بنفسج

مسك: أين حبيبتيكِ؟

الأحد 26 يوليو

كأي فتاة تتلهف ملاك لتطرق طفلتها أذنها، وتطرب لصوت بكاءها التي طالما انتظرته، تتحسسها في بطنها، وترقب حجمها في كل مرة تنظر لنفسها في المرآة، كأي فتاة ترقب طفلها الأول. تتسارع الأيام وتمر الأشهر التسعة؛ ليقترب اليوم الموعود. جهزت ثياب الطفلة الجديدة التي نُثرت في أرجاء الغرفة طيلة تلك الفترة، والنّاس من حولها في غاية السعادة، فقد حان موعد الولادة.

الألم يسرى في جسد ملاك والدموع تحكي ألماً مشوباً بسعادة غامرة، أطرق باب غرفة الولادة، فرقاً وخوفاً يجوب القلوب.  وفي خِضَّم هذا المخاض الدّامي، يروح الأب ويجيء أمام الغرفة، يغلّف الدعوات ليملأ السماء بصدى قلبه كانت آية: " والله وليُّ المؤمنين " تخرج مع كل نفس، تمر الدقائق كما السّاعات الطِوال والأب يتقلّب بين خوفين؛ على زوجته وابنته.

وفي غرفة الولادة، حيث حدث ما لا يعلمه من هم في الخارج، إذ أن الحبل السُّريّ قد التفَّ على رقبة الطفلة قبل الولادة بفترة، كان حدثاً مريعاً، لكنّ ملاك لم تعلم به، وبعد جهد حثيث التقطت مسك أنفاسها الأولى وعقرب الساعات يشير إلى الساعة الرابعة قُبيل الفجر، في الأول من نوفمبر من عام 1998، عم الفرح الأرجاء وأطربَ آذانهم صوت بكاءها، وفي سكون حملها والدها بِشْر وأذَّن في أذنها اليمنى، وأسموْها مسك، فملاك تحب اسم مسك علَّها تنثر عبقَ المسك في دروب حياتهم، ويزيل قدومها بعضاً من الكَدَرِ المتَكدِّس الذّي أثقل قلوبهم. فمتاعب الحياة كثيرة، فقد رزقهم الله بمسك بعد عدة محاولات كانت تبوء بإجهاض ملاك، حتى لجئت للزراعة لتنجب مسك.

 | سكون مسك

خرجوا من عند الطبيب، وبشْر لم يعط اهتماماً لفحص الطبيب، ظنّا منه أنه فحص روتينيا، لكن ملاك كانت ما بين الخوف والرجاء لله أن تكون مسك بخير. حان موعد مراجعة الطبيب، فدخلوا ورحب بهم، وهيأ النفوس ليخبرهم بأنَّ مركز الإبصار عند مسك قد تعرضَّ لنقص حاد في الأكسجين أثناء الولادة، إذ أنَّ الحبل السُّريّ التفَّ على رقبتها قبل الولادة لمدة كافيةً لإجهاد عصب البصر، وأنَّ بصرها ضعيف جداً، ويكاد يكون معدوماً والعلاج صعب جداً وفي أعمِّ الحالات لا ينجح.

 صُفعت قلوبهم بقوة، وأطرقوا رؤوسهم بحزن، جعلت ملاك تجول بناظريها على مسك وزوجها بشْر، عندها ضمّت ملاك مسك في حضنها وأمطرت دموعاً حتى ارتوت خدود مسك.

زادت بلدة دير الغصون_ في طولكرم_ ألقاً بقدوم مسك، مرت شهور لتتم مسك شهرها السادس، ستة شهور نثرت مسك عبقاً في قلوبهم وأزهرت سنين حياتهم المقفرة، لكنْ ثمَّة أمر غير طبيعي لاحظه غير واحد من أهلها، لماذا لا تضحك مسك عندما يلاعبها أحد؟ لاحظت أمها أنها عندما تحرك أصابعها أمام ناظريها لا تبدي مسك اهتماما لذلك، ولا تلاحق عيناها أصابع ملاك، ما بها؟

فكان لا بد من أن يراها طبيب الأطفال؛ ليحيلهم بدوره إلى طبيب العيون، وعند الطبيب وضعتها أمها على السرير، فشعرت ببرد يسري في ذراعيها؛ فحضنها لم يألف غير دفء مسك، وأنفها لم يعشق إلا أنفاس مسك، اخترق الضوء جفنيها الناعمتين، فسطع على عيونها العسلية، وبعد أن أنهى الطبيب الفحص اللازم أخذت ملاك طفلتها، فعادت مسك لسكونها.

