بنفسج

في تيهِ البحثِ عن الراحة والسعادة: أين يكمنُ المعنى؟

الجمعة 14 اغسطس

لو أنّنا افترضنا أنّه تمّ اكتشافُ مدينةٍ خَفيّة تُدعى مدينةُ الراحة المُطلَقة، يدّعي ساكِنوها بأنّهم يعيشون بسعادةٍ منقطعة النظير بشكلٍ دائم، وأنّ حاكمَ هذه المدينة قرّر أن يُفصِحَ عن وجودِها على المَلأ وعن استعدادِه لتوسعتِها إلى إمبراطورية، وبدأ بدعوةِ الناس للانتقال إليها مُقدِّمًا لهم وُعودًا جازمة بأنهم سيقضون كلَّ حياتهم سعداء بما سيتمُّ توفيره لهم من وسائل الراحة إلى أنْ تُوافيهم المنيّة، ولكن بشرطٍ واحد!

| مدينة السعادة

 

لو أنّنا افترضنا أنّه تمّ اكتشافُ مدينةٍ خَفيّة تُدعى مدينةُ الراحة المُطلَقة، يدّعي ساكِنوها بأنّهم يعيشون بسعادةٍ منقطعة النظير بشكلٍ دائم.
 
 شرط العيش في هذه المدينة، أن تُروّضَ عقلكَ على التفكير في اللحظةِ الراهنة فقط، فلا يُسمَحُ لكَ فيها بنبشِ ذكرياتِ الماضي أو القلق بشأن المستقبل.
 
أنتَ هنا توقّعُ عقدًا ترهنُ فيه عُمرَك للوقت الآنيّ فقط، لتعيش براحة وسعادة.  

قد تكونُ هذه فكرةً لطيفة لإجازةٍ صيفية أو فترةِ نقاهة لبعض الوقت، ولكن هل يبدو هذا عرضًا سهلًا ومُغريًا لعشرةِ أعوامٍ مُقبلة، أو عشرين، أو خمسين عامًا من فراغ اللاّشيء؟ هل لكَ أن تتخيلَ نفسك باقٍ على ما أنتَ عليه لبقية عُمرك بلا هدفٍ أو عملٍ يشغلك أو غايةٍ تطمح لتحقيقها؟ وهل حقًّا تكونُ السعادةُ فقط في ديمومةِ الراحة في ظروفٍ مثاليّة؟

أظنُّ أنّ في تناقضاتِ العُمر حِكَم، وفي الكَدَرِ عِبَر، وفي تعاقبِ الفصولِ حياة، وفي العمل راحةٌ معنوية وانشغالٌ يُنقذُ الرُّوحَ من فراغِ اللّاشيء، وخلال الأيّام التي تُقلْقِلُ مضاجعَ رؤوسِنا وتُفضي بخيالاتِنا في رحلةٍ ذهنيّة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، يُمكنُ لهويّتنا الدنيوية أن تتشكّل ولكياناتِنا البشريّة أن تُصنَع في أحلكِ الظُّروف.

تمنحني هذه الأفكار فرصةً للتروّي في تجربتي السابقة كطالبة ماجستير في تخصص العلاج الوظيفي، والتي تعلّمتُ خلالها كمًّا هائلًا من المعلومات العلميّة والطبية التأهيلية، ولكنّني في ذات الوقت، كنتُ قد دوّنتُ بعضًا من العِبَر والجوانب الإنسانية، التي جعلتني أقف عند المعاني النسبيّة للسعادة والراحة الدنيوية من منظور بعض المرضى والنزلاء في العديد من المستشفيات والمراكز الإيوائية. وفي مقالي هذا أودُّ أن أسرُدَ لكم بعضَها في محاولةٍ مني للبحثِ في مفهوم الراحة والسعادة.

| محطات من تجربتي في تخصص العلاج الوظيفي

 
 أن تعيشَ رحابةَ اللحظة لأمرٌ رائع، ولكن، أن تعيشَ هذه اللحظة المثاليّة عُمرًا دُنيويًا كاملًا، أظنُّه لأمرٌ رتيب يُفقِدُها المعنى. 
 
