بنفسج

عن إسراء مرة أخرى: النص المكتمل

الخميس 18 يونيو

 

تقف إسراء على الباب صامتةً، فيما يستنزفني السؤال الكبير: "أي، ألم ينشب أظفاره في روح هذه الإنسانة في هدأة هذا الليل يا الله!؟

عن إسراء مرة أخرى، ليست أخيرة! في ليالي السجن، كنتُ كثيرًا ما انتبه في نومي على حركة إسراء في الغرفة، تنهض من سريرها، تقف أمام الباب صامتةً، ومن يعرف السجون يفهم أن الباب هو متنفس الغرفة الوحيد، فالنوافذ أفقها مغطى بشبك حديدي، ويصعب جدًا أن تكون قريبًا منها لتقف متأملًا للسماء أو الطرق، والسيارات البعيدة التي تحمل كل منها حكاية مكتظة بالتفاصيل والصراع!

والباب حديدي ثقيل، مصمت، إلا من شبك في أعلاه، تنظر منه فترى القضبان التي تفصل الغرف عن ساحة الفورة، وإذا ما رفعت نظرك للسماء، ستجد شبكًا حديدًا يغطي صفاءها. في السجن، يصعب أن تراقب القمر، أو تعد النجوم، بالكاد أصلا أن ترى السماء! كم تبدو مرعبة فكرة الحياة دون سماء؟ من يفكر حقًا بهذا، سيصاب بألم كل المحرومين من السماء.

تقف إسراء على الباب صامتةً، فيما يستنزفني السؤال الكبير: "أي، ألم ينشب أظفاره في روح هذه الإنسانة في هدأة هذا الليل يا الله!؟"كثير من الليالي كانت تمر وهي تعاني من تهيجات شديدة في جلدها، وكان الفصل وقتها صيفًا، وفي منطقة قريبة من الساحل، يكون الجو حارًا رطبًا. كيف ينام إنسان بجلد محروق ومتهيج وفي منطقة رطبة؟ وفي سجن!

جدير بالذكر هنا أن جودة الغرف في السجن أقل ما يقال فيها أنها "زفت"، ولا أذكر طيلة الشهر أني رأيت لإسراء أدوية سوى بعض الأدوية ذات التأثير المسكن للألم، بلغة الناس، "تروفين ومشتقاته"، لم يكن من حل سوى أن تقف تحت الماء البارد فترةً تتراوح بين الـ15-30 دقيقة كحد أدنى. كانت توقظ أم موسى (عالية العباسي) أو تصحو أم موسى على حركتها في الغرفة إثر التهيجات، فتساعدها بشكل كامل تقريبًا في استحمام بالماء البارد بعد منتصف الليل، علَّ التهيج والألم يكفان عن إسراء ولو قليلًا من الوقت .

خلال الـ24 ساعة تلك الفترة كانت إسراء تحتاج لهذا الأمر مرتين أو ثلاثًا، ولا تستطيع بطبيعة الحال أن تقوم به وحدها، سخَّر الله لها آنذاك أم موسى، وقبل أشهر خرجت أم موسى من السجن، وهي الوحيدة التي كانت تتكئ عليها إسراء في كل أمر دونما أن تشعر بأنها ضعيفة أو أن في ذلك اتنقاصًا منها. خرجت أم موسى بعد أن رافقت إسراء عامًا ونيِّف، منذ كانت في مستشفى سجن الرملة.

ث6.png

ثمة ألم في الروح لا يسكنه شيء، ألم أن تعجز عن نفسك، ألا تجد سبيلًا لتقضي أمورك بنفسك، وأن تخفي كل هذا الألم، ثم ينساب دمعًا حارقًا في وحدةٍ موحشةٍ وغربة باردة في ليل السجون! كم هو دافئ صوت إسراء، قريب للقلب، آمنًا، وكم بدا جارحًا وحارقًا حين تحشرجت كلماتها وهي تحكي شوقها لمعتصم لو تعلمون!

غيرَ مرَّةٍ، كنت أصحو وهي تقف أمام الباب رفقةَ أم موسى التي كانت عونًا وسندًا لإسراء، وهي تكلمها عن شوقها المعمد بدمع الألم، عن معتصم والبيت والإخوة والأهل، كانت تختنق ببكائها، ويَغُصُّ قلبها بمرارِ كل هذا الوجع، وهذه غصةٌ مهما اجتهد كاتب أو شاعر في وصفها فإنه لن يفلح.

حينما كانت تقترب مواعيد الزيارات أو يأتي ذكرها، كانت تتساءل كثيرًا عن لقائها بمعتصم، كيف سأبدو لطفلي؟ هل سيعرف أمه بعد كل هذا؟ ويا الله! كم كانت تسحق قلبي ألمًا حين تقول: "رح يشوفني غوريلا؟". مرَّةً قررت ألا أسلم قلبي لينسحق بألمه، أسوأ ما كنت أخشى عليها منه أن تسيطر عليها هذه الفكرة، أومن تمامًا أن الأبناء الذين هم مهج قلوب أمهاتهم، وقطعة من أرواحهن، يأخذون منهن القوة والأمان والحياة، ويعطونهن بالمقابل القوة والأمان والحب والحياة.

