بنفسج

وجيهة الحسيني: امرأة الثورة وصانعة الثوار

السبت 13 يونيو

لم أكن أعلم قبلًا عن وجيهة الحسيني إلا القليل مما كُتب عنها في سياق الجهاد المقدس، حول الشهيد عبد القادر الحسيني ومسيرته النضالية، أو ما كتبه قاسم الريماوي، أو ما ندر من الرسائل التي احتُفظ بها، من الحسيني إلى زوجته. لم أكن أعلم حقًا أنها صانعة هذا الثائر المناضل، تسانده وتدعمه وتدفعه إلى ساحات المعارك دفعًا.

لم أكن أعلم أن امرأة تربي أبناءها وحدها، تنتقل بهم بين العراق ومصر والحجاز، تخبئ المجاهدين في كنفها، تؤويهم، تجعل بيتها مثوى لهم أينما حلت وارتحلت، مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومأمنًا. يوعز إليها زوجها فترسل للثوار أن دقتّ الساعة، فإذا غاب، حلت مكانه؛ تخبئ السلاح، وتحفظه وتنظفه وتشرف على نقله. جسورة شجاعة جريئة، تدق باب الملوك والسلاطين وتنقذ زوجها غير مرة، تخرجه من المعتقل وترفع عنه ظلم السّجان، غير آبهة بالظروف الخطيرة المحيقة بها وأطفالها.

لم أعلم كل ذلك حتى التقيت بأحد أبنائها، وهو غازي عبد القادر الحسيني، لا أبالغ عندما أقول إنني عشت في رحم ذاكرته المعبأة، عشت فيها روح الثورة، وعبق الانتصار، ركضت في براري عين سينيا، تنفست عبق القدس في آل الحسيني، في تنقلاتهم لغزة والعراق ومصر والحجاز.

 | تاريخ عظيم

38 (2).png

غازي تالي العنقود، والابن المدلل، ولد في عام 1941 في العراق، كان عمره لا يزيد عن العام عندما عاصر والده ثورة رشيد عالي الكيلاني، وعندما اعُتقل بتهمة اغتيال فخري النشاشيبي. أصيبت أمه في حادث عندما كانت متوجهة لمحاكمة والده، تؤازره كعادتها، وكانت تحمل غازي الرضيع على يديها، ومعها موسى وفيصل وهيفاء.

ثم ألحقتهم بوالدهم إلى الحجاز، فالقاهرة، ثم عادت بهم إلى بيت عمومتهم في عين سينيا. تحدث أبومنصور (غازي الحسيني) عن طفولته وطفولة أخوته، عن حياة نضال الثائرين، يرقبهم، في مطارداتهم، وحياة الثورة فيهم. مطاردون لا يعرفون إلا السلاح مأوى، والوطن سبيلًا.

إنّ ما جعلني أكتب حقًا، هو الإحساس بدفء صوته وازدحام الكلمات في حنجرته، واغروراق عينيه عندما يأتي على ذكر والدته، فيقول وجيهة، أم موسى، أمي، المرأة العظيمة، المُتفضِّلة بالعطاء بلا عِوَض، والمانحة الفضل بلا غَرَض، والمُعطية الحاجة بغير سؤال. أم موسى التي أرضعتنا حب الثورة، ودفعتنا إلى حمل السلاح. المرأة ذات الكبرياء، لم تنحن يومًا، لم تجزع، لم تغادر، ظلت واقفة تذود عن زوجها، تحمي الحمى ببأس شديد.

45 (1).png
وجيهة موسى رضى الحسيني، من بيت الباشا، وُلدت في القدس عام 1908. عُرفت بشخصيتها القوية المستقلة، المرحة الجريئة. ورثت عن والدها؛ كرمه وسخاءه وتقواه. من أغرب هواياتها في طفولتها اصطياد الأفاعي وتربيتها في البراري راكضة في ربوعها، في القدس وعين سينيا والخليل. طلبها عبد القادر الحسيني من عمّتها التي ربّتها بعد أن توفي والداها، أصرّت عليه وتزوجته رغم عدم التكافؤ المادي بين العائلتين. فقد ورثت عن والدها ثروة ضخمة؛ إذ ترك لها أراض في عين سينيا القريبة من رام الله، والخليل، والقدس. 