 إنْ بدتْ هذه الحياةُ كنجومٍ متلألئة وقوسِ قُزَحٍ زاهٍ ونعيمٍ سرمديّ، فما حاجَتُنا لأن نفكِّرَ بالجنّة؟ ولِمَ سنسعى للحياةِ الآخرة عندئذٍ؟

في تدريب الصحة النفسية في إحدى المستشفيات، وكجزءٍ من مهامّي اليومية، كان عليّ تفقُّد المرضى الموجودين على قائمة العلاج الوظيفي، ودعوتهم إلى جلسات العلاج الجماعي التي تُعنى بتثقيفِ المرضى عن أمراضهم النفسية، وتدريبهم على استخدام طرقِ التفريغ النفسي للتعامل مع ضغوطاتِ الحياة، ومساعدَتِهم على الحفاظ على نمطِ حياةٍ هادفٍ وبنّاء، من خلال الانشغال بممارسة أنشطتهم اليوميّة والأسبوعيّة.

وبعد فترةٍ ليست بقليلة قمتُ بدعوة أحد المرضى، وهو شاب في مُقتَبل العمر إلى جلسةٍ جديدة، فأخذَ يُخبرني بلهفةِ المُنتشي عن آخرِ جرعة مخدّرات تعاطاها قبل دخوله للمشفى، وأنها كانت أكبر جرعةٍ تعاطاها طيلةَ فترةِ إدمانه، واسترسلَ بالشرحِ لي عن شعورِ السعادةِ العارمة الذي "ملأ الكون" حين حصل عليها، وفعليًا بدأتُ ألاحظُ بعض "علامات السعادة" التي ظهرتْ من خلالِ لغةِ جسده حين استدعى شعورَ السعادةِ الذي يتحدثُ عنه. استمعْتُ له بصمت، وراودني شعورٌ بالشكِّ في فعاليةِ العلاج واحتمالية إقلاعه عن الإدمان بعد كل هذا الوصف المهول "للسعادة" التي حصرها في إبرة cc 2 من المخدّرات.

وتساءلْتُ كثيرًا كيف يمكنُ للإنسان أن يجعلَ نفسَه عبدًا لإبرةِ مخدّر يحصلُ من خلالها على دقائق من سعادةٍ لحظية وراحةٍ زائفة، يعيش بعدها شهورًا أو سنواتٍ سوداء من الاكتئاب وأعراض الانسحاب المُرهِقة؟

وفي تدريب آخر، كنت أسأل نزيلًا في مأوى كبار السن عمّا يفضّله من أنشطةٍ ترفيهية كي يتم اقتراحها على برنامجه العلاجي، والنظر في إمكانية اعتمادها لتصبح جزءًا من روتينه الأسبوعي. إلاّ أنه كان يتكلّم بتعاسةٍ بالغة وقال لي: "لن يسعدني شيء سوى امتلاك حريتي مجددًا، لا أريد أن أكون في مأوى كبار السن. أريد أن أعيش في منزلي وأموت هناك". في تلكَ اللحظة، شعرتُ ببعض الحزن الذي أخفيتُه بمحاولةِ التخفيف عنه وإدخال بعض المرح لاحقًا إلى الحوار.

 
 كنت أسأل نزيلًا في مأوى كبار السن عمّا يفضّله من أنشطةٍ ترفيهية كي يتم اقتراحها على برنامجه العلاجي.
 
إلاّ أنه كان يتكلّم بتعاسةٍ بالغة وقال لي: "لن يسعدني شيء سوى امتلاك حريتي مجددًا، لا أريد أن أكون في مأوى كبار السن. أريد أن أعيش في منزلي وأموت هناك".

وفي تدريبٍ يُعنى بتأهيلِ الأشخاص الذين اقترفوا جرائمَ قتل ولم يدخلوا السجن لأنهم يعانون من أمراضٍ نفسية مزمنة، إذ تمّ الحكمُ عليهم بتحويلهم إلى مستشفى إصلاحي يضُمُّ برامجَ إعادة تأهيل مخصّصة لذلك، كنتُ قد أتممتُ عدّة جلسات مع أحد النُزلاء لمدةٍ من الزمن، ثم أخبرتُه بأنّني سأُنهي تدريبي قريبًا وبأنني أتمنى له رحلةً علاجية موفّقة في حياته.