خرجوا من عند الطبيب، وبشْر لم يعط اهتماماً لفحص الطبيب، ظنّا منه أنه فحص روتينيا، لكن ملاك كانت ما بين الخوف والرجاء لله أن تكون مسك بخير. حان موعد مراجعة الطبيب، فدخلوا ورحب بهم، وهيأ النفوس ليخبرهم بأنَّ مركز الإبصار عند مسك قد تعرضَّ لنقص حاد في الأكسجين أثناء الولادة، إذ أنَّ الحبل السُّريّ التفَّ على رقبتها قبل الولادة لمدة كافيةً لإجهاد عصب البصر، وأنَّ بصرها ضعيف جداً، ويكاد يكون معدوماً والعلاج صعب جداً وفي أعمِّ الحالات لا ينجح.

 صُفعت قلوبهم بقوة، وأطرقوا رؤوسهم بحزن، جعلت ملاك تجول بناظريها على مسك وزوجها بشْر، عندها ضمّت ملاك مسك في حضنها وأمطرت دموعاً حتى ارتوت خدود مسك، لم تصدق الخبر للوهلة الأولى، كان الخبر كافياً ليعيشا حالة من الحقيقة أشبة بالخيال، عادوا أدراجهم والهم أخذ منهم كل مأخذ لم يخبروا أحداً بذلك، عادوا والزهور من دروبهم ذبُلت، ولسان الحال يغني عن لسان المقال ستة شهور عقبها شهوراً مقفرة، لا يدريان كم مدتها وإلى متى تنتهي.

وبعد مرور الشهور وتعاقب الأيام، لم يبق باب أمل إلا طرقوه بقلوبهم؛ ليبوح بذات الجواب المؤلم يرد صداه في كل لحظة، فالأمر واقع ولا بد من الاصطبار، حكمة الله نافذة والقدر واقع لامحالة. لم يكن الأمر هيناً على مسك في طفولتها المكلومة، إذ لا نور يشق طريقه لناظريها، لا شيء سوى ظلام دامس، دليلها التحسس باليدين وأمها التي كانت تمسكها في تنقلاتها.

أي ألم بعد فقد البصر؟ كيف بها تسمع أصوات الأطفال يلهون تتعالى ضحكاتهم مع ألعابهم، وهي لا تستطيع أن تخرج معهم؟ أي جمال تراه حين تخرج مع أهلها في نزهة فينعتون الأرض بالجمال والشجر والأزهار، عن أي جمال تتحدثون؟ في أي قطر من الأوجاع تضربون؟؟

لن تبقى مسك مكتوفة العزم، لابد أن تصنع جمالها الخاص بها وترفعه عالياً، لذلك باشرت بتعلم لغة بريل في صغرها، وأرسلاها والدها لمركز لتعليم لغة بريل في طولكرم  لتتابع تعليمها ودراستها في ذلك المركز، كانت الآنسة "حفيظة" مديرة المركز وكانت تلاطف الأطفال ومسك بشكل خاص، إذ أنها لاحظت الهدوء الذي يعتريها ونباهتها وعلقها الرزين، في ذلك المركز، كانت تلهو مسك وتحب الجلوس في المكتبة، لتطبق ما تعلمته من مهارات القراءة والكتابة، في كل نهاية أسبوع كانت تعود لأهلها مثقلة بالكتب وتصيح: "ماما أحضرت الكثير من الكتب "، معنى ذلك مهمة أخرى لملاك لتقوم بترتيب فوضى الكتب وركام الأوراق في غرفة مسك.

تفضل مسك الجلوس وحدها ساعات تتفكّر وتتأمّل، إلا إذا سمعت صوت والدتها: "إنزلي ماما الغدا جاهز، تعالي كلي يا مسّوكة"، كانت تحب القراءة والكتابة في سكون الأمسيات وغلس الليل، تبثّ أشواقها لمن لم ترمقهم، فهي لا تتذكر تفاصيل آخر مشهد في حياتها، لا شيء يسعف شوقها المتجددّ لوجوه طالما اشتاقت أن تراها. تسمع أصواتهم من حولها.

