بنفسج

"يحاولن الانتحار أكثر": قراءة في أسباب جندرية

الإثنين 07 فبراير

أثناء قيامي بالتحضير للدليل الإرشادي لمنع الانتحار، والذي سيكون الركيزة التي أعتمد عليها لتدريب أطباء ومهنيي أقسام الطوارئ في المستشفيات، كجزء من الاستراتيجية الوطنية للحد والوقاية من الانتحار التي أعدتها وزارة الصحة الفلسطينية، لاحظت وجود فروق جندرية في هذا السياق؛ فكان من اللافت أن النساء يقدِمن على محاولات الانتحار أكثر من الرجال، بينما يموت الرجال بالانتحار أكثر من النساء، فكيف نفهم ذلك؟

| تسلسل محتمل: الانتحار ومحاولات الانتحار

الانتحار التام هو إيذاء الشخص لنفسه إيذاءً يفضي إلى الموت عن معرفة وقصد. أما محاولة الانتحار؛ فهي عملية إيذاء الشخص لنفسه، ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى الموت. وبلغة الأرقام، فإن محاولات الانتحار تفوق بـ [10-20] ضعفًا عمليات الانتحار الفعلية. أي من بين [10-20] شخصًا يحاولون الانتحار، فإن شخصًا واحدًا فقط ينتحر فعليًا وتنتهي حياته.
 
وبالتالي، فإن أي محاولة للانتحار هي مؤشر مهم وخطير يمكن التنبؤ من خلاله بإمكانية إتمام الانتحار في المستقبل، ويجب أن ينظر إلى هذا السلوك بأهمية بالغة لدى تقييم الخطر .

قبل أن نحاول إيجاد تفسير لذلك، دعونا نشرح أولًا ما هو السلوك الانتحاري؟ وكيف يختلف الانتحار التام عن محاولة الانتحار؟ يمكننا تعريف الانتحار التام على أنه إيذاء الشخص لنفسه إيذاءً يفضي إلى الموت عن معرفة وقصد. أما محاولة الانتحار؛ فهي عملية إيذاء الشخص لنفسه، ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى الموت. وبلغة الأرقام، فإن محاولات الانتحار تفوق بـ [10-20] ضعفًا عمليات الانتحار الفعلية. أي من بين [10-20] شخصًا يحاولون الانتحار، فإن شخصًا واحدًا فقط ينتحر فعليًا وتنتهي حياته. وبالتالي، فإن أي محاولة للانتحار هي مؤشر مهم وخطير يمكن التنبؤ من خلاله بإمكانية إتمام الانتحار في المستقبل، ويجب أن ينظر إلى هذا السلوك بأهمية بالغة لدى تقييم الخطر .

أما عن الطرق التي يستخدمها الأشخاص الذين يقدمون على الانتحار، فتختلف بشكل واسع في أنحاء العالم، وهي تعتمد على الأدوات والوسائل المجتمعية السائدة؛ مثل توفر البنادق والأسلحة النارية، والمبيدات الحشرية، أو الغاز المستخدم للطهي، كما أن الغرق والشنق واستنشاق السموم هي أيضًا طرق شائعة في عدة أماكن من العالم. وفي أماكن أخرى كالهند، يُعتبر القفز بالآبار، والحرق من الطرق المتعارف عليها في الانتحار.

| محاولات الانتحار.. للنساء النصيب الأكبر

انتحار3.png

إذًا، كيف نستطيع أن نفهم الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع معدلالت محاولات الانتحار لدى النساء؟ دون أن تكلل هذه المحاولات بانتهاء الحياة "الموت"، بينما يكون الرجال أكثر صرامة في القرار، في حال تم اتخاذه فعلًا؟ ليسجل بسبب الانتحار نسب وفيات أعلى لديهم؟

بشكل عام، يُقدر أن هناك حالة وفاة واحدة بسبب الانتحار لكل عشرة محاولات انتحار بين الإناث، ومن الملاحظ زيادة عدد الإناث القاصرات المقدمات على الانتحار. وقد ترجع هذه الزيادة إلى انتشار الاكتئاب بين الإناث أكثر منه بين الرجال، كما أن النساء أكثر عرضة للاعتداء الجسدي والجنسي والتمييز المبني على النوع الاجتماعي.

إلا أن هناك في المقابل عوامل وقائية لدى النساء؛ حيث تعتبر النساء أكثر طلبًا للمساعدة من الرجال، وأكثر إقبالًا على خدمات الصحة النفسية منهم أيضًا، كما أن الأمومة، وارتباط المرأة بعائلتها وأبنائها، تلعب دورًا حاميًا في محاولاتها الانتحارية.

من الضروري عدم الاستخفاف بمحاولات النساء المقدمات على الانتحار، والانتباه بشكل خاص للنساء المكتئبات أثناء الحمل، وفي السنة الأولى بعد الولادة، والمعرضات للعنف المنزلي، واللواتي يعانين من كرب ما بعد الصدمة، واللواتي تعرضن للاعتداء الجنسي أثناء الطفولة.

