت جنح الليل روحًا نازفة، وقهرًا تعجز عنه الجبال!

أراقب كيف تتحول الأشياء في السجن إلى مصدر بهجة، بكل هذا الكم من الإبداع، وربما أكتب يومًا ما عن هذه الفكرة بقدر ما كانت ملهمة.

في فترة إعدادها لنفسها ومحاولة حفظ النص، كانت تفكر فيما سترتديه للعرض، أشارت لنيفين، الأسيرة الرابعة التي كانت معنا في الغرفة أن تخرج لها بنطالًا من الخزانة، أخرجت نيفين البنطال، وكان جديدًا لا يبدو أن إسراء لبسته أصلًا-الملابس تدخل للأسيرات عن طريق أهلهن في الزيارة، حيث يُسمح للأسيرات غير المحكومات بإدخال كمية محددة من الملابس وضمن شروط محددة من قبل إدارة السجن كل شهرين مرة، أما الأسيرات اللواتي صدر بحقهن حكم، فإن إدخال الملابس لهن يكون كل 3 أشهر مرة، وضمن نفس الشروط من الإدارة.

أخرجت نيفين البنطال وقامت بتزيينه ببعضٍ من الخرز، والألوان المائية، فبدا بنطال مهرجٍ بحق، وجهزت لإسراء دميتين هما "سموك" و"سموكة"، صنعتا من اللباد الذي كانت تقدمه إدارة السجن لنستعمله في التنظيف، كانت الدميتان حقًا مبهجتين، وكان الطفل الصغير في داخلي مندهشًا ومبتهجًا، أراقب كيف تتحول الأشياء في السجن إلى مصدر بهجة، بكل هذا الكم من الإبداع، وربما أكتب يومًا ما عن هذه الفكرة بقدر ما كانت ملهمة.

ومن ذات قطع اللباد، جهزت نيفين لإسراء ما يشبه التاج، لتغطي به رأسها بدلًا مما يضعه المهرجون على رؤوسهم، أخفى التاج شعر إسراء الذي كان بالكاد قد بدأ ينمو بعد أن عانت لمدة طويلة من اختفائه بسبب الحروق، كان ضعيفًا، وقصيرًا للغاية!

بالمناسبة، في حالة إسراء، ارتداء بنطال أمر في غاية التعب لها، فهي لا تستطيع ارتداءه وحدها، وجسدها لا يتحمل هذا النوع من الملابس لمدة طويلة، ما أريد قوله إن هذه الإنسانة لا تستطيع أن تلبس الملابس بشكل اعتيادي ومريح كما نحن، كان لباسها طوال الوقت الذي عرفتها فيه عبارة عن قطعة من القماش الخفيف المسدل على جسدها، لأنه النوع الوحيد الذي لا يسبب لجسدها التهيجات، وإن كان الأمر لا يدعو للاستغراب كون الفصل إذ ذاك كان صيفًا، فإنه في غاية الألم حين نتحدث عن أنها ترتدي ذات اللباس شتاءً أيضًا!

ذات مرَّة، كنا نتبادل أطراف الحديث، فقلت: "والله زمان عن فيروز!!"، كان قد مضى على غياب صوت فيروز عني ما يقارب شهرًا ونصف، قالت لي إسراء: "أجيال الصبح بيحطوها الساعة7"، وأعطتني جهاز الراديو خاصتها، والسماعات قبل أن تنام، لأسمع فيروز في الصباح التالي!

هذا الموقف من أدفأ المواقف التي عشتها في السجن، العطاء هناك يعني شيئًا واحدًا، نفسٌ طيبة، وروح نقية، وقلب كبير! أن يكون المعطي إسراء، فتلك قوة ورحابة رغم كل ما يورثه الألم من ضيق! ذات ليلة بدأت إسراء تُريني صورها قبل اعتقالها، وصور أسرتها، ومعتصم، صورتها وهي مهرجة، لم أستطع إخفاء ملامح وجهي التي فضحت صدمتي من الفرق بين إسراء التي في الصورة وإسراء التي أمامي!

ضاعت كلماتي، فضحتني عيناي، ولكن إسراء واصلت الحديث عن الصور والحياة والحب دونما أن تشعرني أنها قد تضايقت من ردة فعلي، لا أجزم إن كانت صدمتي قد جرحتها أم لا! لكن أملي أنها لمست في قلبي حبها. أي ألمٍ يا الله! أي ألم.

كان من المكونات الثابتة على ظهر خزانة إسراء كأسٌ ملَّون، مزود بقشة للشرب، كتلك الكؤوس التي يستعملها الأطفال في سنٍ مبكرة ليعتمدوا على أنفسهم في الشرب، هذه الكأس كانت ولمدة طويلة هي ما يمكن لإسراء الشرب من خلاله، لم يكن بإمكانها الشرب بكأس عادي، كما لم يكن بطبيعة الحال ممكنًا لها أن تأكل!

كما حدثتني، احتاجت لمعارك طاحنة مع الإدارة حتى سُمِح لأهلها بإدخال الكأس لها في إحدى الزيارات. في كل ليلة تقريبًا كانت إسراء جزءًا ثابتًا من حديثي مع نفسي قبل أن أنام، من أسئلتي وأرقي، وتعبي. أسترق النظر إليها فأجدها إما تحاول أن تنام، أو تقف أمام الباب.

في كل الصباحات التي عشناها معًا، كنا نشرب النسكافيه سويًا في الصباح، تأتي شيرين العيساوي كل يوم، تحيي إسراء، تطمئن عليها، وتتبادلان أحاديث الشوق والأمل بفرجٍ قريب، ويمضي نهارنا. في صوت إسراء بحةُ حزنٍ بادية، ودفء حيٌّ، وتعب.. تعب ثقيل. الله يرعاكِ يا أم المعتصم. عن إسراء مرَّةً أخرى، سأكتب قريبًا.