بنفسج

عكس " الترند": عن شعور الغربة فينا!

الثلاثاء 11 اغسطس

كنت في الثامنة من عمري، طفلة صغيرة بأحلام كثيرة، ورغبة عارمة في التحليق عاليا والطيران، عندما أهدتني خالتي كتاب السيرة النبوية، ليكون بذلك مفتاحي نحو القراءة، أقصد نحو العالم! قرأته في ثلاثة أيّام متتابعات رغم لغته الرصينة، استشعرت للمرة الأولى أحاسيس الفقد والفراغ عند النهايات، وعلقت روحي في مقطع إسلام عمر بن الخطاب الذي أعدته مرارا وتكرارا!

مضيتُ بعد ذلك نحو قصص تشتريها أمي كمكافأة على تفوّقي في الدراسة، يلومني الأصدقاء: " كان يمكنك أن تطلبي دراجة بدل ذلك!" يأتي امتحان الشهادة الابتدائية، وأمنع بعده من الخروج لأسباب معقدة، أشاهد أبي وهو يتابع الأحداث السياسية التي تزامنت مع ما بات يُعرف بالربيع العربي، أجد لي هوسًا آخرا: السياسة!

في ساعات الهجير الصيفية الحارة، أجدني أرتدي مئزري البرتقالي، لتعذّري الحصول على مئزر أبيض! أخلط الفلفل الأحمر مع الخلّ والقهوة، أملا في الحصول على لون جديد. يعلّمني أبي تسجيل الملاحظات، ثم الخروج بحوصلة، أكتشف أني مولعة بالعلوم والتجارب، أتخصص فيما بعد في الفيزياء، أُلام على ذلك: " كيف تختارين الفيزياء رغم أن معدلك يخولك لامتهان الطب أو الهندسة؟!"؛ أصمت...

سألني البعض عمّا أريد أن أحققه، أجيب بعفوية: السفر حول العالم واكتشاف الحضارات! تأتيني اقتراحات شراء السيارة، والمنزل، و"ماركات" معينة للملابس والأحذية، أخمّن لوهلة:  إنه حلمهم؛ لماذا يريدون إدخاله عنوة في قائمة أحلامي؟!

أشاهد بعدها شريطًا وثائقيًّا عن مدينة التوائم، أتابع وثائقيا آخرا عن أحداث الخامس والعشرين من يناير، أركز مع ثالث عن نشأة مالك بن نبي في الجزائر، أنتشي باهتمام حديث التاريخ! "لا داعي إلى حرب باردة كالتي كانت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي!" في محاولة مني لإثارة جو من الفكاهة والمزاح والضحك، ينظر إليّ زملائي ببرود، يبدو أن التشبيه لم يرقهم، تخبرني إحداهن فيما بعد أني أهذي بكلمات غير مفهومة.

يأتي رمضان، نتفق على تبادل أسماء الذين سندعو لهم، تذكر صديقة اسم جدّها المتوفى بشجن، يذكر الآخر والديه، أذكر "عمر بن الخطاب" - كأنه رضي الله عنه محتاج لدعائي-، أُقابل بالنظرات ذاتها. يسألني البعض عمّا أريد أن أحققه، أجيب بعفوية: السفر حول العالم واكتشاف الحضارات! تأتيني اقتراحات شراء السيارة، والمنزل، و"ماركات" معينة للملابس والأحذية، أخمّن لوهلة: " إنه حلمهم؛ لماذا يريدون إدخاله عنوة في قائمة أحلامي؟!"

كان ذلك بعضٌ من مواقفَ، خلتها طبيعية، تدخل ضمن اختيار الفرد، لكني نوقشت فيها بشراسة، ورُفضت لتبني بعضها. لم أكن أفهم شيئا حينها، ولعلّ الجهل آنذاك كان لي وطنا أراحني وأراح طفولتي البريئة من كثرة التحليلات، لكني عندما فهمتُ، كدتُ أيأس من حجم الزيف في هذا العالم.

كان لابدّ لي عند الاختيار، أن أحرص على ما يتضمنّه الترند، حتى صار هذا الأخير معيارًا أساسيًّا في كل شيء، يحدّد بناء عليه نوع ملابسك، وأغنيتك المفضلة، ولونك الذي تحب، وطريقة مشيك، وكلامك، وعنوان الكتاب الذي تقرأ، والفيلم الذي تشاهد، والتخصص الذي تدرس، والزوج الذي تختار، ثم تتغيّر بناء على تغيّره السريع الدائم، فإن لم تساير ذلك سريعًا، سُقط في يديك أو هكذا يظنّون! إنّها قصة قصيرة من بين آلاف القصص عن شعور الغربة فينا، عن تحدي الانفصال رغم الاندماج، واتهامات التمرّد من غير تمرد، والثمن الذي تكسبنا إيّاه الخيارات، والإلزام اللامنطقيّ في أن تتمّ قولبتنا وفق مسار واحد، لا حيد عنه ولا محاداة.

لقد مضت تلك الأيّام سراعًا، ومضينا معها، لكنّ طفلة الثامنة لا تزال متوثبة في فؤادي، تتبين لي عقب كل موقف، بعد أن أنسى وجودها، فتقول:" صديقتي؛ غربتك ملاذك، ومأمنك الوحيد عن الفروض المزعومة، ولأن اختيارك ليس عيبا، واختلافك مع الآخرين ليس جريمة، ولأنها شخصيتك التي ركّبتها بنفسك قطعةً قطعة، بناء على ما تحبين، وما تختارين، ولأنها معاركك التي خضتها وحيدةً، وخرجت من أنقاضها منتصرة، ولأنّك أنتِ التي قيل فيك: " وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".