فمثلًا، هناك دراسات تشير إلى أن النساء اللواتي لم يسبق لهن الحمل، يمتن بالانتحار بنسبة مضاعفة عن اللواتي اختبرن الحمل، كما أن النساء أكثر اعتمادًا على العائلة والأصدقاء من الرجال. كما يُشار إلى أن النساء البالغات يستخدمن أدوات أقل فتكًا من الرجال، إلا أن هذا لا ينطبق على القاصرات اللواتي بدأن يستخدمن أدوات فتاكة، مما يزيد من احتمالية موتهن الحقيقي.

من الضروري عدم الاستخفاف بمحاولات النساء المقدمات على الانتحار، والانتباه بشكل خاص للنساء المكتئبات أثناء الحمل، وفي السنة الأولى بعد الولادة، والمعرضات للعنف المنزلي، واللواتي يعانين من كرب ما بعد الصدمة، واللواتي تعرضن للاعتداء الجنسي أثناء الطفولة، ويقدمن على سلوكيات إيذاء النفس، واللواتي يعانين من اضطرابات تناول الطعام مثل الأنوريكسيا والبوليميا، واللواتي يعانين من تشوهات في صورة الجسم.

عالميًا، تحاول النساء الانتحار مرتين إلى ثلاثة مرات أكثر من الرجال، وتحدث محاولات الانتحار بمعدل 10 مرات أكثر من حالات الانتحار الفعلي بين النساء، وتموت الفتيات المراهقات عن طريق الانتحار أكثر من السابق، ويُعزى ذلك إلى زيادة استخدام الوسائل المميتة - الشنق بشكل أساسي - حيث يمكن أن تؤدي محاولة الانتحار على الأرجح إلى الوفاة الانتحارية.

| دراسات: الجندر عامل مساعد لقبول السلوك الانتحاري

 

يلعب الجندر دورًا في قبول السلوك الانتحاري، ففي دراسة عن السلوك الانتحاري غير المميت، كان الرجال أقل رفضًا لقرار الانتحار وقبوله من النساء. 

تشير النتائج إلى أنه ليس دور الجنس الأنثوي التقليدي في حد ذاته هو المرتبط بالانتحار، ولكن الجوانب المحددة التي تم تقييمها بشكل سلبي. قد يكون تصور الجنس على أنه بناء متعدد المتغيرات مفيدًا في فهم نظرية التنشئة الاجتماعية بين الجنسين وعلاقتها بالسلوك الانتحاري.

في حين بحثت دراسة أخرى في العلاقة بين الأفكار والسلوكيات الانتحارية وأدوار الجنسين، وفقًا لقياس Bem Sex Role Inventory، في 329 طالبًا جامعيًا وطلبة دراسات عليا. كان دور الأفراد الجنساني الذكوري أقل احتمالًا للانخراط في أفكار أو سلوكيات انتحارية جادة.

ويبدو أن الجندر يلعب دورًا في قبول السلوك الانتحاري، ففي دراسة عن السلوك الانتحاري غير المميت، كان الرجال أقل رفضًا لقرار الانتحار وقبوله من النساء. من ناحية أخرى، كان الأشخاص الذكوريين يميلون إلى النظر إلى قرار قتل النفس على أنه قرار أحمق ومتسرع، كما أبلغوا عن قدر أقل من الموافقة والقبول والتعاطف مع مثل هذا القرار.[1] في دراسة أخرى، بحثت فيما إذا كانت الأدوار التقليدية الإيجابية والسلبية للجنسين مرتبطة بالتفكير الانتحاري وإيذاء الذات بطرق مختلفة بين الشباب؛ أظهرت أن الأنوثة السلبية (الانحسار في الدور الاجتماعي والأعباء المنزلية الكبيرة) تنبأت بشكل إيجابي بإيذاء الذات وحالة التفكير الانتحاري. بينما كانت الأنوثة الإيجابية غير مرتبطة. كانت الذكورة الإيجابية مرتبطة سلبًا بالتفكير الانتحاري وإيذاء الذات، بينما كانت الذكورة السلبية (عدم مقدرة الرجل أن يكون موفرًا للرزق وحاميًا لأسرته) مرتبطة سلبًا بإيذاء الذات فقط. [2]

تشير النتائج إلى أنه ليس دور الجنس الأنثوي التقليدي في حد ذاته هو المرتبط بالانتحار، ولكن الجوانب المحددة التي تم تقييمها بشكل سلبي. قد يكون تصور الجنس على أنه بناء متعدد المتغيرات مفيدًا في فهم نظرية التنشئة الاجتماعية بين الجنسين وعلاقتها بالسلوك الانتحاري.