 كانت مسك شغوفة بحب القراءة، وفي كل سنة في سنواتها الدراسية يزاد الشغف ويزداد جبل الكتب في غرفتها ارتفاعاً، فكانت عزلتها جميلة. إذ أنها بعثت فيها ذلك الشغف وعززته وفتحت أبواب نفسها المغلقة، تمرر أناملها عل نقاط منثورة في صفحات الكتب فتسكب في نفسها معان عميقة وتلملم جراحاتها.

ملاك وزوجها لم تنقطع حسرتهما على نور خُطِف من عيون مسك، كانوا في حزن دائم، إنهم يحبون مسك لكنّ قلوبهم تلفظ الآهات، وعيونهم تنثر الدمعات على صفحات الأيام، التي خالوها مقبرة لمسك، وأنها ستبقى في غرفتها دفينة الكتب والأوراق.

لكنّ ملاك وزوجها لم تنقطع حسرتهما على نور خُطِف من عيون مسك، كانوا في حزن دائم، إنهم يحبون مسك لكنّ قلوبهم تلفظ الآهات، وعيونهم تنثر الدمعات على صفحات الأيام، التي خالوها مقبرة لمسك، وأنها ستبقى في غرفتها دفينة الكتب والأوراق. لكنّ الله لا يمنع العبد حين يمنعه عبثاً، بل إن رحمة الله تجلَّت في خلقها كفيفة، ولله در حكمته، وإن غابت عن عقولنا! 

 كانت مسك تتحسَّس الحزن من والديها، لكن لم تنثني عزيمتها، فكانت غرفتها الملاذ الآمن ما بين الكتب والأوراق، كانت تحب الكتابة، فقد حباها الله هذه الملكة، تقضي معظم الوقت تكتب بعد الانتهاء من دراستها باستخدام ألواح بريل وقلم خاص ذو رأس مدبب ومقبض بلاستيكي.   

 أدركت ملاك أنّ التوكل على الله هو عصمة أمرها، فعرفت كيف تصنع من كل محنة منحة عظيمة تشرق على قلبها من خلف جبال الشؤم العظام. وفي ليلة من الليالي، صعدت ملاك الدرج لتصل إلى غرفة مسك، فوجدتها نائمة على سريرها بعد أن كتبت ما تيسر أن تكتبه، ووجدت شمعة مضيئة على المكتب وقلمها فوق الورقة قد أجهدته مسك في ساعات الكتابة الطّوال.

أنا في ذلك اليوم شعرت بقلبي يكاد ينفطر، وتأجج فيه حزن متجدد، لكنني اليوم حزينة يا أمي، لكن أوراقي تفهمني وتسمعني أكثر منكم، لماذا ينبغي أن أتنفس رائحة الحزن في بيتكم هذا، فأشعر بأنّ جدرانه تلفظني، وما ذنبي وما هو جُرمي، حزنكم ويأسكم أعياني.

كانت ملاك تعرف القراءة بلغة بريل؛ لأنها كانت تُدرِّس مسك في صغرها _لكنها الآن في مرحلة التوجيهي _ أمسكت ملاك الأوراق وأخذت تقلبها، ووجدت من بين الأوراق ورقة عنوانها: "لماذا أنتم بؤساء؟ "، صدمها ذلك العنوان، وإذ بها تكتب: " أنا في ذلك اليوم شعرت بقلبي يكاد ينفطر، وتأجج فيه حزن متجدد، لكنني اليوم حزينة يا أمي، لكن أوراقي تفهمني وتسمعني أكثر منكم، لماذا ينبغي أن أتنفس رائحة الحزن في بيتكم هذا، فأشعر بأنّ جدرانه تلفظني، وما ذنبي وما هو جُرمي، حزنكم ويأسكم أعياني.

روحي طليقة في الدنيا وإن كان بصري أسيراً"، وكلمات كثيرة كانت كما سياط تتسارع لتضرب جدران ذلك القلب الذي يحب مسك حتى ارتسم الحب في قسماته، وفي حنايا الأضلع شوق عتيق، تشهد الدعوات الفجريّة تمخر عباب السماء في كل سجدة وسكون ليل، لم تتمالك سيل الدموع التي تعرف جيداً طريقها على قسمات وجهها، وتحشرج الصوت وتوارت الحروف خلف ستار الدموع المحترقة.

