هنيئًا لمن خرج من ذلك المسلخ البشري وهو نقيّ تجاه الناس وتجاه نفسه. هنيئًا لنا أننا صبرنا ووثقنا وأيقنّا أنها ستنتهي. انتهت الحرب الدموية وبدأت الحرب النفسية لمراجعة الذات. هو شعورٌ مختلط بين الفرح لأنها انتهت، وبين الحزن على ما سنعود إليه؛ فقد هُدم واستوى على الأرض، وتلاشت أحلامنا التي بنيناها من الصفر. لكن هنا تبدأ العزيمة من جديد، سقط البيت وسنعود لنقيمه، ونرسم مخططاتنا في عقولنا قبل أن نضعها على الأرض.
رأينا الويلات خلال عامين من الألم والجوع والعطش والعجز عن فعل أي شيء، حتى عن إطعام أطفالنا ليناموا. عامان ذقنا فيهما طعم الغدر والوجع بدلًا من الطعام الذي كنا نحلم به. رأينا غزة كمدينة ملاهٍ مهدّمة، رأينا المباني تسقط حين ينزل ذلك الجسم المشتعل من السماء، فينهار البيت وتنهار معه أحلامنا وطموحاتنا. لكننا سنعود لبنائها، رغم أننا فقدنا الأحبة، فقدنا الحبيب والشقيق والأم والأب والصديق.
الناس هُجّروا على أقدامهم العارية، مشيًا من الشمال إلى الجنوب، والآن يعودون حفاة إلى الأماكن التي هُجّروا منها، تختلط دموعهم بالدماء التي سالت من آثار الحرب. احتضنوا الركام الذي استوى على الأرض، وضمّوا الهواء مكان أولادهم الذين قُتلوا.
صرنا بلا شعور، لا نفكر إلا: إلى متى؟ وأين؟ وكيف سنموت؟ انتهت الحرب، وكنا نأمل أن نرى بجانبنا ذلك الحبيب الذي كان ينتظر على أحرّ من الجمر انتهاء هذه الملحمة. مات فيها الصحفي الذي وثّق لنا ما يجري لينقله إلى العالم المغشيّ على بصره، فاستُشهد وانتهى عمله في الأرض، ليرحل إلى السماء ويكمل عمله هناك، يشكو إلى الله ما جرى.
الناس هُجّروا على أقدامهم العارية، مشيًا من الشمال إلى الجنوب، والآن يعودون حفاة إلى الأماكن التي هُجّروا منها، تختلط دموعهم بالدماء التي سالت من آثار الحرب. احتضنوا الركام الذي استوى على الأرض، وضمّوا الهواء مكان أولادهم الذين قُتلوا.
عندما ترى السماء قد صارت حمراء كلون الجمر من شدّة الغضب، وترى الأرض تتشقق لتبتلع الظالم، حينها تعلم أن ما يجري هو ظلم. وعندما يبكي الرجل، فاعلم أن الرحمة قد نفدت من الأرض؛ يبكي من قهره وعجزه حين يرى أبناءه يموتون أمام عينيه، فيصرخ باكيًا. هذه المواقف إن دلت على شيء، فإنها تدل على عناد أهل غزة وتمسكهم بحقهم وأرضهم.
اقرأ أيضًا: غزة.. الجرح الذي أعاد تعريفنا
ما معنى كلمة النهاية؟ هي اللحظة التي يسكن فيها الصمت بعد كل ذلك الضجيج، وتنطفئ فيها الأنوار التي اعتدنا السير تحتها. النهاية ليست الموت دائمًا، بل قد تكون رحيلًا أو انكسار حلمٍ وسقوطه. وفي النهاية، عندما تهدأ السماء التي كانت تمطر نارًا، وتستقر الأرض بعد تشققها، نقول: انتهت الحرب، لكن القلب ما زال يتعلم كيف يعيش من جديد.
نقول أيضًا إن نهاية الحرب هي أن السلام أغلى من كل انتصار، فما تبنيه السنين تهدمه الحرب في لحظة، وما تزرعه الكراهية لا يحصده إلا الألم. علمتنا الحرب أن الأرض لا قيمة لها دون أهلها، وأن الحياة تُشعل بالحب لا بالنار، وأننا لم نبحث في الحرب عن نصرٍ جديد، بل عن طمأنينة لا تُقصف.

