في أزمنة الحرب، لا يبقى الفن ترفًا جماليًا، بل يتحول إلى سلاحٍ رمزيّ في مواجهة التوحّش. حين تُقصف غزة، تُقصف معها الذاكرة، التاريخ، البيت، والأغنية. لكنّ الفن يبقى مساحةً لا تُقصف لأنه يعيد تشكيل الصوت حين يُخرس الجدار. في كل عدوان على غزة وفلسطين عمومًا كحالة استعمارية وحيدة في التاريخ المعاصر، يتجدّد السؤال: ماذا يستطيع الفن أن يفعل؟ الجواب هو أن الفن لا يُغيّر موازين القوى، لكنه يُغيّر موازين الوعي. هو الذي يُعيد تعريف من هو الضحية، ومن يملك الحق في الحكاية. الفن الذي يقف بأخلاقياته داعمًا للمظلوم في وجه الإبادة ويتحدى المحتل أيًا كانت هويته وقوته.
الفنّ كذاكرة ومقاومة

منذ سنوات طويلة، كانت الأغنية الفلسطينية والعربية مرآةً للوجع والمقاومة. من فيروز التي غنّت زهرة المدائن والقدس العتيقة، إلى مارسيل خليفة الذي رافق قصائد محمود درويش بصوته ولحنه، ظلّ الفن العربي يحفر في الذاكرة الجماعية معنى الانتماء والصمود. الفنّ هنا ليس مجرد تعاطف، بل فعل سياسيّ يرفض طمس الرواية الفلسطينية. فكل لوحة تُرسم، وكل أغنية تُنشر، وكل عرضٍ مسرحي أو فيلمٍ يوثّق الألم، ويقف في مواجهة العدو وفضحه وفضح أدواته البربرية في تعذيب الفلسطينيين واعتداءاته اليومية على كل المستويات.
في عام 2023 ومع تصاعد القصف على غزة، أصدر آلاف الموسيقيين والفنانين العالميين بيانًا تحت عنوان "Musicians for Palestine" طالبوا فيه بوقف العدوان ورفع الحصار. من أبرز الموقعين:المغنية الأميركية Kehlani التي عبّرت بوضوح عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، وألغت تعاونها مع شركات اعتبرتها متواطئة مع الاحتلال. مغني الراب الأميركي Macklemore الذي خصّص جزءًا من حفله في سياتل للحديث عن غزة قائلاً: "لا يمكن أن نصمت بينما يُقتل الأطفال ونسمّي ذلك دفاعًا عن النفس."ةالمغني البريطاني من أصل باكستاني Zayn Malik ، شارك منشورات تضامنية ودعا إلى “العدالة لكل الأبرياء في فلسطين”.
اقرأ أيضًا: المقاطعة خيارنا: أنا مستغني مش مقاطع
إضافة إلى Dua Lipa التي واجهت التشويه بسبب موقفها الداعم للحقوق الفلسطينية، لكنها تمسّكت بموقفها الإنساني. و Run the Jewels (ثنائي الهيب-هوب الأميركي): من بين الفنّانين الذين شاركوا في الحملة وعبّروا عن دعمهم للقضيّة الفلسطينية. وPulp (فرقة بريطانية): تم ذكرها ضمن قائمة آلاف الموسيقيّين الذين وقعوا رسالة تطالب بوقف القتال في غزة.
كذلك، وقّع أكثر من 1300 فنان ومخرج عالمي على عريضة لمقاطعة المهرجانات السينمائية الإسرائيلية، متهمين إياها بـ"تلميع وجه الاحتلال" عبر الفنون. هذه المواقف تؤكد أن الوعي الفني العالمي بدأ يخرج من الرواية الرسمية، ويعيد تعريف المفهوم الإنساني للتضامن، بعد أن ظل طويلاً أسير دعاية الاحتلال.
الفن كأداة مقاطعة ثقافية