 سارعت بالخروج قبل أن تستيقظ مسك وتعكر صفو أحلامها البنفسجية، عادت إلى غرفتها لتنام، وأي نوم والكبد منها ينزف من وطأة الكلام، فمضى الليل الباكي، وتواصل فيه الدمع على لحن زخات المطر.  طلع صباح ليلة باردة واستيقظت مسك، وتجهًّزت بمساعدة ملاك لتذهب إلى امتحانها الأول من الامتحانات النهائية للثانوية العامة، عانقتها ملاك قائلة: "حبيبتي ديري بالك منيح ربي يحماك". ذهبت مسك والدعوات تطرق أذنها، وبقيت ملاك ترقبها حتى توارت خلف منعطف، والأمر سيان صباح كل امتحان.

كانت هذه السنة صعبة على مسك كأي طالب في الثانوية العامة، لكنها على مسك أصعب؛ إذ أنّ طريقها إلى النور تشقّه من قحف الظَّلام، حيث طريقة الدراسة مختلفة، بالرغم من ذلك لم تنقطع مسك عن الكتابة، ولم يجفّ حبر قلمها النّازف، ولم تخبو نور تلك الشمعة التّي كانت تشعلها عند الكتابة، كانت تحبّ ذلك بشكلٍ خاصّ، خصوصاً عندما تشعر بدفء الشمعة يتسلل إلى خديها ويداعب أناملها.

ولا سبيل من اشتعال جذوة الأمل في قلوب الوالدين بين الفيْنة والأخرى، ليحاولوا جاهدين لعلاج مسك قبل دخولها التخصص الذي تحبه وتتشوف إليه، حتى قرّروا إجراء عملية لمسك، مع أن احتمال نجاح العملية لا يتجاوز خمسة بالمئة، لكن، لا ضيْر من المحاولة.

 كأي شخص يعاني من إعاقة في جسده فإنّ نوره يبقى طيّ الكتمان ويظنّه النّاس من حوله أنّه خُلِق ليعيش جسداً ويموت روحاً، كانت مسك لا تلقى اهتماماً يتناسب وقدراتها وملكتها في الكتابة، لكن العزم منها لم ينضب، وتداركتها نعمة من الله لتتخطى كل ذلك، فلم تسقط قلمها، ولم تبعثر أوراقها التي سكبت فيها ماء روحها وفيض وجدانها. حتى انتهت تلك السنة بنجاح باهر، طرق الأبواب يوم إعلان النتائج، فشهد البيت أجواء فرح أشرقت بعد طول ظلمة الليل.

ولا سبيل من اشتعال جذوة الأمل في قلوب الوالدين بين الفيْنة والأخرى، ليحاولوا جاهدين لعلاج مسك قبل دخولها التخصص الذي تحبه وتتشوف إليه، حتى قرّروا إجراء عملية لمسك، مع أن احتمال نجاح العملية لا يتجاوز خمسة بالمئة، لكن، لا ضيْر من المحاولة.

في مشفى سان جون في القدس، استقرت خطاهم، ومسك نائمة على السرير، تجهزت للعملية والعزم باقٍ في قلبها، دقائق بقيت لإجراء العملية وجاء الطبيب فأفلتت ملاك يد مسك. قاومت دموعها وودت لو بقيت معها وقلبها يأبى إلا أن يرافق مسك في غرفة العمليات، وفي اللّحظات الأخيرة قبل أن يُغيِّب البنج عقلها، توثب في رأسها تفاصيل ولادتها مع أنها لم تشهد ذلك إلا أنها رسمت في ذهنها وجع أمها. غرفة الولادة، لحظات البكاء الأولى، لم تدرِ مسك سبب ذلك، اقتحام للذاكرة غير متوقع!

بعد إجراء العملية، مسك ملقاة على السرير، عيونها قد غُطيت بالشاش الأبيض، وأمها تمسك بيدها ومسك ترتجف، والأب يبكي كما طفل صغير يبحث عن أمه، وكأن سبعة عشر عاماً مرت كلمح البصر فطرقت ذاكرته أحداث ماضية.  يكشف الطبيب عن عيون مسك والألم يطرق رأسها وهي ترمش بسرعة.

