بنفسج

في سيرة الطنطاوي: هكذا يربي الجد أحفاده

الخميس 18 يونيو

"الأم بتربي والستْ بتدلع". مقولةٌ استوقفتني طويلًا أثناء قراءتي لتجربةٍ تربويةٍ فريدةٍ، للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-، عبر مجموعة من القصص، والتجارب، والتأملات التي نقلتها عنه حفيدته عابدة المؤيد العظم، في كتابها عن جدِّها الذي سمَّته: "هكذا ربانا جدي".

جدُّها الذي عرفه الناس داعيةً وأديبًا، كاتبًا وخطيبًا. وعرفته حفيدته، الجدّ العطوف، والمربي المحترف، والموجِّه المتقن في أسلوبه. تجربته التربوية التي كان لا بد أن لا تبقى حبيسة الذكريات، وأن تُنشر عبر واحدةٍ من ثماره التربوية -حفيدته-، ليطَّلع عليها سائر الناس، من آباءٍ وشباب مقبلين على الزواج، أو الإنجاب، أو المربين لتكون تلك التجربة منهجًا وعونًا لهم، في تنشئة أبنائهم وتلاميذهم.

في عالمنا المعاصر، وفي ظل انشغال الكثير من الآباء والأمهات، في أعمالٍ تسرقُ من وقتهم الكثير، يبرز دور الأجداد في تكوين شخصية الطفل، والتأثير عليه في الكثير من الحالات. فلماذا لا يكون هذا الدور حافلًا بالعطاء، ويتجاوز فكرة الرعاية بالغذاء والنظافة والملبس، ليتعداه لأن يكون تجربة تربوية متكاملة.

اهتمَّ الطنطاوي –رحمه الله- بموضوع التربية، وركَّز عليه في خطبه  ودروسه وكتبه. انطلق الطنطاوي في تربيته من منطلقين أساسيين: "بناء الإيمان العميق، وزرع الإحساس الدائم بمراقبة الله". وضَرَب لذلك مثلًا، فقال: "إن عملية التربية تشبه عملية البناء، والبناء مهما كان نوعه لا يقوم إلا بأساس، فمن أراد أن يبني بناءً بطابقين، حفر الأرض ووضع أساسًا من الحديد والإسمنت يكفي لطابقين، ومن أراد بناء عمارة من عشرة طوابق، وضع حديدًا وإسمنتًا يتحمل عشرة طوابق، بينما لو أردنا بناء ناطحة سحاب لاحتجنا إلى أساس أقوى وأمتن.

وهذا هو الأصل في الدين، وهو ما نريده اليوم للنجاح في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، نريد جيلًا عميق الإيمان، قوي البنيان، يفهم الإسلام فهما صحيحًا مستقيمًا لا لبس فيه ولا اعوجاج". وهنا يأتي دور المربين في غرس الإيمان العميق في نفوس الأبناء، وزرع تقوى الله ومراقبته دائمًا في قلوبهم، في مرحلة مبكرة من طفولتهم، باستغلال المواقف والأحداث اليومية في حياتهم لغرس هذه المبادئ.

 | القدوة

احفاد الطنطاوي.jpg
علي الطنطاوي برفقة أحفاده في منزله

وقد كانت التربية بالقدوة؛ هي أهم معالم منهج الطنطاوي –رحمه الله- مع أحفاده وأبنائه، فكان لهم تجسيدًا حقيقيًا لما أرادهم أن يكونوه. فالتربية بالقدوة، لا يعادلها أسلوب حين يراك أبناؤك وأحفادك، وقد تطابقت أقوالك وأفعالك، وصرت أنت بالفعل جزءًا من الأخلاق والمبادئ التي تحثُّهم عليها. وقد سردت لنا "عابدة المؤيد العظم"، في كتاب كامل، لمسات تربوية كان ينتهجها جدها علي الطنطاوي في تربية بناته وأحفاده:

 | حيث غرس في قلوبهم الصغيرة، معاني القرب من الله وخشيته، وتعامل معهم بالعدل والمساواة حتى لا تنشأ بينهم العداوة والتباغض، خاصةً في مسألة العطاء المادي والهدايا، فكانوا جميعًا متساوون في العقاب والثواب، وفي توزيع الأعمال والمحاسبة على أدائها.