في حين بحثت دراسة أخرى في العلاقة بين الأفكار والسلوكيات الانتحارية وأدوار الجنسين، وفقًا لقياس Bem Sex Role Inventory، في 329 طالبًا جامعيًا وطلبة دراسات عليا. كان دور الأفراد الجنساني الذكوري أقل احتمالًا للانخراط في أفكار أو سلوكيات انتحارية جادة. من غير المحتمل أيضًا أن تكون مجموعات الأدوار الجنسانية المصنفة حسب الجنس وغير المتناقضة معرضة للخطر. ومع ذلك، أظهر الأشخاص الذين تم تحديد دورهم الاجتماعي، عكس شعورهم الجندري، خطرًا كبيرًا على السلوكيات الانتحارية (رجل يشعر أنه امرأة).[3]

| بعد محاولة انتحار.. ماذا ينتظر النساء؟

الانتحار2.jpg

أما في مجتمعنا المحلي، فتشير الوقائع إلى دفع النساء لضريبة مضاعفة بعد محاولاتهن الانتحار، ففي تقرير كتبته لما رباح بعنوان "بعد محاولة فاشلة للانتحار.. ماذا ينتظرك؟ في العاشر من أيلول 2020 ورد النص التالي:

استدعت النيابةُ العامَّة في مدينة جنين فتاةً عشرينيَّة مؤخرا، ًسنسمّيها هنا دلال، لاستجوابِها بشأنِ محاولاتها المتكرّرة للانتحار. كانَ هذا الاستدعاء بعد مرورِ ثلاثةِ شهورٍ من آخر محاولاتها لإنهاءِ حياتها، بسبب خلافاتٍ مع عائلتها. حينها، قال لها موظّفٌ في النيابة إنَّها "سليمة"، وإنَّ الأطباء النفسيّين يتوهّمون بشأنِ تشخيصها، وعليها أن تنسى "شغل النسويَّات". هذا بعدَ أنْ سخرَ منها الموظّفون متسائلين: "هاي بنت، ولّا شاب؟"، مشيرين إلى شعرِها القصير. ثمّ حذّرها أحدُهم في النيابة: "هاي آخر فرصة، المحاولة الجاي مش رح نتدخّل".

تتابعُ دلال علاجَها في عيادةِ طبيبةٍ نفسيَّة، ولم يسترعِ ذلك، ولا تقاريرها الطبيَّة، معاملةً أفضل من النيابة. ورغمَ أنَّ أسباب انتحارها متصلة بالأساس بعلاقتها مع عائلتها، حضرت والدتها معها إلى النيابة، ولم تطلب النيابة أيَّ ظروفٍ تراعي خصوصيّتها في الإجابةِ عن أسئلتهم. حصلَ ذلك أيضاً في المرّتين السابقتيْن اللتيْن وصلت فيهما دلال إلى غرفِ الطوارئ بعد محاولتها الانتحار، وحقّقت معها الشرطة الفلسطينيّة.

في التقرير ذاته أيضًا، أفادت إحدى الفتيات إلى تبرع الطبيب الذي استقبلها في قسم الطوارئ، بعد محاولتها الانتحار، بعمل فحص للحمل لها دون أي طلب منها أو إذن مسبق، ولكم أن تتخيلوا ردة فعل الأهل بعد ذلك!

تُبَلَّغ الشرطة حالاً حينَ تصلُ حالات مشابهة إلى غرفِ الطوارئ، لكنَّ دلال تنفي وجودَ أيّ مختصّ نفسيّ في أيّ مرَّة. وتقول إنَّها تشعرُ بالتهديد، أكثر من أيّ أمرٍ آخر، على أسرَّة تلك المشافي، فتواجه إمطارَها بالأسئلة التي تُعاملها كمتَّهمة (يعتبر القانون الفلسطينيّ من حاول الانتحار كمن ارتكب جنحةً)، لا كضحيَّة لحالةٍ نفسيَّة ساءَت لدرجة إيصالها هناك".

يظهر في التقرير استدعاء النيابة، الفتاة، لا بسبب جنحة ارتكبتها، بل بسبب سلوكها الذي حاولت فيه إيذاء نفسها نتيجة لظروفها النفسية الخاصة، كما يظهر "تشخيص" موظف النيابة لها بالرغم من عدم اختصاصه في الطب النفسي، وكذلك تسفيهه لآراء الأطباء النفسيين الذين يتابعون حالتها، ولم يدخر الموظفون هناك جهدًا في الاستهزاء بمظهرها، وتهديدهم لها بأنهم لن ينقذوها من الموت إن أعادت الكرة. وفي التقرير ذاته أيضًا، أفادت إحدى الفتيات إلى تبرع الطبيب الذي استقبلها في قسم الطوارئ، بعد محاولتها الانتحار، بعمل فحص للحمل لها دون أي طلب منها أو إذن مسبق، ولكم أن تتخيلوا ردة فعل الأهل بعد ذلك!

حتى في الانتحار، ومحاولة البعض إيذاء أنفسهن، وإنهاء حيواتهن ظنًا منهن أن في ذلك الخلاص والحل، تتم معاملة النساء بظلم أكبر ووصمة أشد، أكتب كلماتي هذه وكلي رجاء أن يكون لها الأثر الطيب في رفع جزء من الظلم الواقع على النساء، وإيصال ولو صرخة واحدة من أصواتهن المكتومة لمجتمع يصم أذنيه عن صرخات الضعفاء.