كان لا بد من تلقيهم خير أنّ مسك كفيفة أول مرة، أن يطرق آذانهم تارة أخرى كأنهم يسمعونه اللّحظة، خرجوا من المشفى بعد أن شفيت مسك من العمليّة، والقلوب الحزينة مؤمنة، لكنّ القلوب الحزينة صابرة. دار حديث بين الوالدين أثناء عودتهم للبيت، ومسك خطفتها سِنة من النوم. الأب: يا ملاك بكفي عياط البنت ما ماتت !! الأم: عنجد والله، ما شاء الله، والله بعرف ما جبت شي جديد. الأب: أنا عارف عنك بس. تنهد بشر وأطرق صمتاً، ورحم قلباً، قلب الأم!

 قد اشتاقت ملاك لغرفتها وكتبها وقلمها والأوراق، كانت مجهدة حين الوصول لكنّها آثرت أن تكتب أحداث رحلتها بدل أن تشتغل بالقعود، وسماع ثرثرة النساء اللواتي توافدن للبيت ليتفقدن مسك.عاد الليل يجر أذياله ويرخي الظلام سدوله على بيت لا بد يولد فيه قلب حي، ذلك القلب النابض بالإيمان، يزخر بالدعوات حين السجود وحين الصّلاة.  لقد آن لمركب الحياة أن يكمل سيره، فلا مجال للوقوف!  آن لمسك أن تلتحق بالجامعة، فالجامعات أوشكت أن تغلق أبواب التسجيل، مكوثها في المشفى وجلوسها في البيت بعد ذلك عرقل أمور تسجيلها.

 نور خطف الظلام

التحقت مسك بجامعة النجاح، لتحصل على مقعد في تخصص الفقه والقانون، ووجدت الجامعة ميداناً خصباً لترى كتاباتها قبس النور ويحلق قلمها في سماء الجامعة؛ ليصل صداه إلى قلوب الطلاب كلهم.  كانت تمشي مسك كالشامة في أروقة الجامعة، وقورة في مشيتها وفي القلب همة تعانق السماء، فأول الطريق هم، ينبثق عنه همّة، رغم سذاجة بعض التعليقات التي كانت تسمعها ممن حولها.
 
تكللت سنة التخرج لدى مسك بشهادتين، شهادة تخرجها من الجامعة، وأي شهادة هي الثانية؟ إنها شهادة حفظ القرآن، كانت مسك في مراحل حفظها الأخيرة تتنوارى عن عيون الأهل لتفاجأهم بإتمام حفظه.

التحقت مسك بجامعة النجاح، لتحصل على مقعد في تخصص الفقه والقانون، ووجدت الجامعة ميداناً خصباً لترى كتاباتها قبس النور ويحلق قلمها في سماء الجامعة؛ ليصل صداه إلى قلوب الطلاب كلهم. كانت تمشي مسك كالشامة في أروقة الجامعة، وقورة في مشيتها وفي القلب همة تعانق السماء، فأول الطريق هم، ينبثق عنه همّة، رغم سذاجة بعض التعليقات التي كانت تسمعها ممن حولها، ورغم صعوبة تعاطيها معهم إلا أنها كانت تقضي وقتها مع صديقتها عائشة كانت قد تعرفت عليها في سنتها الأولى، وبدأت طريقها في حفظ القرآن لأنها طالما باشرت بذلك في صغرها وتترك فور البداية!