 | كما تعامل مع معالجة عيوبهم، بالصبر عليهم والرفق واللين، فاعتمد في تربيتهم على المودة والرحمة لا القوة والقسوة: "تذكروا أنكم تكبرون فتضعفون، ويكبرون فيقوون، فإن زرعتم فيهم المحبة صغارًا كنتم أول من يجني ثمارها الحلوة حين تكبرون ويكبرون". ولقد كان -رحمه الله- يتنزَّلُ لمستوى الصغار، ويعيش لساعات في عالمهم، ليوجههم ويؤصل المعاني في عقولهم، وقلوبهم، بلغتهم وأسلوبهم، فالتوجيه في جوٍّ من المحبة والاسترخاء، تعدل ألف كلمة في جوٍّ من التوتر والانفعال.

 | كان صادقًا معهم في أبسط المواقف، وصريحًا لا يكذب عليهم. فإن أول معاني الاطمئنان والثقة، تثبت في قلب الطفل تجاه المربي، عندما يشعر بصدقه معه، والأطفال يشعرون ويدركون جيدًا من يصدق معهم، ومن يكذب. فكان ينتهج أسلوب إقناع هادئ، دون حملهم على عمل بإخفاء جانبه السلبي عنهم.

 وفي ذلك تذكر حفيدته مثالًا طريفًا: "حدثتني والدتي: أنها اشتكت -وهي صغيرة- ألمًا دائمًا في بطنها، فلما فحصها الطبيب، وجد أنها تحتاج إلى صورة شعاعية؛ لتقصِّي سبب المغص والألم. وكانت الصورة لا تتم، إلا بعد أن يتناول المريض شربة من الملح الإنجليزي، ذي الطعم البشع والرائحة الكريهة. فلما رأت أمي شكله، وشمت رائحته استبشعته، ورفضت تناوله، حاولت جدتي إقناعها بأن طعمه ليس كرائحته، ورغَّبتها في تذوقه، فلما تذوقت بعضًا منه ازدادت عزمًا، وتصميمًا على ألّا تشربه مهما حصل، فغضبت جدتي وسعت إلى إجبارها على تناوله، وهي رافضة متمنعة. فلما أعياها الترهيب، لجأت إلى الترغيب، فراحت تحاول إقناعها، مؤكدةً أن هذا الدواء لذيذ الطعم، وهي لا تزداد إلا عنادًا وتصميمًا".

سمع جدي الضجيج فجاء من غرفته مستطلعًا الأمر، فلما وقع على تفصيله، طلب من جدتي أن تترك الأمر له، ثم التفت إلى والدتي وقال لها : يا بنيتي، سأكون صادقًا معك، لذلك لن أقول لك إن هذا الدواء ذو طعم لذيذ، إنه كريه ولا يمكن شربه، بل إن طعمه لا يطاق، وقد احتجت يومًا لتناوله فلم أفعل لشدة كراهته، وآثرت احتمال الألم على تجرع طعمه الكريه، ولكنّي آمل أن تكوني أشجع مني، وأقوى وأمضى عزيمة، فتفعلي ما لم أقدر أنا عليه، ويتم لك الشفاء بإذن الله، فشربته جرعة واحدة وهي مغلقة أنفها، مغمضة عينيها، لشعورها بأنّه مقدر لمعاناتي غير مستخف بآلامي".

 | التشجيع

الطنطاوي1.jpg
علي الطنطاوي يتوسط بناته

غرس الطنطاوي –رحمه الله- في نفوس أحفاده التواضع، وتقبل النقد الذي لن يقلل من قيمة المربي بقدر ما يرفعه، ويزيده رفعةً واحترامًا. فكان يتواضع للصغار في بعض الجلسات العائلية، وساعات الصفاء، فيطلب منهم أن ينتقدوه، ويُهدُوا إليه عيوبه، وإن أحجموا خجلًا وأدبًا، يُصِرُّ على سماع انتقاداتهم، ويشجعهم ويقنعهم إن طال سكوتهم بقوله: "لا يوجد كمال في الدنيا، ولكل امرئ عيوبه وأخطاؤه، لذلك قالوا: كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه".

 سردت حفيدته في كتابها أيضًا، مواقف ابتكر فيها أساليبَ تشجيعٍ فريدة، فالتشجيع أداة عظيمة يملكها المربُّون، لو تم استثمارها بطريقة صحيحة، فالأطفال بطبعهم سريعو الملل، وبحاجة دائمة إلى التجديد والتشجيع، بأساليب جديدة ومبتكرة.

