في حياة تشرّع أبوابها على الرحيل، كانت راوية تتصدر عنوانها في كل مرة. لم تحمل من اسمها سوى الذكرى لترويها، أما حكايتها التي التهمت أمانها مرتين، فُكتبت بنيران الفقد في قلبها. وُلدت راوية مرتين: مرة من رحم أمها، وأخرى من رحم الوجع. في المرة الأولى، كانت طفلة مدللة، تضحك كثيرًا وتعيش حياة بسيطة مليئة بالحب والسكينة.
وفي الثانية، وُلدت من بين الركام، امرأة نضجت على مهل، حاملة في قلبها ذاكرة شهيدين، وطفولة انتهت مع أول فاجعة. تفتّحت زهور قلب راوية حين اختارت صهيب عبد العال زوجًا لها، كان كتفًا ثابتًا تستند عليه، ووطنًا صغيرًا تعيش فيه، كان أمانها في الخوف، وضلوعها التي تحمي قلبها. "كان يحبني بلا مقابل، لم يكن يطلب مني شيئًا سوى أن أكون سعيدة، راضية، وحبيبة له".
حين انكسر القلب
كان صهيب منشِدًا، صوته العذب لم يكن يخرج من حنجرته فقط، بل من قلبه، فيصل إلى القلوب كما يصل الدعاء إلى السماء. لم يكن يُغنّي أنغامًا فحسب، بل كان طهارة، وإيمانًا، ورسالة، وحبًا يغسل الأرواح، أحبه الناس كما أحبهم، وعاش بينهم بتواضع الفنان وروح الإنسان. عاشت برفقته كفراشة في ربيع دائم، وحين مرضت عيناها لسنوات، لم يتركها تزور الطبيب يومًا وحدها، كان يمسك بيدها، ويهتم بكل تفصيل، حتى أن الطبيب اندهش من مدى رعايته. "أصلاً كان يحب عيوني"، تقولها باختناق وابتسامة متعبة.
لكن تلك الحياة لم تدم طويلًا، في حرب عام 2008، رحل صهيب شهيدًا. وصل الخبر كالصاعقة. لم تكن راوية تتوقع أن يتوقف العالم فجأة بهذا الشكل، كانت صدمة لا تشبه شيئًا. في تلك اللحظة، ماتت الطفلة المدللة بداخلها، وولدت معها امرأة جديدة، تعرف كيف تكتم وجعها، وتربط على قلبها بيدين مرتجفتين.
اقرأ أيضًا: إجلال الحافي: شهادات الروضة وشواهد قبور.. ما تبقى لي
مرت السنوات، لكن لا شيء يُرمّم فراغًا تركه رجل كان حياةً بأكملها. رغم ذلك، قاومت. وقفت راوية على قدميها من أجل أطفالهما، ومن أجل حبها لصهيب، الذي لم يمت يومًا، بل تحوّل إلى داعمٍ خفي يدفعها للاستمرار. ثم جاء "سيد"، شقيق زوجها، رجل يحمل قلبًا يعرف الانكسار، ويعرف كيف يُرمّم، لم يكن بديلًا لصهيب، بل محاولة للحياة من جديد، أحبّها كما هي: بحزنها، وبذكريات زوجها الأول، وبأطفالها الذين تبنّاهم بقلبه قبل اسمه. "كنت أخبر نفسي أن الحياة لا تنتهي عند فقد، وعلينا أن نمضي بما تبقّى فينا من قدرة على التنفس، لكن الحروب في غزة لا تؤمن بالفرصة الثانية".
وفي الحرب الجارية على قطاع غزة، رحل سيد كما رحل صهيب من قبل، كُتب الغياب على ظهرها مرتين، وكأن قصص الحب هنا لا تكتمل. تقول راوية بصراحة جارحة: "نعم، تمنّيت أوقات كثيرة لو أنني لم أرتبط مرة ثانية، ليس لأنني ندمت، بل لأنني لم أكن قادرة على تحمّل نفس الوجع مرتين، الفقد الثاني لم يكن صدمة، لكنه أعاد فتح الجرح القديم، الأول كسرني، والثاني أوجعني من نفس الكسر، الأول علّمني معنى الفقد، والثاني علّمني أن الفقد لا يُعتاد، حتى لو تكرّر".
وجع الفقد الذي تكرر
ورغم كل هذا، لا تندم راوية على حبّها مرتين: "الله رزقني برجال كانوا سندًا لي، حتى لو رحلوا، الوجع تكرّر، لكن الحب لا نندم عليه، لأنه ما يجعلنا نستمر ونتذكّر أن الحياة رغم قسوتها، منحتنا لحظات حلوة استحقّت أن نعيشها". وترى أن قرار الارتباط مرة أخرى لم يكن ضعفًا، بل شجاعة، ومنحة وسط المحنة.
صارت الوحدة رفيقتها التي لا تفارقها، أحيانًا تحتضنها كي لا تنهار، وأحيانًا تحاول الهرب منها، لكنها تعرف جيدًا أن الهروب مستحيل. في الليالي الطويلة، تقلب راوية صورهم، وتهمس: "الحب لا يموت، الفقد يتكرر، لكنه لا يلغي الحب والوجود الذي تركتموه فيّ". وحين وجدت راوية نفسها عالقة بين الخسارات، خرجت من عمق التجربتين مشروع «نهضة امرأة»، لم يكن مجرد مشروع، بل ولادة ثالثة لها. هو وجعها الذي قررت أن تلبسه أملًا، وتقدّمه لكل امرأة موجوعة.
«نهضة امرأة» هو حكايتها، وامتداد قوتها، ومرآة لكل أنثى قالت لها الحياة: "أنتِ وحدك"، فابتسمت وقالت: "أنا معي". اليوم، لا تنتصر راوية على الوحدة، لكنها تتوازن معها، لا تحاربها، بل تحتويها، وتملأ فراغها بصوت أبنائها، وبقصص النساء اللواتي يشبهنها، وبمبادرتها التي تحوّلت إلى ضوء وسط عتمة لا تنتهي.
اقرأ أيضًا: سناء الريس: رسائل حبسها الركام وأوصلتها الشهادة
وحين يثقل الحزن قلبها، لا تجد حضنًا يحتوي وجعها إلا الله، ترتب حزنها بالصمت، لا هروبًا، بل حفاظًا على كرامة القلب. "أنا صرت حضن نفسي، وكل امرأة مرت بتجربة تشبهني، تعرف أن لا أحد يفهمها مثل من حمل الوجع نفسه". راوية تعرف جيدًا أن العالم لن يعيد من رحلوا، لكنها تؤمن أن الله قادر أن يزرع في طريقها وردة، في كل مرة تمشي فوق الشوك.
وحين سُئلت مرة: "كيف تصفين حياتك؟". أجابت بابتسامة نصفها وجع، ونصفها إيمان: "الحياة كسرتني مرتين، لكنها ما لم تستطع أن تقتل الحب في داخلي". ثم تستدرك، بصدقها المعتاد: "مش سهل أفتح وجعي، ولا أسترجع تفاصيل الفقد اللي ما غابت عن بالي يوم، بس بحكي عشان أوصل صوتي، وأقول لكل امرأة موجوعة: إحنا مش لوحدنا، والتعب مش عيب، والضعف مش نهاية، هو بداية طريق جديد، إن شاء الله".