وكسرتُ صمتي، قلت لها: "إسراء! معتصم ابنك، لو ما عرفك من شكلك رح يعرفك بقلبه، فطرته رح تقوده إلك، ومستحيل يشوفك غوريلا، إنت بالنسبة إله احلى حد وأدفى حد ..صدقيني معتصم بقلبه رح يعرفك ويضل يشوفك دايمًا حلوة". ردت وقتها: "يعني رح يحبني و أنا هيك؟". كان قلبي يتلوى ألمًا، يُذْبَح، كان يعلو ويهبط كقتيلٍ يقاتلُ لحظة خروج روحه، يحاول التمسك بالحياة ما استطاع، رغم أن الموت يطبق عليه فكيه كوحش كاسر، ويظل يعاند اللحظة الأخيرة.

قلت لها: "بيحبك ورح يضل يحبك إسراء لأنه الله خلق الابن بيحب أمه، فطرة معتصم نقية، ولا شي بيلوثها"شعرتُ أن أملًا بدأ يزهر في قلبها، لكن معتصم لم يأتِ، زيارةً إثر أخرى، حتى زارها مؤخرًا حسبما قرأت قبل يومين، بعد عامين ونيِّف على اعتقال إسراء. عامان! الأم دون ابنها والابن دون أمه، أيُّ وجعٍ يا الله.. أيُّ وجع!

ولربما ستكون تلك زيارته الأولى والأخيرة لأمه كونه لا يحمل رقم بطاقة هوية تجعله من المقيمين في القدس، كون إسراء تحمل بطاقة الهوية "الزرقاء" التي تسمح لها بالإقامة في القدس، فيما يحمل والد معتصم الهوية "الخضراء"، يعني هوية الضفة الغربية التي لا تمنحه الحق في العيش داخل القدس، وعلى هذا، فإن المحصلة أن معتصم غير معترف به تقريبًا، حتى أجل غير مسمى، لا يعلمه إلا الله.

وطالما هو كذلك، فإن إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية المعروفة باسم "الشاباك" لن تسمح له بزيارة أمه بشكل سلس كما باقي الناس. آهٍ يا وجعنا الموزع على ظلمات الليالي، وصقيع الشتاء، آهٍ يا دمعنا المدفون في لين الوسائد بلا شواهد تحكيه، مخلوقًا من قسوة الحياة وطغيان أهلها، ومدفونًا في لين وسائد عرفناها صغارًا، تريحنا في ليلنا من تعب اللعب في نهارنا، آهٍ يا جرحنا المفتوح أبد الدهر، وآهٍ ممن ينثر على الجراح ملحًا! ألا فاستنطقوا وسائد إسراء، وليلها، وشوقها!

كل ليلة قبل أن تنام، كانت تحب سماع بعضٍ من الموسيقى من خلال جهاز CD-player كانت تناديني، فأطل عليها من سريري بالحركة الطفولية ذاتها، أبو شرار، حطيلي البطاريات والـ CD "أنزل من على سريري، وأضع البطاريات، ثم القرص المدمج، وأشغله لها، كنا نتضاحك حينها، نتقاسم شيئًا من بهجة مخطوفة في ظلمة سجن.

كنت في كل مرة أرى فيها إسراء، أصاب بوخزة في القلب، لا تتعافى، ولا تُنسى، وبين الحين والآخر تصفعني. مرَّةً، فتحت خزانتها على أغلى ما قد يملكه سجين في سجنه، صور عائلتها وصورها، وما وراء الصور من ذكريات وحكايا.

لحظة ما، تبدأ الموسيقى، تصبح إسراء في عالم آخر، كأنما تدخل محرابًا، أو تختلي في صومعة. احتراقٌ كان لا بد يصيبني كل ليلة وأنا أفكر، أي شيء يصيب القلب وهو يتلّوى ألمًا دونما أهلٍ ولا صحاب.  كيف لو كان قلب أمٍ لم ترَ ابنها منذ زمن، زمن طويلٍ جدًا. كانت تخلق فينا بهجة تداري خلفها نزفًا ووجعًا غير محكي، وكم يبدو قاسيًا أن نفكر في ألم إسراء الآن، وهي التي لا تنام ليلها منذ عامين كباقي الناس. كيف نسينا أو غفلنا يا الله !!

أشقُّ ما في الألم الإنساني أن القلب حين يصاب به تبدو اللغة عاجزة، وأنا أحاول أن أكتب إسراء، فأعجز، ومهما بدا لي أني كتبت فإني عاجزة. حين كنا نجلس لتناول الطعام، لم يكن سهلًا على إسراء التحكم بالملعقة وإيصال الطعام من الصحن إلى فمها. ثِقلٌ مجنون يصارع أنفاسي، وأنا أتذكرها وهي تجلس أمام أم موسى التي اعتنت بها زمنًا طويلًا وهي تطعمها حتى الطعام، وما هو أدنى وأكثر من ذلك، كيف غفلنا يا الله، لا أدري!

حين تهم بشرب الماء، تحتاج من يفتح زجاجة الماء لها، كنت أفتحها كثيرُا من المرات بكل حب، لكن ألمًا لم أختبره قبلًا كان يجتاح روحي، حتى الماء، وما هو أدنى من ذلك وأكثر! كنت في كل مرة أرى فيها إسراء، أصاب بوخزة في القلب، لا تتعافى، ولا تُنسى، وبين الحين والآخر تصفعني. مرَّةً، فتحت خزانتها على أغلى ما قد يملكه سجين في سجنه، صور عائلتها وصورها، وما وراء الصور من ذكريات وحكايا. الله يرعاكِ ويتولاك برحمته يا أم المعتصم! ثمة اكتمال قريب للنص.