أبدى النزيل بعض الدهشة والحزن وكأنه لم يكن من المتوقَّع أنني كنتُ سأُنهي تدريبي يومًا ما، ثم قال لي: "كنتُ دومًا أشعرُ بسعادةٍ ممزوجةٍ ببريق الأمل خلال الجلساتِ العلاجية التي قدّمْتِها لي. أعلمُ أنّني اقترفتُ جُرمًا شنيعًا إثرَ تدهورِ حالةِ الذُّهانِ لديّ، ولكنّني أحلمُ بمستقبلٍ نظيف أكونُ فيه إنسانًا صالحًا وكنتُ بحاجةٍ لكلِّ هذا التوجيه والدعم النفسيّ الذي تلقّيْتُه، شكرًا لأنكِ تُعاملينَني كإنسان وليس كمجرم". شعرتُ بأنّني عاجزة عن الكلام عندما أنهى هذا النزيل كلامه!

وفي تدريبٍ يُعنى بدمجِ الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في مدرسة ابتدائية، قابلتُ أُمًّا لطفلةٍ مصابة بالشلل الدماغيّ، تأتي للمدرسة باستمرار وتتطوعُ بالقيام بأنشطةٍ ترفيهية للأطفال وذويهم، وتحاولُ دمجَ طفلتها معهم.
 
وخلالَ حديثِنا الصباحيّ قالت لي: "أشعرُ بسعادةٍ لا توصف حين أقومُ بشيءٍ يُضفي ابتسامةً على وجوهِ الآخرين، الحياةُ مليئةٌ بالعثرات والتحديّات، يكفينا فقط أن نشعرَ ببعضِنا البعض".

وفي تدريب يُعنى بتأهيلِ الأشخاص بعد عمليات تغيير المفاصل، كنتُ أُتابعُ مريضةً في ذلك الجناح للقيام ببعض التمارين، وأنشطة الحياة اليومية بعدَ تغييرِها لمفصلِ الحوض. وحدثَ أنْ فاجأَتْها ابنتُها التي تعيش في بلدٍ آخر بزيارتِها، فقلتُ للمريضة بابتهاجٍ مُتَسرِّع: "يا لها من مفاجأةٍ سارّة لكِ". فقالت لي: "أنا سعيدة بزيارة ابنتي لي، ولكنّني سأكونُ سعيدةً حقًّا حين يزولُ الألم".

وفي تدريبٍ يُعنى بدمجِ الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في مدرسة ابتدائية، قابلتُ أُمًّا لطفلةٍ مصابة بالشلل الدماغيّ، تأتي للمدرسة باستمرار وتتطوعُ بالقيام بأنشطةٍ ترفيهية للأطفال وذويهم، وتحاولُ دمجَ طفلتها معهم. وخلالَ حديثِنا الصباحيّ قالت لي: "أشعرُ بسعادةٍ لا توصف حين أقومُ بشيءٍ يُضفي ابتسامةً على وجوهِ الآخرين، الحياةُ مليئةٌ بالعثرات والتحديّات، يكفينا فقط أن نشعرَ ببعضِنا البعض".

تأمّلتُ في بريقِ عينيها حين قالت لي ذلك، وأدركتُ أن السعادة قد تكمنُ في العطاء دونَ مقابل، والذي قد يكون بسيطًا جدًّا كابتسامةٍ وتحيّةٍ عابرة لأحد المارّة في الشارع، أو كشِرائِنا وجبةَ إفطارٍ لفقيرٍ باتَ جائعًا لكن منعتْهُ عزّةُ نفسِه من السؤال، أو كأخذِنا بيَدِ كهلٍ مُتعَب يحمِلُ مشترياته البسيطة بظهرٍ منحنٍ ونفَسٍ مقطوع، أثناء عودتِه إلى منزله.

| أوجه السعادة

نستطيعُ أن نعطيَ أعمالَنا قيمةً إنسانيةً أكبر، حين نقومُ بها بشغفٍ وإتقان وضميرٍ حيّ، وهذا بحدّ ذاته يُشعِرُنا بسعادةٍ وراحةٍ ذاتيّةِ المصدر، لعِظَمِ شأنِ القيمةِ المضافةِ للعمل. 
 
ارتبط مفهوم السعادة هنا على ما يضيفه العمل والكدّ من شعور الرضا عن النفس والشعور بقيمة الحياة ومعناها.
 
