بنفسج

الجلي المزيّن بالشوكولاته.. ينغّص طفولة "نور"

الثلاثاء 23 يونيو

تتمنى أن تأكل علبة "الشوكولاته" كاملة دون أن تلتفت لما سينالها بعد نفادها، مرّات عدة احتفظت فيها "نور" بقطع الحلوى خفية، وتناولتها بعيدا عن أعين ذويها. تطرح بعمرها الأحد عشر سؤالها الدائم "متى ستأتي اللحظة التي أتناول فيها كل شيء؟" هي تنتقي طعامها بعناية فائقة بمساعدة ذويها، وتتوقى كل ما يمكن أن يضاعف سوء حالتها الصحية.

في الوقت الذي تتقن فيه "نور" فنّ الرسم، تجيد حقن إبر "الأنسولين" أيضا؛ ففي بداية الأمر خشيتْ ذلك، لكن بمساعدة والدتها التي وهبت أضعاف وقتها، أصبحت تجيد حقن نفسها بالأنسولين قبل كلّ وجبة. يغدو الأمر في واقعه أشبه بروتين يومي، رغم أنه في بادئه بدا كــ"جحيم" على حد تعبير والدها، الذي بان صوته مرتجّا عندما حدّث بنفسج عن قصة إصابة طفلته البكر "نور" بمرض السكري.

 | الإبرة اللعينة

الطفلة نور عواد البالغة من العمر أحد عشر عامًا، مريضة سكري، لم تكتمل بواكير الست سنين الأولى من عمرها حتى ظهرت بعض الأعراض غير الطبيعية على سلوكها، كشرب ما يقارب الــ18 كوبًا من الماء، وبعض الغشاوة التي تحول دون رؤيتها للأشياء.
 
انتاب القلق والديها اللذين توجها لإجراء الفحوصات اللازمة، فكانت النتائج "صادمة" ومرعبة في الوقت ذاته، لعائلة خلا فيها إصابة أي من أفرادها بمرض السكري.
 

لم تكتمل بواكير الست سنين الأولى من عمر نور حتى ظهرت بعض الأعراض غير الطبيعية على سلوكها، كشرب ما يقارب الــ18 كوبا من الماء، وبعض الغشاوة التي تحول دون رؤيتها للأشياء. انتاب القلق والديها اللذين توجها لإجراء الفحوصات اللازمة، فكانت النتائج "صادمة" ومرعبة في الوقت ذاته، لعائلة خلا فيها إصابة أي من أفرادها بمرض السكري.

"كنت آمل لو قال لنا الطبيب الفحوصات خاطئة... طفلتك معافاة... لكن بدت علامات الارتياب على وجه الطبيب الذي ساق إلينا خبر إصابة طفلتي بالسكري. وبدأ بمنحنا توجيهات حول كيفية التعامل معها دون مقدمات". هكذا يقول والد الطفلة مازن عوّاد، الذي خرج من عيادة الطبيب فور سماعه ذلك، وأخفت الأم بدورها ألمها وخيبة أملها، ليباشرا رحلة علاج طفلتهما.

تظنّ "نور" في كثير من اللحظات أن رحلة العلاج قد تنتهي يومًا ما، فينجلي المُصاب عن جسدها. هذا ما توحيه بسلوكياتها المرئية، وفي بعض تعبيراتها التي يكتنفها الحزن والاستياء، كما يخبر والدها بأحد المواقف التي حالت فيها نور دون حقن إبرتها؛ حيث وجدوها ليلا وقد حصّنت أسفل بطنها بكتبها الدراسية، مرتدية الملابس فوقها، في خطوة تحاول فيها أن تلجم تلك الإبر التي تغزو جسدها يوميا.

"أرى كيف تكون تعبيراتها عندما آتي إليها بمجموعة من علب الأنسولين الجديدة، مشكلة طفلتي أنها تعتقد أن العلاج سينتهي، أحاول دوما أن أقنعها بأنّ رحلتنا ستكون طويلة ولا ختام لها". يقول والدها.

كلما فتحت الثلاجة، تتعلم نور مهارة العدّ على علب الأنسولين، تحاول أن تصل إلى خاتمة خيط البلاء الذي أصابها، تحاول بتعدادها أن تقصّر مسافاتها إلى الشفاء، ليبدو الأمر أشبه بالمستحيل عندما تتفاجأ برزمة علبٍ أنسولية أخرى، ابتاعها والدها لاستكمال رحلة العلاج، يقول: "أرى كيف تكون تعبيراتها عندما آتي إليها بمجموعة من علب الأنسولين الجديدة، مشكلة طفلتي أنها تعتقد أن العلاج سينتهي، أحاول دوما أن أقنعها بأنّ رحلتنا ستكون طويلة ولا ختام لها".

ويضيف والدها في حديثة لــبنفسج؛ "لا أستطيع أن أصف الثقوب الظاهرة على أسفل بطن "نور" وهو مكان حقن إبر الأنسولين، لكونه الأقرب إلى البنكرياس. نحاول أحيانا أن نبدل ونغير في مكان الحقن كأن يكون على الفخد، لكن أنا حزين فعلا على ابنتي". ويستأنف حديثه "الله يعينها .. فش حد بقدر يتحمل بهاد العمر".

 | سرُّ "الحلوى"

نور التي تضمر في داخلها حب "الحلوى" بشكل كبير، فكلّ ممنوع مرغوب، هذا الحب لا تظهره سوى كسرٍّ صغير جميل لممرضتها التي أعلمتها عن تناولها "الجلي المزين بالشوكولاته" والذي سبّب ارتفاع السكري فجأة في دمها، بعدما كان السبب محطّ غموض وتعجب من الأهل الحريصين على صحة طفلتهم.

