بنفسج

وجيهة الحسيني: امرأة الثورة وصانعة الثوار "2"

الأربعاء 26 اغسطس

تحدثنا في الجزء الأول عن وجيهة الحسيني وعائلتها، نكمل هنا بقية الحكاية. في خريف 1939، حينما غادر عبد القادر الحسيني فلسطين إلى العراق، استأجرت أم موسى بيتًا لم يخُل يومًا من الضيوف. ولما انتهت ثورة الكيلاني في عام 1941 وأخذت السلطات تتعقب الفلسطينيين وتطاردهم، لجأ 29 مجاهدًا إلى بيت عبد القادر الحسيني، وبقيت هذه المجموعة مختبئة أكثر من شهر، كانت تقوم فيه أم موسى بخدمتهم جميعًا، وتقدم لهم المأكل والمشرب، وتغسل ملابسهم.

في تلك الفترة، نفد كل ما لديها من مال، فأصبحت تبيع من أثاث البيت وما تمتلك من حلي ومصاغ. ولم يبق من حليها إلا أسورة واحدة كانت تحتفظ بها وتقدسها، لأنها خير هدية من والدتها، فقالت لزوجها: "لم يبق إلا هذه، فخذها وارهنا، لنصرف من ثمنها". سرّ عبد القادر سرورًا عظيمًا، وأخذها ورهنها بمبلغ (30) دينارًا، وراح يصرف من المبلغ عليه وعلى المجاهدين الذين بلغ عددهم (55) مجاهدًا.

وللمرة الأولى، تضيق ذات اليد، وتواجه وجيهة شظف العيش. عادت وقتذاك بأولادها لعين سينيا عند أولاد عمومتها من العراق، ورجعت هي تساند زوجها بكل قوتها في عام 1942. مثلت وجيهة أمام المحكمة العراقية بتهمة مساعدة وإيواء الثوار وتحريضهم على القتال، فحُكم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها، وأمضت فترة من الزمن تحت المراقبة.

| وجيهة المناضلة حين اعُتقل زوجها

39 (2).png

إلا أن أمر اختفاء عبد القادر وجنوده لم يبق أمرًا مكتومًا، فقد تمكن أحد الوشاة والجواسيس من معرفته، فحاولت الحكومة إلقاء القبض عليهم، إلا أنهم احتموا بالدار، حاملين أسلحتهم، وقرروا مقاومة أي اعتداء أو اقتحام. وأخيرًا، اتصل بهم مدير الأمن العام وعرض عليهم أن ينقلوا إلى منفى زاخو في شمال العراق، وتعهد بعدم التعرض لهم، فوافق عبد القادر على ذلك، وانتقل هو وصحبه إلى منفى زاخو.

يُذكر في محاكمة زوجها، أن عبد القادر أُدخل مكبلًا بالأغلال، وقفت المجاهدة وقالت: "لقد حضرت لأشهد محاكمة زوجي عبد القادر، فهل هو متهم أم شاهد في قضية اغتيال النشاشيبي؟". وهنا، ضجت المحكمة، ورد عليها رئيس المحكمة قائلًا: "لقد أحضرناه ليشهد فقط". فتبسمت وقالت: "إذن، في أي عرف بل أية قوانين تجيز إحضار الشاهد مكبلًا؟"، فضجت المحكمة ثانية واعترى أعضاؤها الذهول، ثم فُكّت قيوده.

وراحت المجاهدة تتردد عليه في المعتقل، وكانت حالتها المادية حرجة كثيرًا؛ فأخذت تطلب النقود من الوكيل على أملاكها في فلسطين، لتنفق على زوجها، ولتساعد إخوانه. ولما تأخر الوكيل في إرسال النقود اكفهرت الدنيا في وجهها، وبلغ الضيق بها حدًا لا مزيد عليه. إلا أنه بعد فترة وجيزة وصلتها النقود من فلسطين، فأخذت تمد زوجها في السجن بما يحتاجه.