أما عبد القادر الحسيني (1908 – 1948) فكان في صغره، طفلًا شهمًا، ذكي الفؤاد، يأبى الضيم ويعاف الذل، كان ميالًا للكسل مع ذكاء شديد، وكان مهملًا بكل ما يتعلق بشخصيته وهندامه وملابسه. في صغره، كان مشاكسًا، قوي النفس، جريئًا مندفعًا سريع التأثر، طموحًا، محبًا للعروبة.

كان يقتني المسدسات التي يشتريها من مصروفه الخاص ليشترك في المظاهرات والهبات التي كانت تجتاح البلاد. شاب رفيع القامة، جميل الطلعة، جذاب الملامح، ربى شاربيه على الطريقة الأمريكية، يرتدي ثيابًا بسيطة، رخيصة، أقرب إلى ملابس العمال، نظيفة وعادية، لم يراع ترتيبها أو كيها.
عبد القادر2.jpg
صورة  تجمع عبد القادر الحسيني مع رفاقه في ثورة 1936
تزوجته وجيهة في القدس في 25 أيار/ مايو 1935 وانتقلت للعيش في غزة حيث عمل زوجها هناك في دائرة الأراضي، فولدت هناك ابنتها هيفاء. قرر عبد القادر الحسيني الاستقالة من وظيفته في نيسان/ إبريل عام 1936 حين بدأ إضراب فلسطين. لم تتوان وجيهة وقتذاك عن مدّ الثورة سلاحًا وعتادًا، فأعطت زوجها 60000 ألف جنية فلسطيني ليبتاع السلاح والعتاد اللازم. تشتري له الملابس فيتصدق بها، ويمنحها للمقاتلين الثوار، فأصبحت تشتري للفدائيين كلما ابتاعت له حذاء أو معطفًا. وعندما يُعتقل ترسل له احتياجاته واحتياجات رفاقه في الأسر من ملابس وطعام.

 | ربّتهم للجهاد

47 (1).png

ربت وجيهة الحسيني (أم موسى) أبناءها وأنشأتهم نشأة سياسية عسكرية، علمتهم ألا يهادنوا، أن يقاطعوا البضائع "الإسرائيلية"، أن يتمسكوا بالسلاح مهما كلّف الأمر. عندما كبر فيصل وكان في السادسة عشر من عمره، أراد الالتحاق بمعسكرات التدريب في الإسماعيلية، عارضت في البداية ذهابه ولكنه تفاجأ أن أيقظته فجرًا ليذهب، وقالت له: "أن تموت شهيدًا خير لك من ميتة عادية".

ومن منا لا يعرف فيصل الحسيني ومسيرته النضالية منذ أن كان في معسكرات التدريب في مصر، ومن ثم التحاقه بالقوميين العرب، ومشاركته في الإدارة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أسس عام 1979 جمعية الدراسات العربية (بيت الشرق) في مدينة القدس. أطلق عليه رحبعام زئيفي وزير الدولة "الإسرائيلي" اسم الإرهابي ابن الإرهابي. ظل ناشطًا حتى توفي مشتبهًا باغتياله في الكويت مسمومًا في عام 2001. أما هيفاء، وهي الأخت الكبرى، أخذت عن أمها قوة وبأسًا، كانت تساندها وتقوم مكانها، تساعد في تربية أخوتها وتهتم بهم.

درست في كلية الآداب في جامعة القاهرة، ومن ثم عملت في جامعة الدول العربية، تنقلت مع عائلتها من غزة إلى العراق ومن ثم إلى الحجاز ومصر، ومن ثم إلى تونس. رافقت والدتها في كل الظروف، وأصرت على عدم الزواج حتى ترعاها إلى أن توفيت. تزوجت بعد ذلك وانتقلت للعيش في القدس إلى أيامنا هذه، قال فيها والدها عبد القادر:

رقـراقُ دمعكِ هـزّ قـلـبـي الـبـاكـــــــي       كُفّي الـبكـا نفســـــــــــــي تُراق فداكِ

«هـيفـاءُ» لا تبكـي بحقّ أبـوّتــــــــــي        هـيفـاءُ قـد هدّ الـبكـاءُ أبـــــــــــاك

صـونـي دمـوعَكِ إنهـا مـن مهجتـــــــــي     ذوبُ الفؤاد ذرفتِه ببكـــــــــــــــــاك

إن عـادنـي تـرجـاجُ صـوتِك بـاكــــــــيًا     أشفقتُ أن لا أحتـيـــــــــــــــي لأراك

يـا أمَّ هـيفـاءَ اصــــــــــــبري وتجلّدي       اللهُ والـوطن العزيـز عـنـــــــــــــاك

أما غازي، فبهي الطلعة، دمث الخلق. لم يكن يعبأ بالدراسة كأخوته كعبئه بالسلاح، كانت توجهاته عسكرية بالدرجة الأولى؛ وقد التحق وأخوه فيصل بمعسكرات الأشبال الفلسطينية في مصر.

