بنفسج

فداء صبيح: وحيدتي بعد 7 سنوات.. لم أجد لها كفنًا

الخميس 28 اغسطس

الشهداء الأطفال في غزة
الشهداء الأطفال في غزة

سمّت فداء عام 2017 عام السعادة والجبر؛ العام الذي استجاب الله فيه دعاءً طالما رفعته في قيام الليل. لكن في عام 2023، رحلت طفلتها الوحيدة إلى بارئها بعد استشهادها. كانت الصدمة كالصاعقة على قلبها. فداء صبيح، التي رأت صغيرتها مضرجة بدمائها بين يدي والدها، والنبض لا يزال يسري فيها. ركضت بها إلى المستشفى، تتوسل للطبيب المنشغل: “وحيدتي… أجتني بعد سنين… ما معي غيرها… الحقها أمانة”.

أسرع الطبيب بمحاولة إنعاشها، لكن فجأة عمّ الصمت، ثم قال بعد ثوانٍ: “استشهدت”. لم تصرخ الأم، بل وقفت ثابتة، فيما قلبها هوى وأنفاسها انقطعت، ثم قالت بهدوء يكسوه الإيمان: “الحمد لله… ما عند الله خير وأبقى”.

هنا تستضيف بنفسج فداء صبيح، أم الشهيدة الطفلة جوري، لتحدثنا لأول مرة عن الأمومة، عن سنين الانتظار العجاف، وعن اللحظة التي فقدت فيها وحيدتها، وعن أجمل الذكريات التي عاشتها معها طيلة ست سنوات.

يوم رحيل الروح

استشهاد الأطفال

أيُعقل أن يموت المرء وهو حي يُرزق؟ أيُطفأ بريق الدنيا في عينيه، أيكره السنين والأيام والساعات، ويذوب القلب كمدًا وقهرًا، أيضيق الصدر حتى يعجز عن البكاء والنحيب؟!

في السادس من ديسمبر 2023، ذهبت جوري مع والدها لشراء إفطار لها. من شدة جوعها أصرت أن ترافقه. تردد الأب وسأل زوجته، كأنه يستشير قلبها. قلب فداء كان يخبرها أن شيئًا ما سيحدث، لكنها وافقت على مضض. فاحتضنتها الصغيرة قائلة: “بحبك يا ماما”.

لم تعلم فداء أن ذلك سيكون العناق الأخير. بعد دقائق، هاتفت زوجها فقال: “يلا وصلت هيني”. أغلقت المكالمة وهي تحمد الله على سلامتهما. وفجأة دوى الانفجار. ركضت نحو باب البيت، لتراه يحمل جوري بين يديه وهو مصاب أيضًا. سقط هاتفها من يدها، وأسرعت إلى المستشفى لإنقاذ طفلتها، لكنها كانت قد استشهدت.


اقرأ أيضًا: دانية المدهون: مذكرات ناجية وحيدة


رزقها الله صبرًا وقوة وهي تقف تسأل عن كفن لابنتها الوحيدة، فلم تجد. كفنتها بغطاء صغير، وحملها والدها يبحث عن مكان لدفنها. وجد مكانًا قريبًا، فدفناها معًا. وضعت فداء التراب على جسدها الرقيق الذي طالما خافت أن يمسه ضرر، وقالت بصوت مبحوح من البكاء: “لا تخافي يا ماما… إنتِ عند ربّ أحنّ وألطف مني… حبيبتي ارتاحي”. تقول فداء لبنفسج: “فقدت روحي في ذلك اليوم. أعيش اليوم جسدًا بلا روح. رضيت بقضاء الله وقدره، لكن الحزن هدّني”.

عاشت أشهرًا مريرة في الغياب. كان كل ما تفكر فيه نقل صغيرتها إلى قبر يوضع عليه اسمها وتاريخ ميلادها واستشهادها. وحينما توقف إطلاق النار في يناير الماضي، قررت فداء وزوجها نقل جوري إلى مقبرة. تضيف: “رفض والدها حضوري مراسم النقل. كنت أود جدًا لمسها من جديد، لكنه رفض بشدة خوفًا عليّ من الانهيار، قائلًا: لو لمستيها مش رح تتركيها.. لما أخلص وادفنها ببعتلك تيجي. وبالفعل ذهبت بعد الانتهاء من دفنها للمرة الثانية، واقفة أدعو الله أن يربط على قلبي”.

جوري… ليست مجرد ابنة

عدد الشهداء الأطفال

لم تكن جوري مجرد ابنة، بل كانت الروح والسند والأمل. جاءت بعد سبع سنوات من الانتظار الطويل، سنوات من البكاء والألم والرجاء بطفل يملأ الحياة نورًا. حين رأت فداء نتيجة فحص الحمل الإيجابية، ارتجفت، لم تصدق عينيها، بكت وضحكت في اللحظة نفسها. كانت لحظة مهيبة لا تُنسى، أول مرة تذرف دموع الفرح والجبر من الله.

تروي: “يوم قدومها إلى الدنيا بعد سنين عجاف، كان العيد بالنسبة لي. بمجرد أن عانقتها أول عناق شممت رائحة الجوري، فقلت سأسميها جوري، لتكون أنيستي ورفيقتي”.

كبرت جوري وكبر حبها في قلب والديها. وحين اندلعت الحرب، عاشت الصغيرة الجحيم بين أحضان والدتها، ترتجف مع كل صوت طيران أو انفجار، تغطي أذنيها قائلة: “ماما خليني ما أسمع”.


اقرأ أيضًا: أنفال الرقب: الوجع ربيبي بعد زوجي وابنتي


تقول فداء: “كانت جوري دائمًا قلبها رقيق، يتألم حين ترى المحتاجين، كانت تزعل وتدمع وتعطيهم كل ما معها. الحمد لله ما شفت ملامح وجهها تتغير من الجوع، ولا عيونها تطلب الأكل وأنا عاجزة. لو رأيتها جائعة ومكسورة وسط المجاعة، لانكسر قلبي عليها ألف مرة. الله أرحم منا وأحن”.

تخاف فداء على بيتها المليء بالذكريات، تدخل غرفة جوري كلما اشتاقت إليها، تشتم رائحتها، تنظر إلى ملابسها. يأتي أصدقاء جوري ليحدثوها عن ذكرياتهم معها، فتستمع وقلبها يبكي شوقًا للصغيرة الحنونة.

وتكمل: “من الذكريات التي لا أنساها عندما كنت أسألها: شو أكلتك المفضلة؟ كانت ترد: برجر. لكن الغريب أنها لم تكن تأكله في كل مرة نذهب إلى المطعم، بل تأكل ما أطلب أنا. وحين أسألها تقول: بحبه وبحب أطلبه بس ما بدي آكله… بدي آكل زيك. ثم تضحك. ما زالت ضحكاتها ترن في أذني، وصوتها ودلالها”.