المقاطعة ليست اقتصادية فقط، بل تمتد إلى المجال الثقافي والفني، حيث تُعدّ من أقوى أدوات الضغط الرمزي على الاحتلال.الكثير من الناشطين والفنانين دعوا إلى مقاطعة الأفلام والمهرجانات والشركات التي تتواطأ مع الاحتلال أو تبرّره، ومن الأمثلة على ذلك: شركة Netflix التي بثّت فيلماً دعائياً إسرائيلياً بعنوان "Fauda"، يُقدّم الجنود الإسرائيليين بصورة بطولية، بينما يصوّر الفلسطينيين كـ"إرهابيين".
أفلام مثل "Golda" الذي يبرّر حرب أكتوبر من وجهة النظر الإسرائيلية، وممثلتها هيلين ميرين التي دافعت عن الاحتلال في تصريحات علنية. وبعض الممثلين العالميين مثل Gal Gadot (الإسرائيلية) الذين دعّموا علناً العدوان على غزة واعتبروا الجيش الإسرائيلي "حامياً للسلام"، مما دفع الجمهور العربي والعالمي لدعوات مقاطعة أفلامها.
كذلك، واجه الممثل Mark Ruffalo حملة إعلامية مضادة بسبب دفاعه عن الفلسطينيين، ما كشف حجم الضغوط التي يتعرض لها الفنانون المناصرون للقضية. من هنا تتضح خطورة الحياد الفني إذ لا يمكن أن يكون الحياد متساوياً بين الجلاد والضحية. فالصمت في زمن المجازر هو شكل من أشكال الانحياز.
بين الفنّ التجاري والفنّ الأخلاقي

من التحديات الكبرى التي تواجه الفنانين اليوم، هي هيمنة السوق والإنتاج التجاري الذي يجعل كثيرين يخشون التعبير عن مواقفهم خشية فقدان العقود أو الجمهور. لكن في المقابل، يبرز جيل جديد من الفنانين المستقلين الذين يضعون القيمة الأخلاقية فوق الشهرة. هؤلاء يختارون أن يكونوا شهودًا على المأساة، لا مجرد مزيّنين لصورتها.
وفي المقابل، تُظهر بعض المهرجانات الغربية ازدواجية المعايير، إذ تُكرّم أفلامًا عن حقوق الإنسان لكنها تتجاهل الإبادة في غزة ما يكشف حدود الإنسانية الانتقائية في الثقافة العالمية السائدة.
الفن لا ينحاز فقط، بل يخلق جسورًا بين الشعوب. في أوروبا وأميركا اللاتينية، نُظمت مهرجانات موسيقية ومعارض رسمية عنوانها Free Palestine جمعت فنانين من جنسيات مختلفة، معتبرين أن ما يجري في غزة قضية إنسانية عالمية، وليست صراعاً محلياً.
الفنّ لا يُقصف

يُمكن القول إن الفنّ هو الذاكرة التي لا تُقصف. الاحتلال يستطيع تدمير المنازل، لكنه لا يستطيع تدمير الأغنية. يمكنه محو حيّ بأكمله، لكنه لا يستطيع محو صورةٍ رسمها طفل على جدار. الفنّ لا يغيّر العالم دفعةً واحدة، لكنه يغيّر الإنسان الذي قد يغيّر العالم لاحقًا. من هنا، يصبح دعم غزة في الفنّ ليس عملًا عاطفيًا، بل فعل مقاومة ثقافية في وجه النسيان والتطبيع.
الفنانون الذين يقفون مع غزة لا يقدّمون ترفًا فنيًا، بل ينحتون ذاكرةً للإنسانية. والذين اختاروا الصمت أو الانحياز للمحتل، عليهم أن يتذكّروا أن التاريخ لا ينسى من غنّى للحرية… ومن غنّى للقنابل. داخل غزة نفسها، أُطلقت مبادرة فن المقاومة بمشاركة مجموعة فنانين غزيّين رسموا جداريات على بقايا المباني المهدّمة، لتخليد أسماء الشهداء ووجوه الأطفال.
في المعارض الافتراضية، ظهرت أعمال فنانين مثل محمد الحواجري ومنى النحّال الذين حوّلوا رماد الحرب إلى لوحات تروي ما لم يعد قابلاً للقول بالكلمات. إنه الفنّ الذي لا ينتظر صالات العرض، لأنه يُولد في الركام، ويعيش في ذاكرة الناس.

