تحب المخاطرة، وتعلم شيئًا عن كل شيء، تمنت في طفولتها أن تصبح مهندسة، فحققت الحلم، شغفها عالم العمل التطوعي، تعدّه طاقة الروح، يمنحها السكينة والطمأنينة. رؤيتها للدمار الهائل في الحي السكني الذي تقطن به في غزة، والسواد الذي توشّحت به سماء المدينة بفعل الصواريخ "الإسرائيلية".
الخراب الذي عمّ القلوب بعد العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة عام 2014، أثار في نفسها القوة، وضرورة فعل شيء، ولو بسيط، للتخفيف عن المنكوبين. فقررت أن تُكون "سنابل" بالتعاون مع أصدقائها، وبالفعل، أصبح "سنبلتها" الأولى التي كلما نطقت اسمها يدق قلبها، وتشعر بالفخر لما فعلت مع الرفاق، لم تكن حينها تملك فلسًا واحدًا للبدء، ولكنها بالرغم من هذا انطلقت، ولم تستسلم.
| قيادية منذ الطفولة
إسراء فروانة، خريجة هندسة الحاسوب في الجامعة الإسلامية في غزة، والحائزة على لقب امرأة فلسطين في العمل التطوعي عام 2018، وامرأة الوطن العربي في العمل التطوعي عام 2019. خلال الثانوية العامة، درست دبلوم الريادة الذي منح شخصيتها الكثير وصقلها من جديد.
150 ساعة تدريبية تعدها إسراء محورًا كبيرًا في حياتها، تقول: "لقد تعلمت خلالها كيف أحل المشاكل، وآلية التفكير السليم. لقد شكلت نقطة تحول في حياتي بعد إتمامي حفظ القرآن الكريم قبلها بمدة وجيزة، وإعطائي لمحاضرات في الإعجاز العلمي في القرآن".
انتقلت الطفلة الصغيرة من الصفوف المدرسية التي كانت قائدتها والمسؤولة عن كل الفعاليات المدرسية إلى الجامعة لترتاد التخصص الذي تريد، وسرعان ما أثبتت نفسها، فتفوقت، كما المدرسة تمامًا، وفي سنتها الجامعية الثانية، أصبحت مسؤولة عن النادي الهندسي وأنشطته بالجامعة، وتقلّدت منصب نائبة لوحدة الأندية في مجلس الطالبات بالجامعة. وفي السنة الثالثة، أصبحت مدربة لدورات الرخصة الدولية في قيادة الحاسوب.
منذ صغرها وهي مبادرة، تتفق مع أصدقائها في المدرسة لتنفيذ فعالية معينة، ولا تأخذ وقتًا في التطبيق، تنفذ فتنجح، تضيف: "لم أكن أهتم بدراستي بقدر اهتمامي بالمبادرات والعمل التطوعي، دون التأثير على دراستي، كنت معدة الخطط، والمنفذة للأنشطة التطوعية، ورئيسة المخيمات الصيفية في الجامعة".
| السنبلة الأولى
"سنابل"، لم تكن البداية لإسراء، سبقتها أنشطة تطوعية بالجامعة، ولكنها الإنجاز الأعظم على الإطلاق في حياة المهندسة الشابة، تقول لـ بنفسج": "أنشأت سنابل لأجل مساعدة المحتاجين في قطاع غزة، ولكن وقتها لم أكن أعمل، ولم يكن في جيبي أي مبلغ للبدء الفعلي لشراء المستلزمات التي سيتم توزيعها على الأسر، ولكن برفقة الأصدقاء، تم جمع تبرعات للبدء بمساعدة 15 أسرة فقط".
كان العدد قليلًا، والمبلغ المتوفر بسيطًا، وبتشجيع من المشاركين بالمبادرة، تم زيادة عدد الأسر لـ 150 أسرة. بدا ضربًا من الجنون، أن تقدم مساعدات لهذا العدد الكبير بمبلغ مئة دولار فقط، ولكن تم التبرع من جديد من فاعلي الخير بمبلغ إضافي، لتتمكن سنابل من خدمة الأسر الفلسطينية.
تضيف امرأة الوطن العربي في العمل التطوعي: "كنت قد تواصلت مع شخص للتبرع لسنابل للتمكن من شراء المساعدات لشهر رمضان، وبالفعل، وصلني اتصال ليخبرني بالمكان حتى آخذ المال، لقد كان بعيدًا عن بيتي، والوقت متأخرًا، وبينما أنتظر في الشارع، وإذ فجأة، يظهر أمامي باص، يطلب مني سائقه أن أركب، وهنا دبّ الخوف في قلبي "من هذا؟".
تكمل إسراء الحكاية: صوت قلبي بدا مسموعًا، وبدأت يداي ترتجفان، لقد كان الأمر مريبًا بالنسبة لي، وبدأت أسأل نفسي، لماذا حضرت؟ ما الذي أفعله؟ ولكن سرعان ما تداركت الأمر، وصوت الرجل يخترق أذني، ويناولني المال، وقال لي "عدّيهم". لم تصدق عيناها المبلغ الموجود معها من المتبرع، ثلاثة آلاف دولار! وكان معها مسبقًا ألف دولار، ستدخل شهر رمضان بهذا المبلغ، عدد العائلات التي سيتم تقديم مساعدات لها سيزداد.