أما موسى؛ الابن الأكبر من الذكور، هادئ، وسيم، لامع الذكاء. درس في مصر وتخرج من كلية الطب في جامعة القاهرة، كان له قلب رؤوم كقلب أمه؛ يحتضن أخوته، يزورهم في المعتقلات، ويحمل عنهم أنّا استطاع. عمل فترة في السعودية واستقر في عمان، وهو مؤسس منتدى بيت المقدس ورئيسه لعدة دورات، وهو أيضا مؤسس لجنة يوم القدس. توفي في عمان عام 2018.

أما غازي، فبهي الطلعة، دمث الخلق. لم يكن يعبأ بالدراسة كأخوته كعبئه بالسلاح، كانت توجهاته عسكرية بالدرجة الأولى؛ وقد التحق وأخوه فيصل بمعسكرات الأشبال الفلسطينية في مصر. ومن ثم غادر للدراسة في ألمانيا والتحق باتحاد الطلبة الفلسطيني، ومن ثم إلى معسكرات التدريب في الجزائر والشام.

قاد عمليات عسكرية في الأراضي المحتلة مع ثلة من رفاقه، واعُتقل في سجن الرملة لمدة سنة. ثم خرج ليلتحق بصفوف المقاومة في الأردن وبيروت كقائد للقطاع الغربي، ساهم بالتوجيه والسلاح في الانتفاضتين الأولى والثانية، ومن ثم عُين مسؤولًا للأوقاف الدينية وشؤون الحج إلى أن تقاعد، وهو يقيم في عمان إلى يومنا هذا.

 | وجيهة: حضور الفلسطينيات

p6.png

دعمت وجيهة الثورة والثوار، ماديًا ومعنويًا، كما كانت سندًا وسكنًا لزوجها عبد القادر، تبيع أراضيها قطعة قطعة لتمده بالمال والسلاح والعتاد، فكانت تقول: "من باع نفسه لله، فالله ناصره ومؤيده". بعد أيام من إعلان عبد القادر الحسيني الجهاد في 12 تشرين أول 1936، سمعت أنه أصيب بجروح بليغة، فلم تجزع شأن بقية الأهل والأصدقاء، بل قالت: "إنما نذر نفسه للموت في سبيل الله، وليس من الغريب أن يستشهد في أي وقت".

بادرت للذهاب إلى غرفة السجن في مستشفى الحكومة حتى تراه وتعرف منه ما يريد، فأوصاها زوجها بوجوب إسعاف الجرحى من إخوانه وتخبئتهم من الإنجليز، وطلب منها إخفاء الأسلحة في مكان أمين. كما كان يسر إليها تعليماته العسكرية للمقاتلين حتى يشنوا عمليات عسكرية، وتقوم هي بنقل الرسائل لهم، فينفذون.

43 (2).png

كان عندما يبتاع شيئًا تقول له: "كان يمكننا يا عبد القادر أن نشتري بثمن هذا الشيء 100 طلقة نوجهها في صدور الأعداء". فتؤثر فيه، ويكون كلامها محفزًا له لإكمال مسير الثورة، فيتنقل من مكان لآخر غير آبه بمطاردة الأعداء إياه، وبالجراح التي لم تترك مساحة في جسده إلا وانغرست فيها.

وفي أثناء المعارك عندما يصاب أحد المجاهدين وعددهم بالعشرات، فيقبض عليهم في جراحهم البالغة، ويتعرضون للحقن والتعذيب حتى يعترفوا أو يستشهدوا. فكان لا بد من مكان آمن يحتويهم، يواريهم ويخفيهم عن أعين العدو حتى يتماثلوا للشفاء. بالطبع، كانت هذه إحدى مهمات وجيهة الحسيني، كانت تحوّل بيتها إلى مستشفى، لم تكن تنام بالليل أو ترتاح بالنهار في سبيل خدمة هؤلاء الجرحى وعلاجهم؛ تحضر لهم الأطباء، وتمدهم بخير أنواع الغذاء، وتغسل لهم ملابسهم، وتنظف لهم جروحهم، وتضمّدها بنفسها.يتبع في الجزء الثاني