المعنى هو القيمةُ الأثيريّة التي تُشكِّلُ فارقًا في حياةِ البشر، فحينَ نفقِدُ المعنى من قيمةِ الانشغال في أعمالنا اليوميّة وأهدافنا المصيرية.

وفي تدريبٍ يُعنى بتأهيل الأفراد ما بعدَ إصاباتِ العمل، والتي يضطّر الشخصُ على إثرها للتوقف عن العمل، لحينِ استعادةِ عافيته وحصوله على تقريرٍ طبيّ من قبل الطبيب المختص وأخصائيي التأهيل المعنيّين. بدأْتُ جلسةَ العلاج الوظيفي بعبارةٍ بديهيّة: "كيف حالُكَ اليوم؟"، أخبَرني هذا الرجل الثلاثينيّ بعينينِ مُحبَطتين ووجهٍ بائس: "لسْتُ بخير وأنا راقدٌ في المنزل وعاطلٌ عن عملي منذُ ثلاثةِ أسابيع، إنّ عملي هو شغفي وإبداعي وقوتُ أطفالي، هو ما يجعلنني أشعرُ بالسعادة رغم التعب لأنّني أرى فيه نفسي وكياني".

ربطَ هذا الشاب مفهومَ السعادةِ لديه بما يُضفيه العمل والكدّ على حياتِه من معنى، ولربّما بالغَ في وصفِ ذلك لمجرّد الانقطاع عن العمل لثلاثة أسابيع، مع الأخذِ بعين الاعتبار لطبيعة رُوح الشباب وميْلِهم للاندفاع والاستمرارية، إلّا أنّه جعلني أعي حجمَ الفراغ المعنويّ الذي يمكنُ أن يشعُرَ به شخصٌ في أواخر الخمسين أو بدايات الستّين من عُمره، تقاعَدَ عن عمله، بعد أن أمضى عشرين عامًا أو أكثر في العطاء والبذل في سبيل حياةٍ كريمة لأبنائه وذويه وخدمةً لمجتمعه. 

وقد ذكرتُ ما سبق للإشارةِ إلى أوجهٍ مختلفة من السعادة والراحة بمفهومهما الدنيويّ من منظور عدد من الأشخاص الذين قابلْتُهم على اختلافِ أعمارهم وظروفهم واحتياجاتهم، وكيف استنتجتُ من ذلك أنّ بعض الناس يحصرُ السعادة في شيءٍ ما قد يكون سلبيًا ومَرَضيًا كالإدمان، وقد يكون أساسيًا كالصحة وظروف المعيشة، وقد يكون معنويًا كالعطاء والتعامل بإنسانية والإخلاص في العمل.

وهناك بالتأكيد أوجهٌ أخرى لا حصر لها، فقد تكونُ السعادة مولودًا لأبوين انتظرا وصبرا طويلًا كي يُرزقا بطفل، وقد تكون رغيف خبز لجائع، وقد تكون شفاءً لمريض ما عاد يحتمل الألم، وقد تكون مالًا يضيفُ رخاءً على ظروف المعيشة، وقد تكون نجاحًا لطالبَ علمٍ درس واجتهد، وقد تكون عدلًا لمظلوم، وقد تكون ابنًا بارًّا عند الهرَم، قد تكون حصادًا أثمر تعبه لإنسان عمل وكدّ، وقد تكون راحةً لمهمومٍ أرّقتْهُ عُنُق الزجاجة، وقد تكون كلمةً جبرتْ خاطرَ محزون.

وليس في ذلك عيبًا، فهو الدافعُ الذي يجعلُ لحياةِ الإنسان معنىً وهدفًا ويشغَلُه بعملٍ يملأُ فراغَه من حينٍ لآخر ويضفي قيمةً لحياته وكينونته. ولكنّنا في اللهثِ وراءَ ذلكَ نغفلُ أحيانًا عن استنباط المعنى؛ فالمعنى هو القيمةُ الأثيريّة التي تُشكِّلُ فارقًا في حياةِ البشر، فحينَ نفقِدُ المعنى من قيمةِ الانشغال في أعمالنا اليوميّة وأهدافنا المصيرية، يتسلّلُ المللُ إلى حياتنا والضجر إلى قلوبنا وتسقطُ الرُّوحُ في خواءٍ أجوف. والآن عزيزي القارئ، أما زالَ عرضُ الانتقال إلى إمبراطوريةِ الراحة مُغريًا في نظرك؟