دخلت بقوة، فوقف الجمع مبهوتين متسائلين عن سبب وجود هذه المرأة، ثم قالت: "أنتم تعرفون جميعًا أن عبد القادر بريء من كل ما نُسب إليه، ومع ذلك، وضعتموه في المعتقل رغم اعتلال صحته، فهل تمانعون يا سيادة الرئيس في خروجه من العراق؟

أثناء اعتقال زوجها، كانت هي الدرع الحامي؛ شديدة البأس، حاسمة القرار، لا تخشى الملوك ولا السلاطين، فعندما اشتد المرض على القائد عبد القادر الحسيني وهو معتقل في العراق في إثر قضية اغتيال فخري النشاشيبي، أصرت على مقابلة نوري السعيد، الرئيس العراقي وقتذاك، في مجلس رئاسة الوزراء حيث كان مجتمعًا مع وزرائه.

دخلت بقوة، فوقف الجمع مبهوتين متسائلين عن سبب وجود هذه المرأة، ثم قالت: "أنتم تعرفون جميعًا أن عبد القادر بريء من كل ما نسب إليه، ومع ذلك، وضعتموه في المعتقل رغم اعتلال صحته، فهل تمانعون يا سيادة الرئيس في خروجه من العراق؟ فأفرج عنه ورُحّل  إلى السعودية، حيث التحقت به وأولادها إلى هناك لمدة عامين، ثم رحلت معه إلى القاهرة، مرة أخرى.

لم تكد قدما عبد القادر تطأ أرض مصر، حتى هرع إليه أحباؤه للسلام عليه وللعمل تحت إمرته، فكان يستقبلهم في بيته ويكرم وفادتهم. أما أم موسى، فقد قدّمت لزوجها كل ما وصل إليها من ريع أملاكها، فاشترى به كل ما وصلت إليه يده من أسلحة، وخزنها في بيته، وكانت تقوم بتنظيف الأسلحة وخزنها بنفسها، وهي تعرف جميع أنواع السلاح وتتقن استعمالها كذلك.

| الثورة في فلسطين

ثورة 1936.jpg
الثوار الفلسطينيين برفقة عبد القادر الحسيني في معركة القسطل عام 1948

وفي مصر، كان الحسيني يتبرع بنصف راتبه ومجموعه 45 جنيهًا مصريًا لأسر الشهداء، بينما صادر الاحتلال بيتها وأراضيها في القدس والخليل. كان الحاج موسى عرفة وكيلها في القدس، يتوجه إلى مصر كل عام يحاسبها عن المحصول، ويأخذ لها من خيرات البلاد، فيأنس أولادها ويفرحون، فقد تغيرت أحوالهم في مصر، إذ صادر الاحتلال "الإسرائيلي" بيتها في القدس، وأراضيها في الخليل والقدس معًا. وكانت هي قد أنفقت مالها على الثورة والثوار، ولم يتبقَ لها سوى القليل من الرزق يأتيها من القدس.

قرر عبد القادر الحسيني مغادرة مصر إلى فلسطين يجمع عدته وعتاده، وينظّم الثوار بعد قرار التقسيم، لم يكن من أم موسى إلى أن تشجعه وتحضّه على المسير والمضي قدمًا في طريق الثورة. لم تتركه يومًا دون أن ترسل له؛ تشد من أزره، وتطمئن على حاله وحال رفاقه. ومن ذلك كتب الدكتور قاسم الريماوي يقول في وجيهة الحسيني، وقد كان قريبًا عليها وعلى أولادها في القاهرة، يسكن إلى جانبهم في مصر، يطمئن على حالهم وأحوالهم في كل فرصة: "وفي أثناء المعارك، كان يسقط عشرات الجرحى من المجاهدين العرب، وكان القبض على أحدهم ليس معناه العلاج والشفاء.