فكانت له خزانة خاصة، لا يملك مفاتيحها إلا هو، يضع فيها مجموعة من الأشياء يسميها النفائس، يقدمها في الوقت المناسب مكافأة لمن يستحقها، وابتكر أيضا شهادات تقدير، يخطها بخطه الجميل، تقديرًا لإنجازٍ قام به أحد أحفاده الصغار. وذات مرة قدم لإحدى الحفيدات –وكانت صغيرة جدًا- شهادة تقدير، لأنها نجحت بصنع الشاي دون مساعدة من أحد، وشهادة أخرى لأحد الأحفاد، حين قام بترتيب مائدة العشاء، بذوق ونظام سماها: شهادة الذوق الرفيع، في إعداد المائدة. وأخرى عندما صام حفيد صغير له، لأول مرة، يومًا كاملًا، وعمره خمس سنوات.

 | الحزم

لعب الشيخ علي الطنطاوي-رحمه الله- دورًا كبيرًا في تكوين شخصية الطفل القوية، والناجحة بتطوير استعداداتهم، وتكليفهم بأعمال تنمي شخصياتهم، بصبرٍ واحتمالٍ، دون تأنيب على عدم إتقان أي شيء من مرة واحدة، فالتدريب المستمر ضروري لتنمية وصقل شخصية الطفل. 

كما كان يدفع أحفاده الصغار للإمامة في الصلاة، وكان لا يوبخهم حين يتلعثمون رهبًا وخجلًا، ولا يقلل من شأنهم، بل يشجعه ويقدمه للإمامة، مرة تلو الأخرى حتى يشب، وقد اعتادها وأتقنها.

للطنطاوي –رحمه الله- مواقف كان فيها حازمًا جادًا، لا يفسد أثرها بالعاطفة والدلال، فكان إذا شرع بالعقوبة، اختار وقتًا مناسبًا، وطريقةً صحيحة تغني عن العشرات من أنواع العقوبات. فالإكثار من التهديد والمبالغة في العقوبة، أسلوب يكاد لا يوصل إلى نتيجة. إضافة إلى ابتكار أساليب، تجعل الأطفال يؤدون واجباتهم ومهامهم، بدل إكراههم عليها بالقوة والسلطان.

فضلًا عن كل ذلك، لعب الشيخ علي الطنطاوي-رحمه الله- دورًا كبيرًا في تكوين شخصية الطفل القوية، والناجحة بتطوير استعداداتهم، وتكليفهم بأعمال تنمي شخصياتهم، بصبرٍ واحتمالٍ، دون تأنيب على عدم اتقان أي شيء من مرة واحدة، فالتدريب المستمر ضروري لتنمية وصقل شخصية الطفل، كتدريب طفلة صغيرة على صنع القهوة بخطوات، ومع القليل من التوجيه والإرشاد.

كما كان يدفع أحفاده الصغار للإمامة في الصلاة، وكان لا يوبخهم حين يتلعثمون رهبًا وخجلًا، ولا يقلل من شأنهم، بل يشجعه ويقدمه للإمامة، مرة تلو الأخرى حتى يشب، وقد اعتادها وأتقنها. وكان يعهد إليهم بشراءٍ ما يلزم البيت وهم صغار، ويترك لهم خيار الانتقاء، ومسؤولية اتخاذ القرار. كما كان يهتم بميول الأطفال، ويلتمس مواطن الإبداع لديهم، فينميها؛ فكان كثيرًا ما يستغل جلساتهم العائلية، فيحولها إلى جلسات علمية هادفة، ككتابة الشعر والتجويد.

 | الفضائل

 استفاد الطنطاوي من الجلسات العائلية في تكوين فضائل العادات والصفات، كالإيثار في الطعام مثلًا، وتذكر حفيدته من ذلك موقفًا جميلًا، حيث جاء مرة بلوحٍ من الشوكلاتة، فقطعها قطعًا غير متساوية ومتفاوتة بشكل كبير في الحجم، ورتبها في صحن، أخذ يدور به على أحفاده ليختبرهم أيهم يأخذ أكبر قطعة، ليكون لهم درسًا يتذكرونه بعد الحادثة بعشرين عامًا.
ومن الفضائل التي رباهم عليها أيضًا، احترام الموعد، وتقدير النِعم والمحافظة عليها

كما استفاد من الجلسات العائلية في تكوين فضائل العادات والصفات، كالإيثار في الطعام مثلًا، وتذكر حفيدته من ذلك موقفًا جميلًا، حيث جاء مرة بلوحٍ من الشوكلاتة، فقطعها قطعًا غير متساوية ومتفاوتة بشكل كبير في الحجم، ورتبها في صحن، أخذ يدور به على أحفاده ليختبرهم أيهم يأخذ أكبر قطعة، ليكون لهم درسًا يتذكرونه بعد الحادثة بعشرين عامًا.