أهدتها صديقتها عائشة كتاب "لماذا أنزل الله القرآن؟" ليكون عوناً لها في الطريق في ذلك الطريق المزهر، كانت مسك ترى نفسها في كل يوم حافظة لكتاب الله، مع كل آية تحفظها تشعر أنها تقترب أكثر وأكثر من نقطة ثابتة، لتتوج وسام الحافظين، في فراغ الجامعة وفَلتات الأوقات يكون المصحف حاضراً فتذهب هي وعائشة وراء كلية الحقوق لتقرأ حفظها على عائشة، ويا لنداوة الصوت وحسن الترتيل.
 كان حفظ القرآن يشكل حافراً كبيراً لها في محنتها، وكانت تشعر بأن آية واحدة كفيلة بإسناد قلبها وسكون أوجاعها فمضت في ذلك الدرب، كيف يموت قلبها وقد خالطت نبضاته القرآن؟، وكيف وهو أنيسها؟ تلك المساحات الرخوة من قلبك يقويها القرآن فلا تهتز لكلام بشَر.
استوقفها يوماُ ما آية "ما يفتح الله من رحمةٍ فلا ممسك لها " فطرقت شغاف قلبها، فأخذ عقلها يجول في رحمات الله التي تتقلب بها، إذ هداها لحفظ القرآن وحب الكتابة والقراءة، وحديث نفسها:" إنّ عشرين عاماً خلت من عمري لم تكن بالسهلة، لكن الحياة الآن أصعب من ذي قبل، وضعت فجأة في دولاب الحياة الحقيقي، والآن ماذا بعد يا مسك؟  ستظل أوراقي صامتة كما قلمي أيبقى ذلك النور في جنباتي ولا تتجاوز كتاباتي حدود أوراقي، فلا يرى غيري ممن هم مثلي أن رحمة الله تسعهم كما غمرتني! " أغمضت عائشة عينيها وباغتتها بكأس الشاي الدافيء وفطور لذيد قبل أن تقرأ عليها حفظها.
كان حفظ القرآن يشكل حافراً كبيراً لها في محنتها، وكانت تشعر بأن آية واحدة كفيلة بإسناد قلبها وسكون أوجاعها فمضت في ذلك الدرب، كيف يموت قلبها وقد خالطت نبضاته القرآن؟، وكيف وهو أنيسها؟ تلك المساحات الرخوة من قلبك يقويها القرآن فلا تهتز لكلام بشَر. بدأت مسك في سنتها الثالثة تلملم أوراقها ومقالاتها وبدأت بنشرها تدريجياً، فأنبأت عن وافر عقلها وعظيم فكرها، استجمعت فيها كل مشاعرها وبرقت في ثنايا السطور همتها وجمال روحها التي لا تعرف لليأس طريقاً.

 وفي يوم من أيام الفصل الدراسي الأول في سنتها الرابعة كان الفرح يتراقص في قلبها، إذ أن أعمالها سترى النور بعد جهد طويل وسهر في الليالي. ازدحمت قاعة كبيرة في الجامعة بعدد غفير من الحضور، والوالدان يجلسان في المقدمة، اعتلت مسك منصة الحفل، وبعد الترحاب والتعريف بنفسها وموهبتها قائلة بصوت ارتجف قليلاً، لكنه سرعان ما انتظم: " النور في القلب أجمعه، هو في قلبي أراه يتفجر بين جنباتي، قد أخذ الله مني البصر، لكنّ النعمة التي أتقّلب فيها، أعتقد أنها أحلى من البصر. لله ما أخذ وأعطى، ليس من فقد بصره أعمى لكنّ العمى عمى البصيرة. قال تعالى:" فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، وإن سألوني أين حبيبتيك؟ قلت: لن أفقد النور بعد أن وجدته ولن ألفظ شذاه بعد أن نشقته والسلام “.

 كانت تلك الكلمات التي اختارت مسك أن تكون على غلاف كتاب أسمته: " نور خطف الظلام"، حكت فيه عن ذكرياتها، وبثت فيه رسائل لفاقدي البصر، كيف أن النجاح لا يحده شيء، وأن الهمة العالية يرفعها الله إلى عنان السماء. تم توقيع الكتاب والمصادقة على نشره، لتبدأ مسك بالتحضير لإخراج كتاب آخر واسمه " وفقدت نور عيوني"، يالله! كم من أعمى البصر حيّ البصيرة!

تكللت سنة التخرج لدى مسك بشهادتين، شهادة تخرجها من الجامعة، وأي شهادة هي الثانية؟ إنها شهادة حفظ القرآن، كانت مسك في مراحل حفظها الأخيرة تتنوارى عن عيون الأهل لتفاجأهم بإتمام حفظه، كانت سورة المائدة هي آخر سورة تحفظها وكان آخر مرة تذهب فيه للمسجد لتسمع آخر صفحات من القرآن، لتتوج بعدها بوسام الشرف ويعتلي رأسها تاج الوقار، وترصع اسم والديها بالضياء، وتحقق آمالهم فعلموا أن سنين عمرها أزهرت، وما أن عادت مسك للبيت تزف ذلك الخبر، وقد اشترت هديتين لوالديها. وما كان منهم إلا أن خروا ساجدين حال سماعهم، وكانت سجدة مسك قد سبقتهم في المسجد، فاشتبكت دموعٌ على خدود، وعانقاها ملياً!