حدثني أحد هؤلاء الجرحى، فقال: حُملت وأنا بين الحياة والموت بعد معركة بني نعيم في تشرين الثاني 1936 - حيث لم أتمكن من الذهاب إلى المستشفى - إلى بيت عبد القادر مع من حملوا، وهناك استقبلتني سيدة شعرت منها بحنان الأم الرؤوم، وعطف الشقيقة الوفية، فأحضرت لي الطبيب، وأخذت تشرف بنفسها على علاجي وتمريضي وأخذت ملابسي - وكلها أوحال ودماء- فغسلتها بنفسها، وراحت تحضر لي ما أحتاج إليه من دواء، وتمدني بخير أنواع الغذاء وتسهر عليّ وعلى إخوتي في الليل، وما كنت أتصور أن أرى في حياتي مثل هذه المرأة الصابرة المجاهدة. وبالحق، فإنني وإخواني مدينون بالحياة بعد الله لها، فكيف لا أفتدي بيتًا رسّخ أصله، وزكا فرعه، وطاب عمله، بنفسي، إني إذن لكنود للنعمة، ناكر للجميل".

46 (1).png

ودع عبد القادر أهله وأولاده، ويعلم الله أنهم كانوا مسرورين فرحين، لأن والدهم سيعود إلى الجبهة حيث الجهاد ومقارعة الأعداء. ولما وصل البلاد كانت الرسائل ترد إليه من زوجته وأولاده، وكلها تشجيع وحث على الاستمرار في الجهاد. كما أرسلت لجنوده العديد من الهدايا (من ملابس وأحذية وغيرها). وقد كانوا في حاجة ماسة إليها، وزار مصر بعد التحاقه بالمجاهدين مرتين، وكان فيهما لا يزور أهله إلا قليلًا، ولم يمض بينهم إلا بضعة أيام.

بعد معركة القسطل عام 1948، اتصلت بها الهيئة العربية العليا وأخبرتها أن زوجها قد جُرح، فردت بأنها ليست المرة الأولى التي يُجرح بها عبد القادر الحسيني، فجسمه لا يخلو من محط كف إلا وفيه أثر لجرح أو طعنة. ثم شعرت بأن العائلة كلها قد التفت حولها، فقالت أخبروني، لم تخفون عني؟ فما ذهب زوجي إلى الميدان إلا ليستشهد كما استشهد أبوه والمجاهدون من قبله.

إن هذه الميتة هي التي طلبها طائعًا مختارًا، فشرفه الله بها وشرفنا باستشهاده، إنه لشرف عظيم له وللعروبة. ولكن ظروف المواصلات لم تمكنها من السفر في الوقت المناسب لتحقيق رغبتها، وأُخفي الخبر عن أبناء الفقيد مدة ثلاثة أيام إلى أن تمكنت (هيفاء) ،كريمة الفقيد، وعمرها (12) عامًا من الاطلاع على الصحف وعلمت بالنبأ المؤلم، وذهبت إلى أمها وهي تقول: "إننا على استعداد لأن نحلّ محلّ والدنا في الميدان يا أماه"، ومن هيفاء عرف أشقاؤها الخبر.

48 (1).png

كان الشهيد عبد القادر في دمشق عندما نشبت معركة القسطل في فلسطين، فكتب إلى رفيقة حياته وهي في مصر: «... أكتب إليك من دمشق، ولا أدرى كيف أصف شعوري وما يجول في نفسي، وما يخفق به فؤادي، وهذه فترة قصيرة أنا فيها بعيد عن مشاغل القتال، وما ذلك رغبة مني، ولكن الظروف هي أوجدتني في دمشق بعيدًا عن رائحة البارود وعبير الجنة وخوض المعارك إلى جانب إخواني الأبطال الذين يقومون بتحرير وطنهم، نصرهم الله وأيّدهم بقوة من عنده.