هاتفها المنتهي شحنه لم يسعفها للاتصال بأعضاء الفريق لإخبارهم بهذا الخبر، ضاقت عليها الدنيا لمرة، ولكن رزق الله آتى في الوقت المناسب تمامًا. وبهذا، أصبحت سنابل لها بصمة في عالم العمل التطوعي في قطاع غزة، الإدارة، والإشراف، لأعضاء الفريق والتمويل من رجال الأعمال والمتبرعين.
| لقب امرأة العمل التطوعي
أما عن لقب امرأة فلسطين في العمل التطوعي لعام 2018، تقول لـ بنفسج: "لقد سجلت للمسابقة قبل ساعة فقط من انتهاء التسجيل، وبعد أسبوع، تم تبليغي بفوزي باللقب، تفاجأت جدًا، وسعدت للغاية بهذا اللقب". فيما بعد، وفي العام 2019 حازت إسراء على الوسام البلاتيني، ولقب امرأة الوطن العربي بمسابقة صناع التغيير في تونس، شاركت في المسابقة ثلاثين متسابقة، والمرتبة الأولى كانت من نصيب إسراء، ولكنها لم تتمكن من السفر لحضور التكريم، نظرًا لظروف المعابر في قطاع غزة.
أسست إسراء مشروع "صحتك بالدنيا" الذي يُعني بإعداد الوجبات الصحية، وتقديم الطعام الصحي، بناء على السعرات الحرارية المطلوبة للفرد، ويأخذ المطعم بعين الاعتبار في وجباته أصحاب الأمراض المختلفة لتحضير الطعام لهم بطريقة تتناسب معهم.
أما "بصمة روح" المشروع التي تُشرف عليه إسراء، فيقدم الدعم المادي، والمواد الخام اللازمة للبدء بأي مشروع للأسر المهمشة في قطاع غزة، هدفها الأساسي تحويل الأسر من مستهلكة إلى منتجة، عن طريق إيجاد فرص عمل لهم عن طريق المشاريع الصغيرة.
كل مشروع أضاف لها على الصعيد الشخصي، منحها رؤية مختلفة لكل شيء في الحياة، اختلاطها بالناس، علمها، وصقل شخصيتها أكثر. تدرس إسراء الماجستير في هندسة الحاسوب حاليًا في تركيا، تضيف: "لقد توسعت آفاقي بمجرد خروجي من غزة، كبر طموحي، أفكارنا في غزة محدودة جدًا، ولكن حين نخرج، ونخوض تجربة السفر، تتسع الرؤية، كما نعمل في سنابل على توسيع أطر الأعمال التطوعية على مستوى أكبر".
وبالرغم من خروج إسراء من غزة، وانتقالها للعيش خارج البلاد للدراسة، إلا أن العمل جار في جميع المبادرات التي أسستها إسراء، بفضل الفريق الكبير الذي أنشأته. لم تنس ضيفتنا أن تخبرنا أنها حاصلة أيضًا على دبلوم السياسة والإعلام، ودبلوم دراسات اللاجئين، وعملت كمنسقة مشاريع لمدة عام كامل.
وحازت وفريقها في الجامعة على المرتبة الرابعة على العالم في مسابقة الهاكثون العالمية، حيث تم إنتاج تطبيق برمجي خلال 37 ساعة يعمل بدون انترنت. كل تجربة خاضتها سواء في المجال الهندسي، أو التطوعي منحتها العديد، فهي التي لديها فضول تعلم شيء عن كل شيء.
| مهندسة القلوب
المواقف المؤثرة التي حدثت معي خلال عملي التطوعي عديدة، ولكن أبرز ما علق بقلبي، أنه في مرة، قدمنا ملابس شتوية لإحدى العائلات، وابنة العائلة كانت تقف أمامي مع والدتها، فقدمت لها الأغراض، ومن بينهم "جونتي شتوي"، فإذ بوالدتها تخبرني: "قبل ما تيجو يا بنتي كانت بتحكيلي بدي جونتي"، أسعدني أنني كنت سببًا في سعادة هذه الفتاة، ولو بجزء بسيط"، تقول إسراء.
وفي مرة أخرى، قدمت إسراء وفريقها التطوعي مواد غذائية، وإذ بطفل صغير يقلّب بالأغراض ليراها، وفجأة أصبح يركض بالمنزل، ويقول: "جبنة جبنة"، كان هذا الموقف مؤثرًا للغاية عند إسراء، وما زالت تذكره بالرغم من مرور سنوات عليه.
ترى أن المرأة الفلسطينية قادرة جدًا، ولها وضع خاص مختلف عن كل نساء العالم، إن وضعن تحت الضغط، يُخرجن أفضل ما عندهن.
عائلتها كانت الحصن المتين لها يدفعونها للنجاح بكل من أوتوا من حب، تقول لـ بنفسج: "عائلتي تركت لي المجال للعمل بحرية، وأحيانًا كنت أتأخر خارج البيت لوقت طويل أثناء شرائي لمستلزمات ومساعدات سنابل، لم يعترض والدي أبدًا، بالعكس، كان مشجعًا لي، ودعم الأصدقاء ومساعدتهم في كل مبادرة كان محورًا قويًا في حياتي".
طموح مهندسة القلوب لا يتوقف، فهي تسعى للأفضل دائمًا. ترى أن المرأة الفلسطينية قادرة جدًا، ولها وضع خاص مختلف عن كل نساء العالم، إن وضعن تحت الضغط، يُخرجن أفضل ما عندهن. يصنعن فارق في كل مكان يذهبن إليه في العالم، ويضرب بهن المثل في القدرة على النجاح برغم كل المعيقات.