"أنا ما بدي أموت بالغرفة بدي أموت بالصالون".. قالتها الطفلة ريتال بصوتها الرقيق لوالدتها، وبعدها بساعات، قُصف المنزل، لتشهد والدة ريتال الحدث الأصعب على الإطلاق في حياتها، طفلتها بجانبها بين الحياة والموت، تنادي على زوجها ولكن الانفجار قذفه إلى مكان أبعد، طفلها يامن يصرخ بجانبها، والطفل الآخر بلال فُقد من شدة الانفجار.
في هذا الحوار قابلنا إجلال الحافي أم الطفلين الشهيدين بلال وريتال عبد الله، والطفل الناجي الوحيد من أطفالها يامن، لتروي اللحظات الأخيرة لأطفالها، والذكريات التي لا تُنسى، والشوق الذي لا يزول بل يزداد بمرور الأيام.
سحقوا جسد الطفلة تحت الباطون
في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، انقلبت حياة السيدة إجلال، فمن أمنيات بزوال الحرب والعيش بطمأنينة إلى ابتلاء قاس أفقدها طفلين دفعة واحدة، في تمام الخامسة فجرًا وبعد إلحاح من صغيرتها ريتال ناموا جميعًا في صالون المنزل رغبة منها أن تموت في الصالون وليس بالغرفة، لترد والدتها: "ماما لا تحكي هيك لسا العمر قدامك.. مش رح تموتي".
تقول إجلال لبنفسج: "قرأنا معًا أذكار المساء، ثم نمنا، وفجرًا استيقظت على رائحة غبار وحجارة تعلو جسدي، في البداية ظننت أن منزلي تضرر فقط من قصف قريب، لكن سرعان ما أدركت أن الاستهداف في منزلنا".
حاولت إجلال أن تنادي زوجها للهرب من تحت الركام لكن فوجئت بالمنظر من حولها بعد ثوان من الإدراك، إذ رأت صغيرتها ريتال عالقة تحت عامود الغرفة الذي وقع على قدمها، أمسكت والدتها بوجهها لترى إن كانت على قيد الحياة أم لا، حاولت الصراخ ولكنها لم تستطع من هول الصدمة. تكمل: "وبينما أحاول الصراخ سقطت فوقي طفلة شهيدة من الطابق الثاني، وعندها بدأ صوتي بالخروج بلا وعي لأصرخ بكل ما فيَّ من طاقة متبقية، ليسمعني الجيران ويبدأوا محاولة إنقاذنا".
اقرأ أيضًا: آلاء المصري: أمومة بعد 10سنوات عجاف.. خطفها الاحتلال
خرجت الأم إجلال من بين الأنقاض ولم تعبأ لإصابتها كانت تصرخ بوجه كل من تراه: أنقذوا أولادي ريتال وبلال ويامن، اصطحبها المسعفون إلى المشفى لتتفرق سبلها عن عائلتها، وتبدأ البحث عنهم هناك. وجدت قريبًا لها: فقالت له "بنتي لابسة بلوزة كرميدي وعاملة شعرها قرنين". فرد: "وضعها صعب بالعناية المركزة ادعيلها".
لم تقو على الوقوف فصارت تدعو الله بالسلامة لصغارها، كانت بجانبها سيدة لا تعرفها، تُصبرها وتقول لها قولي: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها". وهي تردد وراءها وتصبر المصابين أمثالها وهي بحاجة لمن يعانقها لتبكي، لم تشعر بنزيف قدمها أبدًا لساعات، ليأتيها زوج شقيقتها: "يلا عشان تشوفي ولادك ريتال وبلال وتوديعهم".
ودعت إجلال طفليها الأعز، وحمدت الله على عوضه بأن ترك لها آخر العنقود يامن الذي أُصيب مثلها، تكمل: "الحمدلله راضية، راحوا اثنين وضل الي ولد، قوية عشانه ومكملة بالحياة معاه، بضل يسألني عن أخواته ويطلب يتفرج على صورهم، وبحكيلي أنه مشتاق يلعب معهم".
رحل الصوت النديَّ
تعود إجلال بالذاكرة إلى يوم أن صارت ماما، في العام 2014 ولد بلال ليكون الفرحة الأولى لها، والمعجزة التي حققها الله ليكرمها بالأمومة بعد ولادة متعسرة للغاية، وفي 2015 جاءت ريتال للدنيا لتتزين الحياة ب "توتو" كما كانت تُحب أن تُنادى، كان الصغيران كالتوأم، لديهما صوت ندي وجذاب للغاية، يرتلان القرآن بطريقة مبهرة. وينشدان المديح النبوي بأصواتهم الندية ليبثا الروح في أي مكان يصدح صوتهما فيه.
تقول إجلال عن صغيرها بلال بصوت مبحوح: "كان حنونًا جدًا على أشقائه، في يومهم الأخير بالحياة طلبت ريتال فليفلة خضراء، فذهب هو إلى السوق ليشتريها على الرغم من رفضي التام وخوفي عليه من القصف، لكنه أصر وقال: "حرام يا ماما ريتال نفسها فيها بدي أجيبها لتاكل".
أما ريتال كانت حبيبة أمها و مدللة أبيها، كانت تود أن يكون لها أختًا، وتلح على والدتها جدًا، قبل استشهادها بيوم سألت والدتها: "بس تخلص الحرب بدك تصيري حامل وتجيبلي أخت ماشي".
"ما ضل إلي من ريحة الولاد إلا إسوارة باسم ريتال، وخاتم لبلال، وصور وشهادات الروضة، بدي أرجع على البلد أزور قبور ولادي وأروح على ركام بيتي أشم ريحتهم".
رحل كل من ريتال وبلال وتركا والدتهما مع الذكريات، كانت تتمنى أن تصبح ريتال طبيبة، وبلال مهندسًا، لكن الشهادة كانت أسرع. سافرت إجلال رفقة صغيرها يامن للعلاج من إصابتها، ولكن قلبها ما زال معلقًا بغزة عند قبور أطفالها، تردف: "رأت والدتي بلال في المنام وهو يبتسم، وخالتهم رأته أيضًا فنادت عليه: "تعال يا بلال". فرد: "لا احنا كتير مبسوطين هنا، أما ريتال جاءتها في المنام وهي سعيدة تدور بفستان وردي، تطلب من خالتها أن تسرح لها شعرها، لتلتقي بجدها وجدتها وشقيقها وبنات عمتها وأبناء عمها وابنة خالتها".
تختم حديثها: "ما ضل إلي من ريحة الولاد إلا إسوارة باسم ريتال، وخاتم لبلال، وصور وشهادات الروضة، بدي أرجع على البلد أزور قبور ولادي وأروح على ركام بيتي أشم ريحتهم".