ومن الفضائل التي رباهم عليها أيضًا، احترام الموعد، وتقدير النِعم والمحافظة عليها، والاعتناء بالأشياء، وفي هذه الفضائل في الكتاب، الكثير من الأمثلة الرائعة التي تدل على عظم المربي. كان يعلمهم –رحمه الله- الجرأة في الحق، وبأن لا أحد يملك الضر أو النفع إلا الله، وبأن من اشترى رضى الناس، بسخط الله، سخط لله عليه، وأسخط عليه الناس، وبأن الذي يفقد الجرأة في مواطن الحق، يضيع حقة وحقوق الآخرين.

واستغل الجلسات العائلية، في الأحاديث المفيدة، بدل أن تكون هدرًا للوقت، والأحاديث السخيفة، واكتساب الإثم. فكانت فرصة لبحث أمور مفيدة، وتعليمهم البحث بأنفسهم، في المراجع والكتب عن أجوبة لأسئلتهم، ونقل عدوى حب القراءة والكتب لهم، وعلَّمهم فن القراءة، والحرص والمحافظة على الكتب.

 | فذَكّر

كوفر الكتاب.jpg
كتاب عابدة المؤيد العظم حفيدة الشيخ الطنطاوي

كان –رحمه الله- مربيًا يحرص على التربية الشاملة المتكاملة، فقد اهتم الطنطاوي بجانب الصحة وقوة الجسم، وقد جمع حرصه عليهما، إلى جانب حرصه على تربية العقيدة السليمة والأخلاق والعلم، فكان يعلمهم طرق الدفاع عن أنفسهم إن اضطروا لذلك، ردا للأذى لا عدوانًا على الآخرين، فكان يقتني بعض أدوات التدريب، ويتمرن ويمارس الرياضة ويحثُّهم عليها، كما كان يعتني بالغذاء الجيد، ويوصيهم بذلك، لأنه السبب الأساسي في صحة الجسم وقوته، بالإضافة إلى حرصه على النوم الجيد.

"...وهكذا تكون التربية مزيجًا من كل هذا، توجيهات وتنبيهات وأوامر ونواهي ... ثم يأتي الأهم، وهو متابعة كل هذا والتأكيد عليه، حتى نضمن انغراس المفاهيم الصحيحة في عقول أولادنا، والتزامهم بها في سلوكهم، وإلا فإن المغريات كثيرة، ورفاق السوء أكثر، والإنسان من طبيعته النسيان والإهمال والتأجيل والتسويف، لذا كان من واجب المربِّين التذكير المستمر، والمراقبة الدائمة، والانتباه إلى الأخطاء. وبهذا الأسلوب، وبالصبر والمضي في متابعة العيب إلى آخر الطريق، نضمن علاج العيب، وصلاح العلة واستقامة الحال".

 ما تتمناه وأنت تقرأ الكتاب، أن تكون قد تعرضت لهذا النمط من التربية، أو أن تكون حفيدًا لهذا الجد، الرقيق الذكي القدوة الذي استطاع أن يترك أثره في قلوب وعقول أبنائه وأحفاده، حتى ظهر أثره عليهم في كتابتهم، وفي أخلاقهم، وفي ذكرهم له.

إنّ التربية عمل طويلٌ شاقٌ، ولكنه يقصر ويهون، حينما نتعلم الأساليب الصحيحة، ونتبنى الطرائق السليمة، وفي مثل هذا الكتاب، نجد القدوة الحسنة لجدٍّ وليس لأب أو أم، جدٌّ نذر حياته للدعوة والتربية، وبشكل خاص لتربية أحفاده وغرس قيم الإسلام ومعانيه في قلوبهم، وبمثل هذا الجد يحق للحفيد أن يفتخر.