في كثير من الأحيان ذكاء "نور" وتفوقها الدراسيّ، كشف حيلا عديدة استعان بها والداها لوقايتها من ارتفاع نسبة السكري في دمها. يسرد لنا والدها عن إحدى المرات التي أرسلت فيها طفلته صديقتها لتشتري لها من مقصف المدرسة، بعدما أوعز إلى البائع أن يقدم لها من البضاعة التي يخصصها لها والدها، وقد وجدت نور أن البائع لا يعرض عليها سوى خيارات محددة لم تستوعبها قناعاتها الطفولية، بحقها الدائم في أن تتناول ما يتناوله الآخرون خاصة من زملائها وصديقاتها.

يلفت والدها قائلا:"نحاول قدر المستطاع أن لا تعي طفلتنا بأنها مختلفة عن إخوتها، فالطعام الذي نتناوله تستطيع هي أن تتناوله أيضا لكن ضمن مراقبتنا، وحتى لا يكون مرضها سببا في أية علاقة متوترة قد تنشأ، أوجهها في كثير من الأحيان لفحص نسبة السكري قبل وقت وجيز من تناول الوجبة، حتى لا يتسلل إليها شعور بأن مرضها يعيق انسجامها ومشاركتها طقوسنا وأوقاتنا".

نور التي تضمر في داخلها حب "الحلوى" بشكل كبير، فكلّ ممنوع مرغوب، هذا الحب لا تظهره سوى كسرٍّ صغير جميل لممرضتها التي أعلمتها عن تناولها "الجلي المزين بالشوكولاته" والذي سبّب ارتفاع السكري فجأة في دمها، بعدما كان السبب محطّ غموض وتعجب من الأهل الحريصين على صحة طفلتهم. يخبرنا الأب بهذا الأمر وقد يظهر ابتسامةً في لجّ حزن عميق بداخله، فيقول: "تحدثنا الممرضة أن نور كانت جدا سعيدة عندما أفرجت عن سرها بتناول الحلوى، كانت كمن حقق إنجازا وحلما كبيرين؛ لكن للأسف كانت تبعاته مؤلمة".

 | خارج صندوق "السكري"

وضع والد نور المادي لا يحتمل مصاريف نفقات علاج طفلته، كون التأمين الحكومي لا يغطي سوى نفقات ثمانية أقلام من الأنسولين فقط، من أصل 15 قلمًا.
 
 بالإضافة إلى نفقات المبيت الشهري في المشفى. لذلك افتتحت والدتها مشروعًا للمساعدة في المصروفات مستغلة مهاراتها في صنع الحلوى والمعجنات، أسمت مشروعها "أم يزن"، وأصبح لها زبائن عدة يطلبون الطعام من صنع يدها.

ويلفت الوالد، أن ارتفاع السكري ينشأ عنه ما يسمى "حموضة الدم"، والتي تستلزم علاجًا متيقظًا مهابة تدهور صحة طفلته، فهي تحتاج شهريًا لدخول المستشفى لمدة تتراوح من 3-5 أيام، فأقل المؤثرات يمكن أن تسبب سوءا في حالتها؛ من بينها القلق والتوتر والغضب، وليس فقط تناول الحلوى.

وحول تغطية نفقات علاج طفلته، يشير الوالد الميسور، أن التأمين الحكومي لا يغطي سوى نفقات ثمانية أقلام من الأنسولين فقط، من أصل 15 قلمًا، عدا عن الإبر التي لا تكون مرفقة بهذه الأقلام، بالإضافة إلى نفقات المبيت الشهري في المشفى.

وحول سؤال مجمل التكاليف التي تحتاجها "نور" شهريًا للعلاج، ينوّه بأنها تصل إلى 1500 شهريًا، وفي بعض الشهور تتضاعف النفقات بتضاعف حالتها، ليبدو الأمر مرهقا ومفلسا لدخل العائلة البسيط، والتي تحاول أن تجد منفسا ماليا لعلاج طفلتهم.

ويستكمل الوالد حديثه لــ"بنفسج" عن إحدى محاولات العائلة لسد نفقات العلاج، والتي كان آخرها الاستعانة بمهارات والدة نور التي تبدع في مجال الطهي وصنع الحلويات "تحديدا". ومن هنا كانت أولى الخطوات؛ "في إحدى المرّات قدمتُ لصديق قطعة حلوى من صنع زوجتي، وطرح علي سؤالا لماذا لا نقوم بصنع الحلوى المنزلية ونخلق مشروعا خاصا بنا يسد عجزنا". هكذا يقول والد نور.

ويضيف بأنه فعلا بدأت زوجته بصنع ما تتقن، وتشارك الناس بما تصنع، لتتوسع دائرة الراغبين بالحصول على منتجات "أم يزن" التي تتميز باللذة والإتقان، فتقدم سلّة منوّعة من الحلوى والمعجنات والمأكولات الشهية.

كان هذا المشروع بمثابة نورٍ صغير في عتمة خيّمت منذ قرابة الخمس سنوات على هذه العائلة، التي تحتضن بين كنفيها أربعة أطفال. نور الفرحة الأولى، والعناء الأوّل، والبهجة التي يتهلل برؤيتها كل من رآها، وكل من نظر بعينيها المتوقدتين إبداعًا وذكاءً. فرغم أن السّكري أنضجها أعمارا، لكنّ علاماتها الطفولية هيَ هيَ، فلم تزل متوشحة بالمشاكسات والملاعبات التي لا يطفئها أي مرض.