لقد كانت الفترة الماضية مليئة بالانتصارات الباهرة والأعمال المجيدة التي بهرت العالم وحطمت العدو، لقد سطرنا صفحات مجد لا تُنسى في التاريخ، ولكن هذا لم يأت عفوًا ولا سهلًا، وإنما بالتضحيات العظيمة والجهود المتواصلة ليلًا ونهارًا، وهو عمل نسي كل واحد منا خلاله نفسه وأهله وأولاده وطعامه ونومه، وكل ما في الدنيا، خلا الرغبة في النصر، وسحق العدو الكبير في عدده والقوى في عدده، بما لدينا من السلاح القليل، ولقد قدرنا الله على ذلك وكافأنا على جدّنا بالنصر المبين. لكننا ما زلنا في أول الطريق، وعلينا أن نضاعف الجهود، ونصل الليل بالنهار حتى النصر النهائي، وإني أبشرك من الآن بأننا سنصل إليه إن شاء الله. صحتي جيدة، كيف صحتك، وصحة الأولاد؟ قبّليهم جميعا وبلّغيهم رضائي.

| المخلص إلى الأبد

49 (1).png

وقد كتبت جريدة اليوم البيروتية بتاريخ 11 نيسان/أبريل 1948 م تحت عنوان: (ما يجهله الكثيرون عن حياة الفقيد)، ومما قالته في صدد زوجة الشهيد ما يلي: "أما صاحبة العصمة زوج الراحل العظيم، فهي لا تقل عنه في هذا المضمار، فكانت تسعف المحتاجين، وتقدم المساعدة لمن هو في حاجة إليها، وتحثهم على الجهاد في حماس بالغ".

وكتب الأستاذ (حبيب جاماتي)، «.... واذكروا زوجة الشهيد ورفيقة حياته التي كانت بحبها وشجاعتها وعنايتها، تزيده قوة على قوة، وعزمًا على عزم، وإيمانًا على إيمان. واذكروا الأشبال الأربعة الذين تركهم هذا الأسد الذي صرعه الرصاص وهو يملأ بزئيره جبال فلسطين ووديانها؛ هيفاء، سمّية الفارسة السورية التي قادت كتيبة من رجال البادية في عهد صلاح الدين، وسقطت على مقربة من جبل القسطل ذاته. وموسى سمّي جدّه البطل الخالد والزعيم المطاع، موسى كاظم باشا الحسيني. وفيصل سمّي أبو الفوارس وقائد الثورة العربية الكبرى في الميدان الشمالي (فيصل بن الحسين). وغازي سمّي الملك العربي الأبيّ الذي لو بقي على قيد الحياة لما أبقى إلى الآن على قيد من قيود التبعية السياسية والعسكرية في العراق.

جنازة.jpg
جنازة عبد القادر الحسيني في القدس

سار الأشبال على غرار والدهم الشهيد العظيم، وكانت والدتهم المصونة قد جعلت لكل واحد من أبنائها صندوقًا يوفر فيه بعض النقود لينفقها عندما يصبح شابًا في سبيل الدفاع عن بلاده. ولما بدأت الحملة في مصر لجمع التبرعات لصالح الجيش المصري، الذي كان يحارب في فلسطين، شعر أبناء الشهيد (موسى وفيصل وغازي) بواجب المساهمة في التبرع لهذا المشروع الجليل، ولما لم يكن لديهم غير ما وفروه في صناديق التوفير، (20) جنيهًا، طلبوا إلى والدتهم أن تسمح لهم بتقديم ذلك المال إلى وزارة الدفاع. فرحت الوالدة بطلب أشبالها، وأكبرت فيهم هذه الروح العظيمة. تقبل وزير الدفاع منهم تبرعهم، مسترحمًا على والدهم الشهيد.

واصلت المجاهدة الصابرة الجهاد بالرغم من المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقها لتربية أشبالها والعناية بهم، لتقدم لعدد غير قليل من اللاجئين والمنكوبين المساعدات المالية، ومن ثم البحث عن أعمال لهم هنا وهناك ليعيشوا منها، وقد نجحت في إيجاد العديد من الأعمال النافعة لكثير من اللاجئات. وظلت تجاهد إلى أن توفاها الله يوم الإثنين 30 أيار/مايو 1983 بعد مرضها في تونس، وانتقالها إلى لندن للعلاج، حيث توفيت هناك، ونُقل جثمانها إلى القدس، مسقط رأسها.

 رضوان هَيّئ للوجيهة مقعدًا              عند المليك هناك أصدق منزل

 في جنّة الرحمن جمّع شملها             بابن الشهيد شهيد أرض القسطل