بنفسج

سينما الوباء: هل تعكس الشاشات سلوكاتنا أم تصنعها؟

السبت 05 سبتمبر

كورونا غزت قطاع غزة، بعد حوالي ستة أشهر من اجتياحها العالم، وإن كان هذا التأخير قد أعادنا لحالة الهلع العامة التي كان عليها الجميع بداية الجائحة، فإنه قد أسهم، إلى حد ما، في استيعاب الكثير من الحقائق عن حقيقة المرض، والتعامل الأنسب بشأنه، وطبيعة مخاطره، ومرحلة التعايش معه، والتي استغرق العالم كل هذه الفترة ليدركها على وجه الدقة والتحديد، خاصة، وقد بدأت تظهر على السطح دراسات معمقة ومكثفة عن الفايروس، خرجت بعضها بنتائج غريبة أو صادمة أو مخيبة للآمال، منها أن غالبية طرق التعامل والإجراءات التي اتخذت وقت ذروة الوباء لم يكن لها داعٍ!

إن الواقع الذي تعيشه غزة في تعاملها مع الجائحة، يجعلها كارثة استثنائية في ظل ظروف يعرفها الكثيرون، أقلها، عدم وجود كهرباء لأكثر من ست ساعات متصلة في أحسن الأحوال، ولا يتسع المقام لذكر ظروف الحصار وشح الإمكانات الطبية واستشراء الفقر والبطالة، ولسنا بصدد الحديث عن تجربة الغزيين في مجابهة كوفيد 19، فلم تتضح معالمها بعد، لكن يبدو أنها تخطو من حيث توقف السابقون.

لطالما كانت السينما العالمية -والأميركية بالذات- مولعة بتفاصيل الكوارث وأحداث المصائب الكبرى، وقد امتلأت بأفلام تحاكي انتشار أوبئة معدية وأمراض خطيرة، وتُصوِر العالم الحديث تحت طائلة الجائحة.

عمومًا، في ظل هذا الحدث العالمي الفريد، الذي بدأنا نلمس تداعياته حديثًا، حيث برزت الكثير من الظواهر الجديرة بالملاحظة، خاصة أن العصر الحديث لم يشهد قبل كورونا جائحة عامة بهذا المستوى من الانتشار والتفشي، ففكرة البشر عن التعامل مع مثل هذه الظروف لم تخرج عن كونها إطارًا نظريًا مبنيًا على قصص التاريخ، وروايات السنيما، وهنا بيت القصيد.

لطالما كانت السينما العالمية -والأميركية بالذات- مولعة بتفاصيل الكوارث وأحداث المصائب الكبرى، وقد امتلأت بأفلام تحاكي انتشار أوبئة معدية وأمراض خطيرة، وتُصوِر العالم الحديث تحت طائلة الجائحة، اتفقت هذه الأعمال جميعها على إرساء سمات عامة لطبيعة الأمراض المفترضة، فهي جميعها سريعة الانتشار، معدية جدًا، خطيرة أو مميتة، وتفاصيل أخرى مشتركة، كما أجمعت على شكل واحد لتصرفات الناس مع هذه الأمراض.

والغريب، أنها جميعًا اتفقت على صورة سلبية من الانفلات الأمني والفوضى والسرقة والنهب وأعمال العنف، والأنانية، واستشراس البشر، وخروج كل معاني الكراهية إلى السطح، وباتت مشاهد مثل تحطيم المحال والاقتتال على الغذاء والدواء والاعتداء على الآخرين، واللامسؤولية المطلقة، وتسخير طبقة السلطة نفوذها للنجاة وحدها، صورة نمطية تتكرر في كل تلك الأعمال، لكن مع اكتساح كورونا العالم، كُسرت نمطية هذه المشاهد، ورأينا تعاطفًا وتعاونًا وتفانيًا والتزامًا ومسؤولية، والكثير من المواقف النبيلة، واللمسات الإنسانية الرائعة، والأمل والحب رغم كل الحزن والألم، مع الاحتفاء بآثار الحجر الإيجابية على البيئة.

وعلى الرغم من بعض التصرفات السيئة التي رأيناها كمحاولات نشر العدوى، واستهتار بعض المصابين، وإهمال المنظومة الصحية في بعض البلدان لجزء من المرضى، إلا أنها كانت محدودة جدًا ومعدودة. بل إن الأشد غرابة هو أن أكثر الأفعال شبهًا بتصورات السينما كانت في بلاد صناع تلك السينما، تدمير المحال، والاعتداء على البقالات، وسرقة البضائع التي وصلت حد الفوضى والتخريب، لم نرها إلا في الولايات المتحدة، والأنانية التي دفعت الناس إلى الاقتتال على "ورق الحمام" وصولًا إلى قاعات المحاكم!

لم نسمع بها سوى في تلك المجتمعات، حتى إن الإحصائيات أشارت إلى أن مبيعات الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في الولايات المتحدة ازدادت بنسبة 400% خلال أيام الأزمة! السؤال المهم هو: هل تصرفات المجتمع الأمريكي تلك مبنية على التغذية المسمومة التي طالما بثتها تلك السينما في عقول أفراده؟ أم أن هذه السينما مجرد انعكاس لتصرفات ذلك المجتمع كما توقَعَتْه من طبيعته القائمة، فأسقطَتْه على حالات الأوبئة العامة؟

الواجب الأخلاقي للعمل السينمائي يحتّم على صُنّاعه تصحيح الظواهر السلبية المنتشرة، أو على الأقل توصيفها كحالة تحتاج إلى علاج، أو تعميم أفكار إيجابية ترشد المجتمعات إلى التصرف الصحيح.

لكن السؤال الأهم: لماذا يروّج أرباب الشاشات العملاقة لتجربة سيئة وسلبية كهذه؟ سواء كانت موجودة أصلًا، أم مبتكرة من قبلهم؟ الواجب الأخلاقي للعمل السينمائي يحتّم على صُنّاعه تصحيح الظواهر السلبية المنتشرة، أو على الأقل توصيفها كحالة تحتاج إلى علاج، أو تعميم أفكار إيجابية ترشد المجتمعات إلى التصرف الصحيح، بتشكيل وعيه على مدى أعمال متكررة، أما الترويج لهذ الأفعال وتكرارها كرد فعل حتمي وطبيعي، ينطبق على كل حالات الكوارث العامة والأوبئة بشكل خاص، أمر مستهجن وغير مبرر!

فهل كان أرباب السينما العالمية يحاولون إعادة تهيئة الشعوب لتكون جاهزة للتصرف بهمجية وعدوانية المجتمع الأمريكي عند مواجهة كوارث مثل كورونا؟ لكن ما الهدف من وراء ذلك؟ لا نعلم تمامًا، لكن الذي نعلمه على وجه اليقين، أن هذه المحاولات قد فشلت -حتى اللحظة- في نقل التجربة السيئة إلى الوعي الجمعي العالمي، وقد أثبتت جائحة كورونا ذلك. ونتمنى أن تظل هذه الظواهر حبيسة حدود الولايات الأميركية، وشاشات العرض، وأن يتجه صناع السنيما إلى توثيق اللحظات العظيمة التي نجح العالم في صناعتها، والأحداث المفصلية التي تخطاها، بدلًا من نشر السلبية والفوضى.